المقومات المهنية للخدمة الاجتماعية – الحلقة الأولى
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7743
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تمهيد :
يعتبر الحديث عن المقومات المهنية للخدمة الإجتماعية - والأسس والركائز المهنية التى تستند إليها وتنطلق منها - من الأهمية بمكان، خاصة إذا كنا بصدد محاولة تفهم طبيعة الخدمة الاجتماعية كمهنة إنسانية وماهيتها، ودورها الهام فى الحياة الإنسانية المعاصرة، ذلك أن تحديد وبلورة ومناقشة تلك المقومات والأسس من شأنه أن يمكن القارىء من التمييز بين الخدمة الإجتماعية كمهنة وبين غيرها من الأنشطة والممارسات والأعمال التى يقوم بها بعض الأفراد أو الهيئات من أجل أداء بعض الوظائف الإنسانية والاجتماعية، وتحقيق بعض الأهداف والأغراض التى قد تتشابه أو حتى تتطابق - للوهلة الأولى - مع وظائف وأهداف الخدمة الاجتماعية.
ففى كل المجتمعات الإنسانية على تنوعها وتباينها نجد كثيرا من الأنشطة والخدمات التى يقوم بها أفراد معينين (كالدعاة الإسلاميين، ورجال الدين المسيحي، والقادة الشعبيين، والقادة السياسيين، والمصلحين..... وغيرهم )، كما أن هناك العديد من المؤسسات الدينية والخيرية التى تؤدى بعض الخدمات والجهود التى تستهدف مقابلة بعض الاحتياجات الإنسانية، ومساعدة الناس على مواجهة مشكلاتهم والصعوبات الحياتية التي يعانون منه، إلا أن تلك الخدمات لا تدخل – بطبيعة الحال - ضمن نطاق الأنشطة المهنية للخدمة الاجتماعية رغم ما بينها من تشابه وتداخل.
ومن هنا فإن الفصل الراهن يستهدف إلقاء الضوء على الصبغة المهنية التى ينبغى أن تتصف بها الممارسات و الأنشطة والمهام التى تتم فى محيط الخدمة الاجتماعية، ومدى توفر المقومات المهنية الأساسية لمهنة الخدمة الإجتماعية.
ونود بداية أن نؤكد على مجموعة من الإعتبارات التى تشكل أساسا ننطلق منه فى تناولنا لتك المقومات والركائز، وذلك على النحو التالى :
- يعد الاتجاه نحو " التخصص وتقسيم العمل " Specialization & Division Of Labor (1) بين أفراد المجتمع من أبرز خصائص التطور الإجتماعى الذى مر به المجتمع الإنسانى عبر العصور، إذ كلما تطور المجتمع الإنساني وانتقلت الحياة الاجتماعية من البساطة إلى التعقيد، كلما اذدادت درجة التخصص، وتعددت أنواع النشاط التى يتخصص فى كل نوع منها فئة معينة من أفراد المجتمع، إلى أن ظهرت الثورة الصناعية Industreal Revolution التى كان لها دوراً محورياً فى تدعيم ظاهرة التخصص تلك فى المجتمع طبقاً لمقتضيات العملية الصناعية الحديثة (2)، كما ازداد الأمر تعقيداً مع التقدم العلمى والتكنولوجى الهائل الذى أحرزته البشرية في العقود الأخيرة فظهرت ثورة المعلومات، والإتصالات والإنفجار المعرفي وظاهرة العولمة،
- وفى هذا السياق .. ظهرت العديد من المهن فى المجتمع الحديث، حيث تتخصص كل مهنة فى مجال معين من مجالات الحياة الإنسانية وتعمل على تعيين حدوده ورسم الخطوط الرئيسية لممارسته، وذلك بتحديد الشروط الواجب توافرها فيمن يمارس تلك المهنة، وكيفية إعدادهم مهنيا لتلك الممارسة، ونظرا لتعدد تلك المجالات والميادين فلقد تكاثرت المهن إلى الدرجة التى أدت فى بعض الأحيان الى ظهور نوع من التداخل والتشابك بين ممارسة بعض تلك المهن، وخاصة تلك التى تعمل وتمارس فى مجالات إنسانية متقاربة.
- أن المهن – في حقيقتها – عي عبارة عن إختراع مجتمعى Invention Societal واكب تطور المجتمع الإنسانى عبر مراحله المختلفة ، وتنشأ استجابة لاحتياجات مجتمعية ملموسة وملحة، ومشكلات تتطلب المواجهة، يعهد المجتمع إلى كل مهنة مهمة إشباع ومواجهة نوعا من تلك الإحتياجات والمشكلات، .
- أن من الخطأ تصور أن أى نشاط إنسانى Human Activity يمكن اعتباره مهنة، أوأن مصطلح " مهنة " Profession يمكن أن يطلق على كافة الأعمال التى يقوم بها الأنسان على تنوعها، فلا شك أن هناك مجموعة من الشروط التى ينبغى أن تتوافر فى أى عمل حتى يكتسب صفة " المهنية " Professionalization فنقول أن هذا العمل هو عمل مهنى، وأن الشخص الذى يقوم به ويمارسه هو شخص مهنى، وبهذا يمكن التفرقة بين " العمل المهنى "، وبين غيره من الأعمال التى يقوم بها الإنسان ( كالهوايات، والأعمال التطوعية والخيرية على سبيل المثال ).
- أن موضوع " المهن " وخصائص العمل المهنى ومقوماته أصبح – اليوم - من الموضوعات الهامة التى أولاها علماء الإجتماع المعاصرون أهمية خاصة، واهتماما متناميا، وفى مقدمة هؤلاء العلماء يأتى عالم الإجتماع الشهير " تالكوت بارسونز " حيث تمخضت تلك الدراسات عن مجموعة من المعايير التى من شأنها أن تميز بين العمل والممارسة المهنية وبين العمل غير المهنى. (3)
- أن الخدمة الإجتماعية مهنة حديثة النشأة نسبياً ( ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين )، وكان ظهورها أولاً فى المجتمعات الصناعية الغربية المتقدمة ( الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة ) استجابة للمشكلات الإجتماعية الكبرى الناجمة عن الثورة الصناعية، وما ترتب عليها من ظواهر اجتماعية كالتحضر، والهجرة المتزايدة من المناطق الريفية الى المناطق الصناعية، وارتبطت أيضاً بالسياق الاجتماعى والثقافى والاقتصادى والسياسى لتلك المجتمعات، فهى إذن لم تنشأ من فراغ ولكن تكوينها وتطورها كان مرتبطاً بالبيئة التى نشأت فيها وتأثرت بها، ثم انتقلت المهنة ضمن فعاليات الإنتشار الثقافى (4) الى المجتمعات الأخرى متقدمة كانت أم نامية، ومن بينها المجتمعات العربية.
- لقد حرصت أدبيات الخدمة الإجتماعية منذ بداية نشأتها على مناقشة الطابع المهنى للخدمة الإجتماعية، وإبراز الصبغة المهنية لها، ومن ثم فلقد تضمنت تعريفات الخدمة الإجتماعية ما يؤكد ذلك الطابع وتلك الصبغة من مثل وصفها بأنها " خدمة مهنية " أو " عمل مهنى " أو " مهنة إنسانية " أو " نشاط مهنى "........ إلى غير ذلك من العبارات والألفاظ التى تدور كلها حول جوهر واحد هو أن الأنشطة التى تمارس فى نطاق الخدمة الإجتماعية هى أنشطة مهنية مثلها فى ذلك مثل كافة المهن الأخرى التى تمارس فى المجتمع.
- وفى ضوء هذه الإعتبارات، وتأسيسا عليها، نحاول فى هذا الفصل أن نتعرض بشىء من التفصيل للصبغة المهنية للخدمة الإجتماعية، وخصائص ومكونات الممارسة المهنية فى محيط الخدمة الاجتماعية، وعلاقتها بالأصول والمبادىء المهنية بوجه عام، على أن تناولنا لهذا الموضوع سيتم من خلال مجموعة من العناصرالمتمثلة فيما يلي :
- نشأة المهن الانسانية وتطورها فى المجتمع الحديث.
- طبيعة النشاط المهنى وشروطه ومعاييره.
- محاولة تطبيق الشروط والمعايير المهنية على الخدمة الاجتماعية " الوضعية المهنية للخدمة الاجتماعية ".
- عرض وتحليل أهم المقومات المهنية للخدمة الاجتماعية.
أولاً : نشأة المهن الإنسانية كإختراع مجتمعى
يجدر بنا بداية أن ننوه إلى أن " الإحتياجات الإنسانية " Human needs و" المشكلات الفردية والإجتماعية "Individual & social problems قضيتان لازمتا الوجود الإنسانى ( الفردى والاجتماعى ) منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما دام هناك إنسان يعيش على وجه البسيطة، وإن اختلفت هذه الإحتياجات والمشكلات من حيث طبيعة نوعيتها ودرجة حدتها وما يترتب عليها وفقاً لمقتضيات الزمان والمكان.
ذلك أن من المعلوم بالضرورة ( فى محيط العلوم الاجتماعية والإنسانية ) أن الإنسان ومنذ وجد فى الكون كانت له احتياجاته الأساسية – والتى لا يستطيع العيش بدونها – سواء كانت تلك الإحتياجات بيولوجية أو نفسية أو اجتماعية أو روحية......... إلخ. ومن ثم كان على الإنسان أن يسعى دوماً – عاملاً وكادحاً ومجتهداً – لإشباع تلك الإحتياجات ضماناً لبقائه واستمرار حياته وأداءا لدوره وتحقيقاً لرسالته فى الحياة مصداقا ً لقوله عز وجل " يا آيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه " ( الانشقاق : آية 6 )، وقوله عز وجل " لقد خلقنا الإنسان فى كبد " ( البلد : آية 4)،
ومن الملاحظ أن معظم الكتابات التى تناولت مفهوم الحاجات الإنسانية وطبيعتها تدور حول أن الغاية من إشباع تلك الإحتياجات، والعلة من وراء السعى الدائم نحو الوصول إلى هذه الإشباعات إنما هو المحافظة على البقاء والإستمرار في الحياة من ناحية، وأداء الوظائف الإجتماعية المنوطة بالإنسان من ناحية أخرى، حيث عرفت الحاجات الإنسانية بأنها تلك الموارد التى يحتاجها الناس كأفراد من أجل الحياة والبقاء، ومن أجل الأداء الإجتماعى المناسب فى المجتمع.
الطبيعة الإجتماعية للإنسان :
غير أن الإنسان بمفرده لا يستطيع اأن يشبع هذه الإحتياجات معتمدا على نفسه فقط.. ومن هنا تأتى أهمية الحياة الإجتماعية التى تعد من السمات الأساسية المميزة للإنسان الذى هو كائن مدنى واجتماعى بطبيعته وفطرته، من ثم فلا يمكن تصور وجود الإنسان إلا فى وسط غيره من بنى جنسه أى فى وسط "اجتماعى " وذلك لهدف أساس وهو فى العام الأول إشباع احتياجاته الإنسانية الإساسية – التى تتسم بالتعدد والتنوع والتجدد والنسبية – والتى لا يمكن للإنسان أن يحقق الوظائف والغايات التى وجد من أجل تحقيقها بدون هذا الإشباع. (5)
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم كيف أن " المجتمع الإنسانى " هو عملية فوق عضوية أى أعلى من مستوى الإنسان نفسه، أو ليس هناك فترة فى التاريخ الإنسانى نستطيع أن نطلق عليها " الفترة الطبيعية " أى التى كان يعيش فيها الناس كأفراد متباعدين، وفترة أخرى نطلق عليها " الفترة الإجتماعية " وهى التى اضطر فيها الأفراد إلى إقامة المجتمع هرباً من الأنانية والعدوانية أو حباً فى التعاون والمشاركة كما يظن (ويقرر) ذلك بعض علماء الإجتماع، فالمجتمع الإنسانى وفقاً لهذا التصور " مخلوق " مثله مثل أى من المخلوقات الأخرى.
ولا شك أن عدم إشباع احتياجات الإنسان أو القصور أو ( النقص) فى إشباعها لأى سبب من الأسباب من شأنه أن تنتج عنه العديد من المشكلات الفردية والاجتماعية.
ومن الطبيعى أن تختلف تلك الاحتياجات والمشكلات باختلاف الأفراد والمواقف، كما أنها تختلف بالنسبة للفرد الواحد باختلاف المراحل العمرية التى يمر بها الإنسان خلال دورة الحياة، وفى الوقت ذاته تختلف الحاحات والمشكلات الإنسانية باختلاف النمط الثقافى السائد فى المجتمع وأسلوب الحياة وظروفها ونسق القيم على مستوى الجماعة والمجتمع.
ان هذا الإختلاف جعل من العسير تحديد تلك الإحتياجات والمشكلات على سبيل الحصر، حيث تعددت التصنيفات وتنوعت فى الدراسات التى عنيت بالحاجات الإنسانية، غير أن هذا لا يمنع بطبيعة الحال من الإشارة إلى أن هناك بعض الحاحات المشتركة بين البشر جميعاً يحددها البعض على النحو التالى : (6)
- حاجات الجسد : وهي التى تضمن للإنسان البقاء والراحة والاستمرار.
- حاجات القلب : الحب وتبادل المشاعر والعواطف.
- حاجات الأنا : الإحساس بالذات وكفاءة الذات والاعتماد على الذات.
- حاجات الروح : معنى الحياة خارج إطار الوجود المادى.
ولكى يتمكن الإنسان من إشباع هذه الحاجات، فلقد زوده الله تعالى بمجموعة من القوى والقدرات التى تمكنه من ذلك فأعطاه قوة إبداعية، وقدرة على الإبتكار يتم عن طريقها اكتشاف ما فى الكون من أسرار كما منحه القوة والقدرة على التغيير الهادف.
يتبــــــــــــع
الحواشي :
======
(1) يشير مفهوم "التخصص" إلى أن الإنسان يتخصص فى مهنة واحدة أو حرفة أو عمل واحد لانتاج سلعة أو خدمة ما، أما " تقسيم العمل " فهو تقسيم إنتاج السلعة أو الخدمة إلى عدد من المراحل، تسند كل مرحلة جزئية إلى عامل أو متخصص محدد، ومن ثم فان تقسيم العمل يتم داخل المهنة الواحدة، بغرض إنتاج سلعة أو خدمة واحدة.
(2) الفاروق زكى يونس "الخدمة الاجتماعية والتغير الاجتماعى"، عالم الكتب، القاهرة،القاهرة، 1970م، ص139.
(3) " نفس المرجع السابق "، ص 140.
(4) الإنتشار الثقافى Cultural Diffusion مصطلح يشير الى ذلك المظهر من التغير الثقافى الذى يتم عن طريق الإتصال الثقافى، ويشمل انتقال الوسائل الفنية والاتجاهات والأفكار ووجهات النظر من شعب إلى آخر، بغض النظر عما إذا تم ذلك عن طريق فرد واحد أو جماعة من الأفراد، وما إذا كان الإتصال مؤقت أو مستمر، وهكذا فعن طريق "الإنتشار الثقافى " يمكن لاختراع معين - ظهر فى مجتمع - ما أن ينتقل إلى مجتمع آخر، حتى يشمل البشرية كلها أو أغلبها وهذا ما حدث بالنسبة للخدمة الإجتماعية كمهنة حديثة.
(5) ابراهيم عبد الرحمن رجب واخرون : "تنظيم المجتمع – أسس نظرية وتطبيقات عملية "، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986، ص 5.
(6) الفاروق زكى يونس : مرجع سبق ذكره، ص : 8.
---------- أ.د أحمد يوسف بشير
جامعة حلوان مصر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
24-10-2021 / 11:27:04 عزة