لا شك أن القرارات التي صدرت من الرئاسة المصرية، بإقالة رؤوس الأفاعي الطنطاوى وعنان، وإلغاء الإعلان الدستورىّ العسكريّ، هي قرارتٌ ستنعكس إيجاباً على الوضع العام في مصر، لا ينكر ذلك إلا كاره للحق، جاحد له، فالعدل والإنصاف يحتّم علينا أن نقر بالحق، حتى إن جاء من مخالفينا، بل، خاصة إن جاء من مخالفينا، خاصة ونحن كنا نطالب بهذا الأمر منذ شهور، "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ"المائدة8. ويعلم الله نحن لا نعارض الإخوان كرهاً في أشخاصهم، بل لما نراهُ من مُخالفات شَرعية جسيمة، وإن إعطاء كلّ ذي حقٍ حقه هو من شيمِ الكرماء وخُلل المسلمين.
كما نشهد الله أنّ تأييدنا لهذه القرارات لا يعنى موافقتنا على مخالفات الإخوان العقدية أو الحركية، والتي لا نعتقد أنها تغيّرت أو تبدّلت، فما نظن إلا أنّ محمد مرسى قد واتته الشجاعة لإتخاذ هذه القرارات إلا بعد أن انفصل عن الإخوان، وخفّت جرعة التخاذلية الإخوانية في دمه. إن البعد عن دوائر إتخاذ القرار في الإخوان هو غنيمة لأيّ قياديّ يريد أن يتخذ قراراً صائباً، وهذا ما رأيناه على أرض الواقع مشبقاً، وأخيراً في مثل هذه القرارات. لكن الإخوان، كعادتهم، سيتخذون هذه القرارت دليلاً على نجاح لم يحققونه على مدى ستين عاماً، كما سأبين في مقالى القادم. ستراهم يركبون موجة قرارات لم يشاركوا فيها. لكن، ليس هذا موضوعنا اليوم.
الأمر الآن، هو هل اختلفت الرؤية الإسلامية للجمهورية التي تتشكل اليوم برئاسة محمد مرسى؟ وهل هذه القرارات تؤثر على التعامل معها سلباً أو إيجاباً؟
ولقد سارعت بكتابة هذا المقال، لتقديرى أن الإسلاميين سيقعون في اضطراب وتخبطٍ جراء هذا الموقف الجديد. منهم من سيُعرض عنه بالكلية، وكأن أمراً لم يقع، ومنهم من سينسبه إلى الخداع الإخوانيّ فيرفضه ابتداءً، مع بعض بهارات من تكفير مرسى! ومنهم من سيراه فتح من الله ونصر قريب، وكأن دولة الإسلام قامت أو كادت، ومنهم من يراه في إطاره الصحيح، وهو الذي نعرضه هنا في هذا المقال.
إن الإعراض عما جرى بالكلية، وكأنه لا يعنى الإسلام والمسلمين، هو أمرٌ يدلُ على محدودية الفكر وقصر النظر، مع الأسف، والتي يتمتع بها عدد لا بأس به من المنتسبين للتيار الإسلاميّ من صغار السن، أو صغار العقل، ومن مشايخ الفيسبوك عامة. إن ما حدث، سواء كان مرسى مخلصاً فيه أو غير مخلصٍ، هو هدفٌ في حدّ ذاته، يسعى له الإسلاميون منذ ستين عاماً، أن تتحرر مصر من هيمنة العسكر، عبد الناصر وخلفائه، وأن تخرج السلطة من قادة الجيوش إلى المدنيين، أياً كان إتجاههم، فإنّ مضرة أقل من مضرة، وإن شراً أقل من شرٍ، بلا شك. وهيمنة العسكر، المشركين كذلك، هي الأسوأ في سلم السوء عند أي عاقلٍ.
