الحمد لله والصلاة والسلام على رَسول الله صَلى الله عليه وسلم
لماذا يخاف العلمانيون الشريعة؟ لا أقول لماذا يكرهونها، لأنّ ذلك أمر معروف مؤكد لا يحتاج إلى تساؤل، قال تعالى "ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ" محمد9، فتراهم يَجِمُون، وتدور أعينهم في مآقيها، ثم يثورون ويجمجمون في وجه المسلمين: لماذا يردّدون لا إله إلا الله عالياً؟ لماذا يعلنون: نريد الشريعة؟ بل وينسَحبون من الجَمع المَبروك، إحتجاجاً على قول لا إله إلا الله، وهم، يعلم الله، حِفنةٌ لا تزيد على المئين. إنما السؤال: مِمّا يخافون؟ ما الذي في الشَريعة الإسلامية مما يخيف هؤلاء، ويجعلهم يتعالنون برفضها رفضاً قاطعاً؟
العلمانية، التي يدْعون اليها بَديلاّ عن الشّريعَة، لا تدعو إلى منظومَة قانونية تشريعية مُحددة أو قائمة، بل هي تقبل بأي مصدرٍ قانونيّ، وبقول أيٍّ من المُعتنين بالقانون، مهما كانت مَرجعيته أو ثقافته. إذن، هي لا تدعو إلى مَرجعية، بل إلى الأخذ عن كلّ من قال قولاً في شؤون الحياة ونظم الإجتماع.
والإسلام، ذو مَرجِعية مُحدّدة، ومبادئ وأحكام عامة مُدوّنة، ونظام إجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ وإقاصاديّ وتشريعيّ متكامل، يَصلح، كأوفي ما يكون الصلاح، كهيكلٍ عامٍ لتنظيم أي دولة على الأرض، مع الرحابة والسعة والمرونة التي يتمتع بها في مواجهة المستجدات، أو الإختلاف في العادات وتباين الثقافات، من خلال مفهوم "الإفتاء"، الذي شقه الحكم الشرعيّ، وشقه الآخر الواقع الحاليّ. وهو الشقٌ الذي يؤكد على قيمة المشاركة الإنسانية في صناعة الفتوى. ودعونا ننظر إلى عدد من قواعد التشريع وأدلته، ندلل بها على هذا صحة هذا القول، بالقول لا بالإدعاء.
فمفهوم الإستصحاب، يعنى فيما يعنى، بعيداً عن ألفاظ الأصول المتخصّصة، إرساء مبدأ المحافظة على ما استقر من أمور في حياة الناس دون تعديل أو تبديل، إن لم تخالف نصاً أو تُصادم عُرفاً متبعاً، وهو ما يعبر عنه بأنه "إبقاء الأمر على ما هو عليه". وفي هذا تأمين واضحٌ لما استقر من عادات تختص بها الشعوب وتتمايز عن بعضها البعض، إلا لو تعارفوا على منكرٍ تأباه الفِطر وتمُجّه الفِطَن. وهو مكملٌ لدليل "العرف"، الذي يعنى صراحة أن ما لم يكن له حكم تشريعيّ محدد، فالمرجع فيه إلى عرف الناس. ومفهوم "المصلحة المرسلة" أدلّ على هذا الأمر الذي نقول، إذ يجعل الحكم الشرعيّ خاضعاً للمبادئ العامة في الشريعة، التي لا يختلف عليها عاقلان، والتي فيها مُتسعٌ لإستيعاب التعددّ في الرأي والنظرِ والإجتهاد. ثم مفهوم "الإستحسان"، الذي أسماه البعض "القياس الخفيّ"، والذي، مرة أخرى، بعيداً عن ألفاظ الأصول المتخصّصة، يعنى الرجوع إلى قواعد شرعية قد لا يظهر لباديَ الرأي وجه ملاءمتها. وفي هذا براحٌ وسعة تعتمد على قوة فهم الفقيه، أو القانونيّ إن شئت، في تحقيق مقصد الشارع، والذي لا يختلف عليه عاقلان. وغير ذلك كثيرٌ مما لا يتسع له هذا الحَيز، وإنما أردنا أن نؤكد على أنّ التشريع الإسلاميّ قادرٌ على تسيير أمور البلاد والعباد دون إجحافٍ أو تحَجرٍ.
فالإسلام إذن، ليس أحاديّ النظر، ولا أحاديّ الوجهة، بل فيه متسع للإجتهاد البشريّ في الشق الأول، الذي هو استنباط الحكم الشرعيّ فيما ليس فيه نصٌّ محددٌ، وهو الغالب الأعمّ من الشريعة، و في كامل شقه الثاني، المتعلق بتحديد الواقع، واختيار ما يَصلُح له من حُكمٍ، أو إن شئت، من قانون.
فإذا فهمنا هذا الذي قدّمنا، بقي السؤال الذي سألنا حائراً دون إجابة، لماذا إذن يخاف العِلمانيون الشريعة؟ هم لا يتقيدون بمصدرٍ معين، بل يأخذون من كلِ بشر، فلما لا يعتبرون الشريعة جزء من الإجتهادات البشرية، ويقبلونها من هذا المنظور اللاديني؟ لماذا يقبلون كلّ مصدرٍ إلا إياها؟ ما الفارق بين الشريعة وبين غيرها عند من يقبل التشريع من أي احدٍ، حتى لو كان يحي الجمل، الذي يطلقون عليه "الفقيه الدستورى!!"؟ فإن هذا النظر يوفّر الكثير من المُواجهات والصِراعات، التي لا داعيَ لها، والتي تحركها أجنداتٍ صليبية صهيونية، تسعى لعدم الإستقرار في بلادنا من خلفية المصالح المادية، لا حفاظاً على ايديولوجية محددة، والدليل صداقتهم وتحالفهم مع دولٍ أخرى تعلن الشريعة إسماً وتحاربها حقيقة.
مَنْ مِن هؤلاء العلمانيين، يخشى أن تمنعَه الشريعة من الزنا؟ مَنْ منهم يخاف أن يُحجَبَ عنه الكأسَ والشراب، ويُحرم من مُخادنة المَحارم من الفتيات الكِعاب؟ من منهم ستمنعه الشريعة من السطو على المتاجر والبنوك ليلاً، والنشل في الحافلات نهاراً؟ من منهم قطّاع طُرقٍ، يَخشون حدّ الحرابة؟ كم منهم ينتوى الإعلان عن رِدته عن الإسلام عَلناً، وفي النفاق والزندقة متسعٌ لمن أراد؟
إن من أراد الشرب والسكر والعهر، في ظل الشريعة، فليفعل في بيته، غير مُتعالِنٍ. ومن أراد أن يزني منهم، فليزني في بيته فرداً ولا يزني جماعة! ومن أراد أن يسطو على حقوق الناس وأموالهم، فليفعل على مسؤليته، وليُتقن ما يفعل، وإلا فقدَ كفه، جزاءاً وفاقاً. الأمر في الشريعة، هو حماية الغالبية العظمى، ممن لا يسكر ولا يزني ولا يسرق ولا يقتل، ولا يسعى في الأرض فساداً وحرابة. وعدم تطبيق الشريعة إفتئات على حق هذه الغالبية في الطهر والعفاف، وفرض رأي الأقلية، التي تحب أن تشيع الفاحشة في جوانب المجتمع، ليتسنى لهم فعلها دون خجلٍ أو غربة أو إستخفاء.
ثم، أين في دعوات العلمانيين ما يختص بنظامٍ إقتصاديّ محددٍ، ثبتت جدواه في علاج الفقر والجهل والتخلف، الذي عانينا منه،ولا نزال، عقوداُ عديدة، باسم العلمانية ومحاربة الشريعة؟
لعل أحداُ من العلمانيين، أن يتلقف مقالي هذا، فيعرضُ وجهة نظرهم، ويدلي بجوابهم، فنحن لا نحجر على رأي ولا نصادر قولاً، إلا ما كان فيه استهزاءٌ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: