حقيقة السيد (أحمد البدوي) .. و مَحَليِّاتُ المتعة العميقة
محمد رفعت الدومي - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6820
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
’ سلمني الخفين ، وقال : احفظهما لي ، وبحق بتاح ، لقد انسل بالليل إلي الشمال ، ما معني ذهابه إلي الشمال من أجل اليوبيل ؟ ‘
هذه رسالة بعث بها أحد عمال المقابر الفرعونية في ‘ الأقصر ‘ إلي أمه ، يشكو لها فيها من سخافة حارس المقبرة ، كان ذلك الحارس قد استودعه حذائه وسافر إلي الدلتا ، شمال مصر ، لحضور مهرجان ‘ تجديد شباب الفرعون رمسيس الثاني’
هناك بالتأكيد لذهاب الحارس معني ، هو فقط يعرف ، عندما انسل بالليل إلي الشمال ، ما كان يدور وراء كواليس عقله ، لكن العامل الرقيق ، كان ينظر إلي ذهابه من زاويته الخاصة ، و يفكر فيه علي ضوء اهتماماته هو الشخصية ..
و إن تهافت الجنوبيين المعاصرين علي الذهاب الموسميِّ إلي يوبيلات الدلتا الصوفية ، تكريماً لذكري ميلاد السيد ‘ أحمد البدوي ‘ ، مرتين في العام أحياناً ، و ميلاد السيد ‘ إبراهيم الدسوقي ‘ ، و أساليبهم في الحديث بعد العودة من هناك عن ألوان الطعام ، و ألوان البهجة ، و الأهم ، ألوان نساء الدلتا و جمالهن الأخاذ - بالنسبة إلي نساء الجنوب طبعاً - ، وعطورهنَّ الجارحة ، وسهولتهنَّ ، وهي لا تعني بالضرورة انحلالهنَّ بقدر ما تعني ثقافتهنَّ المنفتحة علي تبادل أطراف الحديث مع الغرباء ببساطة ، كل هذا يدفعني إلي الظنِّ المستدير بأن البواعث وراء الكواليس واحدة
و للسيد ‘ أحمد البدوي ‘ ، بشكل خاص ، حضور فادح في ذاكرة كل أهل الجنوب ، و كل أهل ‘ الدومة ‘ بشكل أكثر عمقاً ، ربما ، أو بالتأكيد الزائد عن الحد ، سبب هذا الحضور يعود بالأساس لشقيقين من أهل ‘ الدومة ‘ ، و من ‘ محاسيبه ‘ في الوقت نفسه ، هما الأخوان ‘ أحمد و محمد أبو شومان ‘ ، و لتلك ‘ الحضرة الشومانية ‘ التي كانا يقيمانها في مناسبات ‘ الدومة ‘ البسيطة ، كختان الأطفال ، أو العثور علي شئ ضائع ، و لمجرد الوفاء بالنذر أحياناً ، وتقرباً إلي الله في أغلب الأحيان ..
و حتي كتابة هذا الكلام ، لا يزال الريش يتطاير من جيوب الذاكرة الكلية للـ ‘ الدومة ‘ ، فينساب في سطحها شلالٌ من العصافير لا يصدأ ، ولا يواجه إلغائه ، تكريماً لذكري هذين المرحومين ..
كتبت عنهما من قبل ، و ربما ، لإفلاس العقل ، أو لضمور الرغبة في الكتابة ، سأستعير أصابعي القديمة ، و أكرر :
يدق الأخوان ‘ أحمد و محمد أبو شومان ‘ طبلتيهما علي نحو مذعور ، لكنه حميم ، قبل سلة من الأمتار من ساحة البيت الذي استدعاهما صاحبه لإقامة الحضرة ، وهذا وحده ، في قرية من قري ثمانينيات القرن الماضي لا تعرف إلا الخواء الروحيِّ ، كان حدثاً يستحق أن تستقبل النساء وفادتهما بالزغاريد العصبية ، و تستخف بعضَ الصغار نارُ المرح الداخلي فينزعون ثيابهم ، و يصير الصخبُ ممتلئاً حتي كأنه الهدوء ، يندمج مع الهمس و الأسرار الخفية و أصداء البيوت و حفيف الأشجار في الحقول و نقيق الضفادع و خفقات أجنحة الفراشات الساهرة في ليل ‘ الدومة ‘ و انتفاضات البهائم في الحظائر تنفض الغبار و الحشرات عن جلودها ، فيشتعل الليل مثل فضيحة ، أتذكر كل هذا فينتابني الاحساس بالخجل ، و أتسائل : كيف من أجل طقس بسيط كهذا الطقس ، مجرد رجلين يدقان طبلتين ، كانت ‘ الدومة ‘ تقيم الدنيا و لا تقعدها ؟ ..
يدق الأخوان لدقيقتين طبلتيهما و قلبي ، واقفين في صدر المكان و قلبي ، ثم تهبط حدة الإيقاع تدريجياً حتي يتفتت تدريجياً إلي شكوك خافتة ، تتابع خفوتها ، ثم ، فجأة ، تتلاشي ، لتتماسك من جديد عقب انتهاء طقوس العشاء ، و تنتظم حلقات الذكر ، انتظاماً ركيكاً في البداية ، لا يلبث أن يحتشد ، و تتحول الأجساد إلي جُمَل ٍ روحية ، و يحدث دائماً ، عندما يتأكد العم ‘ محمد أبو شومان ‘ من إمساكه التام بأزمة الرجال المترنحين علي الحافة الغامضة ، و في لحظة معايرة بعناية خاصة ، أن يبدأ في ترديد العديد من الحكايات الأسطورية عن السيد ‘ أحمد البدوي ‘ الذي .. ( أبو بطن واسعة ) ، و الذي شرب ماء البحر برشفة واحدة ليعيد طفلاً غريقاً إلي أمه ، و الذي .. كان المريدون يلتقطون بيض ‘ طيور الفردوس ‘ من صومعته ، و هنا ، لكي لا أشارك في تزييف التاريخ ، يجب أن أؤكد أن العم ‘ محمد ‘ لم يقل لنا و للتاريخ ، هل كان ذلك البيض نيئاً أم مسلوقاً أم مشوياً في نار جهنم ، أو لم أفهم علي أية حال ، و لكن ذكري مشابهة ، ‘ و هزي إليك بجذع النخلة ‘ ، تدفعني إلي الاعتقاد بأنه كان نيئاً ، ليدرك الذين يفضلونه مسلوقاً أو مشوياً قيمة العمل ..
و تعبر الأساطير تباعاً من نفس ٍ إلي نفس ، خلال الفجوات الذهنية ، و تحت درع ثقيل من الاعوجاج الفكري ، دون عائق ، بل والإيمان الطليق في صحتها ، أو هكذا يظن الحمقي ، هم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد ، و هم لا يصدقون إلا ما يرون و يلمسون ، لقد اتخذوا من التعايش السلميِّ مع كل المعتقدات درعاً يحرسون به بقاءهم ، و هذا يقودني إلي حكاية طريفة ، ورائجة ، للعم ‘ محمد أبو شومان ‘ ، تعكس المشهد كاملاً ، وتشوهه تماماً كمشهد مرتجل ..
كان العم ‘ محمد ‘ ذات ليلةٍ شديدة العصافير مستغرقاً في حالته تماماً ، و كان يردد ، بنغم سكَّري :
- ساكن ‘ طنطا ‘ ، وفـ ‘ مكة ‘ صلاااااتو
و حدث أن اقتحمت حالته ، فجأة ، زوجته ، الخالة ‘ صِدِّيقة ‘ ، مذعورة ، و ألقت عليه نبأ شجار عائليٍّ كان لا يزال نشطاً حول بيوتهم ، و أضافت بلهجة تنم عن رعب حقيقي ، أن العم ‘ حلاتو ‘ كان في زيارة لأصهاره في ‘ الدومة ‘ ، و تدخَّل كطرفٍ أصيل في المعركة ، ضدهم ، عندئذ ، تحلل تعبير الرضا علي وجهه إلي غضب عارم ، و يبدو أنه لم يتمكن من الانسحاب من حالته في الوقت المناسب ، و ربما كان الغيظ ، و ربما كان الذعر من تهور العمِّ ‘ حلاتو ‘ الشهير ، هو ما جعله يصعد بالإيقاع إلي ذروة العنف ، واستأنف الإنشاد بشكل مروع ، وهو يتساءل ، بنغم عدائي :
- و ايش دخَّلو فيها حلااااااتو ؟!
تعليق حقيقيٌّ ، بشكل متعصب علي أفكارنا السابقة عن الزنادقة ، وخبث الزنادقة حيال الحياة ..
و أنا لست هنا لأحمي روح المرحومين ‘ محمد و أحمد أبو شومان ‘ ، فقد كبر ذاك الطفل الذي كانوا يتوقعون منه الطاعة ، بل الصمت ، و هو هنا ليحطم عن عمد ، و ليرسم بالكتابة الوجه الآخر للسيد ‘ أحمد البدوي ‘ من منظور تاريخي لا من منظور تاريخ الأدب الشعبي في مصر ، و هذا لا يمنع أن للشقيقين ‘ أبو شومان ‘ لديَّ أثراً يستحق التقدير ..
‘ البساط أحمدي ‘ ، هذا التعبير الشعبي الدارج هو مفتاح باب شخصية ‘ أحمد البدوي ‘ ، و لتنمية هذا التعبير تحديداً جاء الرجل إلي مصر في توقيت معتني به تماماً ..
هو ، ‘ أحمد بن علي بن يحيى ‘ ، ولد بمدينة ‘ فاس ‘ المغربية عام ‘ 596 ‘هـ ، و توفي بمدينة ‘ طنطا ‘ المصرية عام ‘ 675 ‘ هـ ، و هو ثالث أقطاب الولاية الأربعة لدى ( المتصوفين ) ، و راية طريقته حمراء ، لُقب بـ ‘ البدوي ‘ لأنه كان كعادة البدو يستر وجهه باللثام ، لُقِّب أيضاً ، للسبب نفسه ، بـ ‘ شيخ العرب ‘ ، كما لقب بـ ‘ السطوحي ‘ لأنه كان يعيش علي سطح دار الشيخ ‘ ركن الدين ‘ بمدينة ‘ طندتا ‘ ، و هي ‘ طنطا ‘ الحالية ، و عاصر من الحكام بـ’ مصر ‘ ، ‘ الملك الكامل ‘ ، و ‘ الملك العادل ‘ ، و ‘ الملك الصالح أيوب ‘ و ابنه ‘ توران شاه ‘ ، و ‘ شجر الدر ‘ ، و ‘ المعز أيبك ‘ و ابنه ‘ المنصور ‘ ، و ‘ السلطان قطز ‘ ، و ‘ الظاهر بيبرس ‘ ، و هذا معروف
ما ليس معروفاً هو لماذا أتي إلي مصر في ذلك التوقيت المعتني به تماماً ، و لماذا بعد موت ‘ صلاح الدين الأيوبي ‘ مباشرة ؟
لقد جاء الرجل ليحطم عن عمد ، و لقد كان ضالعاً في خطة شيعية متعددة الأبعاد لاستعادة ‘ مصر ‘ إلي النطاق الشيعيِّ الذي أخرجها منه ‘ صلاح الدين ‘ بانتصاره علي الدولة الفاطمية ، و لقد صُمِّمت هذه الخطة في ‘ العراق ‘ ..
من الثابت أنه حدث فى سنة ‘634 هـ ‘ أن سافر ‘ البدوى’ بصحبة أخيه الأكبر ‘ حسن ‘ إلى ‘ العراق ‘ ، و كانت في ذلك الوقت المركز الأكثر نشاطاً بين مراكز التصوف الشيعى الذى وُلِدَ في ‘ العراق ‘ علي يد ‘ معروف الكرخي ‘ مولي ‘ على بن موسى الرضى ‘ الذى كان أكبر شحصية شيعية فى عهد الخليفة ‘ المأمون ‘ ، و ‘ الكرخى ‘ كان نصرانياً ثم أسلم ، و لعل أصداء الرهبنة في تكوينه كمسيحي هي التي حرَّضت عقله علي النزوع إلي التصوف , ثم انتقل التصوف إلي ‘ المغرب ‘ فاتخذ أبعاداً أخري ، و استرده إلي ‘ العراق ‘ بحلته الجديدة وطور قواعده السيد ‘ أحمد الرفاعى ‘ ، و من هناك ، انتقل إلي ‘ مصر ‘ بواسطة ‘ أبو الفتح الواسطى ‘ ، و من بعده السيد ‘ أحمد البدوى ‘ و’ ابراهيم الدسوقى ‘ ، و هذا حفيد ‘ أبو الفتح الواسطى ‘ و ‘ أبو الحسن الشاذلى ‘ , و كل هؤلاء كان يعمل سراً لإسقاط الخلافة العباسية عن طريق استقطاب العامة إلي دين جديد ، جديد بكل معني الكلمة ، دين المتعة المجانية
و هناك ، في ‘ العراق ‘ ، تم إعداد ‘ البدوي ‘ للقيام بمهمته الإلهية هذه علي يد ‘ ابن عرب ‘ ، أكبر الحافظين لتعاليم ‘ أحمد الرفاعي ‘ في عصره
و هناك أيضاً ، زار السيد ‘ أحمد البدوي ‘ قبر ‘ الحلاج ‘ ، و ‘ الحلاج ‘ حقيقيٌّ و أحد الذين حلقوا في المطلق بأجنحة صحيحة و بلغوا الأعتاب ، تماماً ، كـ ‘ محيي الدين بن عربي ‘ ، و هو مغربيٌّ آخر كان معاصراً للسيد ‘ البدوي ‘ ، و هذين لا يتضمنهما حديثي عن ‘ البدوي ‘ ، فإن فارقاً رحباً بين شخص يتكلم عن المطلق من داخل مذهب ، و بين من بلغ المطلق بمذهبه الخاص
و الحانقون علي الشيعة يضغطون بقوة علي الجذور المسيحية لـ ‘ معروف الكرخي ‘ ، و من جانبي ، أقول :
بتحديق النظر في التشيع كمذهب ندرك علي الفور أنه كان الجرح التاريخي الذي تناسل في دمه اليهود المتحولون إلي الإسلام في كل زمان و مكان ، فرائد هذا المذهب هو ‘ عبد الله بن سبأ ‘ ، يهودي أسلم ، أو لعله ادعي الإسلام ، وصاحب فكرة إنشاء ‘ الأزهر ‘ لتدريس المذهب الشيعيِّ يهودي آخر أسلم أو ادعي الإسلام ، و هو ‘ يعقوب بن كلِّس ‘ ، و مؤسس فرقة ‘ الشيعة الإسماعيلية ‘ هو ‘ ميمون بن قداح الديصانى ‘ ، يهودي ثالث ، كما أكد ‘ السيوطي ‘ ، كان له الأثر الجلل في عرقلة مسيرة الإسلام ربما إلي الأبد ، فمن رحم هذه الفرقة ، فرقة ‘ الشيعة الإسماعيلية ‘ ، ولدت ، بالتفاعل ، عدة مجتمعات بعضها انكمش و ذاب في طيات الزمن ، و بعضها ما زال حياً ، كلها تنظر إلي الإسلام في أضواء خاصة بها ، مثل ، ‘ القرامطة ‘ الذين سرقوا ‘ الحجر الأسود ‘ و نقلوه إلي ‘ البحرين ‘ ، و ‘ الحشاشين ‘ في جبل ‘ لبنان ‘ ، رواد الاغتيالات السياسية في العالم ، و ‘ اخوان الصفا ‘ وهؤلاء إلي الماسونية أقرب ، و ‘ الدروز ‘ في ‘ لبنان ‘ و ‘ سوريا ‘ و ‘ اسرائيل ‘ ، و ‘ البهائيين ‘ ، و ‘ الأغاخانية ‘ ، و ‘ القاديانيين ‘ ، و ‘ النصيريين ‘ و إلي هؤلاء ينتسب ‘ بشار الأسد ‘ ، و ‘ العبيديين ‘ ، و هم ‘ الفاطميون ‘ ، و إلي هؤلاء ينتسب السيد ‘ أحمد البدوي ‘ ، و هنا ، يتضح أنه لا وجود لشئ اسمه الماضي ، و أن الزمن وحدة واحدة حبلي بالماضي و الحاضر و المستقبل أيضاً ..
أياً كان الأمر ، أستأنف :
بعناية تستحق التقدير ، اختار العلويون الشيعة السيد ‘ البدوي ‘ لهذه المهمة عقب إعدام رجلهم في ‘ مصر ‘ الفقيه الشاعر ‘ أبي عمارة اليمنى ‘ و أتباعه عام ‘ 569 هـ ‘ بعد اكتشاف مؤامرتهم ضد ‘ صلاح الدين الأيوبى ‘ ، و بعد موت داعيتهم ‘ أبو الفتح الواسطى’ قبل ذلك بعقود ، و كان ‘ عز الدين الصياد ‘ أحد أهم تلاميذ السيد ‘ أحمد الرفاعى ‘ ، قد سبق ‘ البدوي ‘ إلي مصر بعام واحد لاختيار المكان الذى سيبدأ ‘ البدوى ‘ منه نشر دعوته ، و أشهد أنه أحسن الاختيار ، و لهذا السبب اتجه البدوى من ‘ مكة ‘ الى ‘ طنطا ‘ مباشرة ، و قد سبقت مجئ ‘ البدوي ‘ حملة إعلامية منقطعة النظير لتضخيم ‘ كراماته ‘ ، ترهلت هذه الحملة من المبالغة إلي الإحالة الصريحة دون خجل ، فقد ادَّعي بعض المروجين للرجل أن من بين ‘ كراماته ‘ أنه يحيي الموتي
برغم كل ذلك ، منيت الخطة في النهاية بالفشل ، و لعل الشيعة قد استشعروا نذر فشلها ، لذلك ، بدأوا في اختبار خطط نائمة و أقل حرصاً لإسقاط الدولة ، مثلما فعل ‘ ابن العلقمي ‘ ، وزير الخليفة العباسي ، إذ راسل ‘ المغول ‘ سراً و تآمر معهم علي الخلافة ، وهذه رواية تاريخية لا تقبل الجدل ولا القسمة علي اثنين ..
نعم ، لقد فشل السيد ‘ أحمد البدوي ‘ في أن يستعيد دولة الفاطميين ، لصلابة عضلات الدولة المملوكية ، خاصة في عهد ‘ الظاهر بيبرس ‘ ، و هو العهد الموازي لأوج شهرة ‘ البدوي ‘ و جسامة أعداد الملتفين حوله ، لكنه ، نجح ، بالتأكيد الزائد عن الحد ، في أن يصنع ديناً موازياً للإسلام ، أصبح هذا الدين ، حتي في زمن ‘ البدوي ‘ ديناً داخل الدين وخارج سيطرة نواهيه تماماً ، كما أصبح هذا الدين ، و حتي يومنا هذا ، وهذا هو المهم ، هو الدين الشعبي في ‘ مصر ‘ ، لمرونته ، يتزاحم حوله العامة و المنحطون فكرياً و المدفوعون بالأطماع و الباحثون عن ألوان المتعة ، ليصبحوا دولة داخل الدولة ، لكن ، و هذا موطن الأسف ، داخل سيطرة الحكام في كل زمان ، بل أداة سهلة التوجيه من أدواتهم التي يدخرونها لوقت الحاجة..
لتعرف كيف حدث هذا ، لابد أن تعرف أولا أن ( مليونين ) من أصحاب الحد الأدني من المصريين و غيرهم يزورون ضريح ‘ البدوي ‘ في الأسبوع الواحد ، و لابد أن تعرف أيضاً ، أن ‘ الطريقة الأحمدية ‘ بعد موت ‘ أحمد البدوي ‘ تمددت في عدة طرق ، مثل ، ’ الشناوية الأحمدية ‘ ، ‘ المرازقة ‘ ، ‘ الشعيبية ‘ ، ‘ الزاهدية ‘ ، ‘ الجوهرية ‘ ، ‘ الفرغلية ‘ ، ‘ الإمبابية ‘ ، ‘ البيومية ‘ ، ‘ السطوحية ‘ ، ’ الحمودية ‘ ، ‘ التسقيانية ‘ ، ‘ الكناسية ‘ ، ’ المنايفة ‘ ، ’ الجعفرية الأحمدية المحمدية ‘ ، ‘ الجريرية ‘ ، و لكل طريقة من هذه الطرق ‘ شيخ طريقة ‘ يبايعه علي الولاء المطلق آلاف ينتشرون في كل شبر من أرض ‘ مصر ‘ ، لذلك ، لم يكن علي السلطة ، لتضمن ولاء كل هؤلاء ، سوي استمالة شيخهم فقط ، و هذا سهل كالماء ، فهؤلاء مشهورون باستعدادهم المطلق للتضحية حتي بأعراضهم مقابل دعوة علي وجبة من الفتة و اللحم السمين ..
و هؤلاء ، عائق جلل في طريق أي تغيير يحدث في ‘ مصر ‘ ، و أشد فداحة من المجالس المحلية ، و بكثير ، بل إن كثيرين من ‘ العمد ‘ و ‘ مشايخ ‘ القري من بين محاسيبهم ، لذلك ، يجب علي أول حاكم منتخب بعد الثورة القادمة ، لا محالة قادمة ، أن يكون قراره الأول هو حل هذه الطرق و تجريم المنخرطين فيها من قريب أو بعيد ، و إلا ، فاحتمال الثورة المضادة سيظل نشيطاً علي الدوام ، لتتأكد من هذا ، اقرأ سيرة من شئت من مشايخ الطرق الصوفية ، في أي عصر شئت ، سوف تكتشف منذ السطور الأولي أن هؤلاء كانوا و ما زالوا و سوف يكونون ، طفيليات تنمو بصوت مسموع حول شرج كل صاحب سلطة ، أو ، يكفيك ، مؤقتاً ، أن تحدق النظر في مشاهير هؤلاء أين يقفون الآن ، و في خندق من كانوا يقفون أيام ‘ يناير ‘ ، و قبلها ، و علي مر السنين..
ربما ، لهذا السبب وحده ، استراح كل الحكام ، و لا أستثني أحداً ، في كل العصور ، إلي وجود هذه الميليشيات الروحية علي هامش البلاط ، و أدركوا مدي قوة الدولة العميقة لهؤلاء الطفيليات الضارة ، كما أدركوا ، كذلك ، أنهم يستطيعون متي شاءوا إحداث خسائر فادحة لمن يحاول الوقوف بينهم و بين ألوان المتعة المجانية المتعارف عليها ، تماماً ، كما حدث في عام ‘ 721 هـ ‘ في عهد ’ الناصر محمد بن قلاوون ‘
ذلك السلطان المسكين ، استهان بقوة هؤلاء الفاحشة ، و أراد تعطيل الاحتفال بمولد ‘ البدوي ‘ دون أن يدور بباله أن الرد سيكون بتلك البشاعة ، بل بذلك التهديد الصريح لدولته من جذورها ، لقد دبر أحد المتصوفة ، و هو ‘ عبد الغفار بن نوح ‘ - كأن اسم ‘ عبد الغفار ‘ في مصر قديم إلي هذا الحد - ، و هو تلميذ ‘ أبي العباس الملثم ‘ مريد ‘ البدوي ‘ و رفيقه ، دبر ، احراق جميع الكنائس في أنحاء ‘ مصر ‘ بطريقة واحدة و توقيت واحد ، إذ أحرقت كلها في وقت صلاة الجمعة ، و من جراء ذلك ، كادت تشتعل في البلاد فتنة طائفية عارمة
المدهش ، أن عدد الكنائس التي احترقت في ذلك الوقت كان ‘ 60 ‘ كنيسة ، نفس عدد الكنائس التي قيل أنها احترقت يوم مجزرة ‘ رابعة العدوية ‘ بالضبط ، ’ 60 ‘ كنيسة ، و هذا يدفعني إلي الظن في أن هؤلاء المتصوفة يقفون وراء هذه الجريمة الأخيرة أيضاً لا الإخوان ، فهذا أسلوبهم القديم ، و تطابق العدد قرينة تستحق الاعتبار ..
و لهذا السبب الأخير أيضاً ، عملت كل الأنظمة علي تضخيم قيمة هؤلاء الأكياس البشرية المملوءة بروث البهائم و التودد إليهم ، و تشجيع نسج الأساطير حول ‘ كرامات ‘ أهل المدد ، و تكريس جهود الدولة لحراسة كرنفالات الجنس الجماعي التي تقام حول الأضرحة المسكونة بالأوهام ..
كيف كانت السلطة تشجع الخرافة ؟ ، إليك هذه القصة ..
ذات يوم من أيام العام ‘ 1735 م ‘ انتشرت في ‘ مصر ‘ من أقصاها إلي أقصاها شائعة بأن يوم البعث سيكون يوم الجمعة الموافق لـ ‘ 26 ‘ من شهر ذي الحجة ، و راح الناس يودع بعضهم بعضاً الوداع الأخير ، و يهيمون علي وجوههم في الحقول و الطرقات ، و انقضي ذلك اليوم و لم تقم الساعة و الناس مازالوا أحياء يرزقون ، هنا ، تدخلت السلطة بشائعة أخري ، و هي أن السيد ‘ أحمد البدوي ‘ و السيد ‘ ابراهيم الدسوقي ‘ و ‘ الإمام الشافعي ‘ تشفعوا للناس عند الله أن يؤجل لهم قيام القيامة ، فقبل شفاعتهم ، و لعل الشائعة الأخيرة هي ذريعة إطلاق الشائعة الأولي لا العكس
لكن ، لماذا احتشد الناس للالتفاف حول دين هؤلاء ؟ ، هذا سؤال غير متطلب أبداً ..
لقد كان السيد ‘ البدوي ‘ ، و دعاة الشيعة عامة ، أكثر واقعية من غيرهم ، إذ أدركوا أن أيسر الممرات لاستقطاب الناس إلي دعوتهم هو إضفاء ظل من المتعة علي الدين ، أو لأكون أكثر دقة ، إضفاء ظل من الدين علي المتعة الصريحة بشتي بصورها ، الطعام و الجنس خاصة ، لذلك ، كانوا يغضون البصر عن كثير من التجاوزات التي تتنافي مع تعاليم الدين الإسلامي ، هذا جعل ‘ الجبرتي ‘ يقول عن فقراء ‘ الطريقة الأحمدية ‘ :
- ‘ إن بعض زوار المولد كان هدفهم الفسوق ‘
و قال ‘ المقريزي ‘ في إطار حديث له عن هؤلاء :
- ‘ إنهم لا ينسبون إلى علم و لا ديانة و إلى الله المشتكى ‘
بل بلغ الأمر بفقراء ‘ الطريقة الأحمدية ‘ أن استباحوا لأنفسهم نهب المحال , و سرقة الناس , و أكل أموالهم بالباطل فى موسم مولد ‘ البدوي ‘ ، وبرروا هذا بأن ‘ الغربية ‘ بلاد ‘ البدوى ‘ و هم من فقرائه , فكل ما يأخذونه حلال لهم
كما انتشر تعاطى ‘ الحشيش ‘ بينهم حتى أصبح عرفاً دارجاً في حلقاتهم ، و حتي أصبح يسمي بـ ‘ حشيشة الفقراء ‘ ، بل إن هناك طريقة صوفية تتخذ من تعاطي ‘ الحشيش ‘ محوراً لها تسمي بـ ‘ الأنفاس المحمدية ‘ ، و مقرها في ‘ القليوبية ‘ ، يمارس أتباعها ، ككل المتصوفين ، الزنا الجماعي , و دعواهم أن كل رجال و نساء الطريقة إخوة يحل لهم الاختلاط و النوم في فراش واحد ، و أعترف بأني ، ذات يوم ، فكرت في الانخراط في هذه الطريقة و أخذ العهد من شيخها ، و هذه حقيقة ، و أقسم بأبي علي هذا
و أخوض في ‘ البدوي ‘ قليلاً ..
لم يكن ‘ البدوي ‘ صاحب رأي و لا صاحب حجة ، لذلك ، ادعي ‘ الجذب ‘ كوسيلة يدخرها للفرار من مناظرة قد تحدث ، و لذلك ، لم يترك لمريديه تراثاً ، إلا بعض الوصايا لتلميذه ‘ عبد العال ‘ ، و قراءة سريعة لهذه الوصايا تكفي للحكم علي أمية الرجل ، مثل :
- يا ‘ عبد العال ‘ ، إياك و حب الدنيا فإنما يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل
- يا ‘ عبد العال ‘ أشفق على اليتيم و اكس العريان و اطعم الجيعان و أكرم الغريب و الضيفان
يا سلام ع الحكم ، و كما ترون ، كلمات عادية لا تستحق أن تنسب حتي إلي ‘ نجَّار بلدي ‘
و روى ‘ الحافظ السخاوى ‘ فى كتابه ‘ الضوء اللامع ، أن ‘ ابن حيان ‘ زار ‘ البدوى ‘ مع الأمير ‘ ناصر الدين بن جنكلى ‘ يوم الجمعة , و كان الناس يأتونه أفواجا فمنهم من يقول : يا سيدى خاطرك مع بقرى , و منهم من يقول : زرعى , إلى أن حان وقت صلاة الجمعة , فنزلنا معه إلى الجامع بـ ‘ طنطا ‘ , و جلسنا فى انتظار الصلاة , فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة , و ضع ‘ أحمد ‘ رأسه فى طوقه بعدما قام قائماً و كشف عن عورته بحضرة الناس و بال على ثيابه و على حصير المسجد , و استمر و رأسه فى طوق ثيابه , و هو جالس حتى انقضت الصلاة و لم يصل ‘
كل هذا ، و العم ‘ محمد أبو شومان ‘ كان يقول لنا أن المريدين كانوا يلتقطون بيض طيور الفردوس من صومعته ، عم ‘ محمد ‘ ، ارقد في سلام ، عليك السلام ..
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
13-06-2020 / 21:17:47 غالب