ثم إنّنا لا نظن أنّ الخداع الإخوانيّ له أيّ دور في هذه القرارات. وحتى إن كان له دورٌ فأن ما فيها من خيرٍ يربو، قدراً، على ما فيها من شرٍ، فهي، بأي شكلٍ وتحت أية راية، عمل مقصود للشارع في هذا المناط، والبديل أن يقال أنّ بقاء العسكر والإعلان الدستورى العسكري أفضل لمستقبل الإسلام، وهو خَطَل لا يستدعى حتى المناقشة، إذ الخلاص منهما، هو خطوة مشتركة بين الإسلاميين وأي قوى وطنية علمانية. أما عن تكفير محمد مرسى أو غيره، فهو أمر شرعيّ لا أعتقد أن له دخلٌ بقرارات تصدرها الرئاسة، إلا إن كانت قرارات خاصة بقضايا التوحيد مباشرة، سلباً أو إيجاباً. وأمر التكفير هو أمرٌ لا نرى أنه من الواجبات المفروضة على المسلم تجاه كلّ من يتعرض له في الحياة العامة أو الخاصة، إلا إن برزت الحاجة وانتصب الداعي لذلك، وروعيت الشروط والموانع المعتبرة بطريق العلماء القادرين علي إجراء الأحكام. لكنّ رويبضات العصر، كما في كلّ عصر، راحوا يتخذون من تكفير كل من هب ودبّ، وكأنهم يمارسون لعبة رياضية على الإكس بوكس!
ثم أولئك الذين يرون هذه القرارات وكأنها نصر من الله، وإقامةً لدولة الإسلام، نقول رويداً فما هكذا تورد الأبل. إن إقالة هؤلاء الفسدة الفسقة من العسكر، وإنهاء سيطرتهم على السلطة في مصر ليست بالضرورة إقامة للتوحيد، أو إعلاء لكلمة الله أو تحكيم لشرعه، وإن كانت خطوة لازمة لذلك. لكن يبقى أنّ التوحيد هو إعلان طاعة الله في كلّ أمره ونهيه، والخضوع لشرعه، بلا شراكة من شرعٍ مخالفٍ. وهذا لم يتحقق بتلك القرارات. إن إنتصار الإسلام في مصر لن يتحقق إلا بأن يكون الدستور معبراً بصراحة وبلا غموضٍ أو مواربة عن أن أحكام الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وحدها، بلا منازع. وهو أمرٌ لا يزال محل نزاعٍ ومماطلة من الإخوان، بل ومن محمد مرسى نفسه، كما عبّر في بعض لقاءاته من قبل على التلفاز. يبقى على محمد مرسى أن يخرج على الناس بأن يصرّح بتراجعه عما قال، وأن لا يخشى فيالله لومة لائمٍ، فإن الله قد نصره فى عدة مواطن بالفعل، وقد أتى بما لم يكن أحدٌ يتصور أن يقدر عليه، وهو تنحية رؤوس الأفعى الطنطاوى وعنان. فالتعلل إذن بأن الوقت ليس مناسباً أو بأن الدولة "العميقة" كما ابتع الإعلام لها اسماً بدلا من الدولة الفاسدة، سيكون لها ردّ فعل يجب الحذر منه، كلها تعلاّت فارغة، بدليل إزاحة أكبر رؤوس الجيش، حين خشى مرسى من إنقلاب مؤكدٍ عليه في 24 أغسطس.
إن ما نراه، نحن ممن ينتمى لأهل السنة والجماعة، وللتيار السنيّ خاصة، هو أنّ هذه خطوة في طريق الحق، كانت لازمة من أيّ إتجاه جاءت. وأنّ لمن اتخذها مزية الأداء في طريق الحق، أمّا أن يقال أنّ ذلك هو الحق قد بلغناه، فإن ذلك تشويه للحق، وتمييع للتوحيد، أو أن يقال أنّ شيئاً لم يحدث، فهذا عمى وتخبط. لكن، على الإسلاميين التفاؤل الحذر، والوقوف إلى جانب تلك الخطوة التي تخدم مقاصد الشرع إنتهاءً بلا شك.
إن جمهورية مرسى، إلى هذه اللحظة ليست جمهورية إسلامية، كما يحددها الشرع ويراها المولى سبحانه، بل هي لا تزال، محكومة بخليطٍ من العلمانيين ومن المنتمين للتيار الإسلاميّ ممن أمرهم مُخلطٌ عقدياً، ومُضطرب حركياً.
وإلى أن يتبين ما بعد ذلك، ندعو الله الهداية والصلاح لمن أراد بالمسلمين خيراً.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: