من عجائب القران – نماذج وضاءة لجماليات الأخلاق القرآنية
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5120
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
'' تعال تأمل في هذا الجمال الزاهي والحسن الباهر ضمن هذا الانتظام والنظافة والميزان، بحيث جعل هذا الكون العظيم على صورة مهرجان في منتهى الجمال والبهجة، وعلى صورة معرض بديع في منتهى الزينة والروعة، وعلى صورة ربيع زاه تفتحت أزاهيره توا...''.
''.. فإن شئت أن تشاهد جلوة من أنواع حسن أسماء الجليل ذي الجلال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعين خيالية واسعة إلى سطح الأرض لتراها كحديقة صغيرة أمامك..............''. ( النورسي في كتابه الشعاعات )
***************
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين،
وبعــد :
الإسلام دين الأخلاق العالية، والشمائل الراقية، فهذا أمر لا مراء فيه،
ورمضان مدرسة الأخلاق والقيم، وأستاذ في تربية الضمير وإحيائه لا يشق له غبار، فهذا أيضا أمر معلوم،
والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة في كل مجال، حتى أن الله تعالى أمرنا بطاعته واتباعه في كل ما جاء به، وجعل الهداية في طاعته : { وإن تطيعوه تهتدوا }،
ولقد مدح الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بما منحه فقال فيه مالم يقله في ملك مقرب، ولا نبي مرسل، قال تعالى واصفا خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة القلم : { وإنك لعلى خلق وعظيم }، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإحسان في كل شيء : '' إن الله كتب الإحسان على كل شيء '' ( رواه مسلم )،
وفي ميدان القول والكلام مع الناس جميعا، يوجهنا القرآن الكريم إلى القول الحسن والأحسن، قال تعالى : { ... وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ...} ( البقرة : 83 )، ويقول : { قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } ( سورة الإسراء : 53 } ...هكذا بصيغة التفضيل عند الاختيار بين حسن وحسن وليس فقط بين حسن وقبيح.. وهكذا في نصوص القرآن المختلفة..
إن حرص القرآن الكريم وتأكيده المستمر على التحلي بمكارم الأخلاق ومعاليها أمر من الوضوح والثبوت بمكان بحيث لا يحتاج لأي دليل أو برهان،
مهرجان الجمال القرآني :
للجمال – حسيا كان أم معنويا - شأن في القرآن الكريم وأي شأن، فالمتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أنها لم تقتصر على وصف مظاهر الجمال بهذا الكون الجميل البديع بكل ما فيه ومن فيه، وعلى بيان جمال هذا الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، وخلقه بارئه فعدله، في أي صورة ما شاء ركبه، وعلى رصد تجليات الجمال بهذه الحياة الدنيا في كل زاوية من زواياها، أو التحسيس وإرهاف المشاعر بجمال الجنان في الحياة الآخرة..، بل إن القرآن دعا الإنسان إلى مواكبة هذا الجمال، فعلا وسلوكا، ظاهرا وباطنا، فوجدنا لفظ الجمال يأتي في القرآن صفة للفعال الحميدة المختلفة،
والناظر إلى القرآن الكريم يكتشف اقتران الجمال بالصبر، و بالصفح ، واقترن بالهجر، واقترن بسراح المرأة من عصمة الزوجية، كان هذا هو الموجز والى التفاصيل ...............
التوجيه القرآني إلى الصفح الجميل :
ومن عجائب القرآن الكريم، والقرآن كله عجائب، أن الله تعالى وجه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأخلاق، وأكرم الشمائل، وأرقى الفضائل لكون الأسوة والقدوة، فترى القرآن الكريم، يوجه الرسول ومن خلاله يوجه أمته إلى الصفح الجميل، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } ( الحجر : 85 )، فأمره بالصفح الجميل حتى عن المشركين فإن لهم موعدا يجزون فيه، تماما كما قال تعالى في نظائر ذلك : { ...فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب }، وقال : { .. فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى و كفر فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم }، و قوله تعالى : { فتول عنهم حتى حين }، وقوله تعالى : { فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون } ...وغير ذلك من الآيات،
وهكذا فالقرآن يعلمنا أن هناك " صفح "، وهناك " صفح جميل " وهو أعلى وأسمى وأرقى وأفضل، قالوا : والصفح الجميل هو صفح بلا معاتبة، والله تعالى لم يرض لرسوله بأقل من الصفح الجميل،
وهكذا فإن الصفح والعفو من أسمى الصفات التي يمكن أن يتحلى بها الانسان في تعامله وعلاقاته مع الآخرين من بني جنسه، والصفح في جوهره إنما يعني التغاضي عن إساءات الآخرين، وقد طلبه الله تبارك وتعالى من نبيّه في مواجهة المُعرضين المُكذّبين من قومه، مُبيّناً له أنّه صاحب رسالة مُهمّتها الهداية في المقام الأول، وعقاب الضّالين مرجعه لرب العالمين، والساعة آتية لا ريب فيها ولا محالة، فقال تعالى : {وما خَلَقنَا السَّمواتِ والأرضَ ومَا بَينهما إلاَّ بالحقِّ وإنّ السَّـاعةَ لآتيةٌ فاصفَحِ الصَّفـحَ الجميل} ( الحجر:85(
والصَّفحُ في حدِّ ذاتِه جَميل، وعندما يتوصف بالجمال يكون صفحاً لوجه الله تعالى، لا يجعله صاحبه حديثاً يُذكر به بين النَّاس،
التوجيه القرآني إلى الصبر الجميل :
وفي سورة المعارج : {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } ( المعارج : 5 )، أي : فاصبر - أيها الرسول - على استهزائهم واستعجالهم العذاب، صبرًا لا جزع فيه، ولا شكوى منه لغير الله، فناك صبر، وهناك " صبر جميل "، والقرآن لم يرض للنبي بأقل من الصبر الجميل وهو الصبر الذي لا شكوى معه للخلق، وقد القرآن عن نبي الله يعقوب عليه السلام : {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ( يوسف : 18 )، أي : وجاؤوا بقميصه ملطخًا بدم غير دم يوسف، ليشهد على صدقهم، فكان دليلا على كذبهم، لأن القميص لم يُمَزَّقْ، فقال لهم أبوهم يعقوب عليه السلام : ما الأمر كما تقولون، بل زيَّنت لكم أنفسكم الأمَّارة بالسوء أمرًا قبيحًا في يوسف، فرأيتموه حسنًا وفعلتموه، فصبري صبر جميل لا شكوى معه لأحد من الخلق، وأستعين بالله على احتمال ما تصفون من الكذب، لا على حولي وقوتي، وقال يعقوب أيضا : {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }يوسف86 )، أي : قال يعقوب مجيبًا لهم : لا أظهر همِّي وحزني إلا لله وحده، فهو كاشف الضرِّ والبلاء، وأعلم من رحمة الله وفرجه ما لا تعلمونه.
وإذا كان الصبرَ من أعظم الصفات التي تزداد بها النفس جمالاً وكمالاً، فإن الصبر الجميل هو الذي تزدان النفس فيه باليقين والثقة، وتمتلئ بالأمل، ويغمرها بالرجاء في الله، وتكون بمنأى عن الجزع والسخط على القضاء، ولقد ذكر الصبر الجميل في القرآن الكريم في ثلاث مواضع : اثنان منها على سبيل الخبر في سورة يوسف، والثالث جاء بصيغة الأمر في سورة المعارج،
فالموضع الأول في سورة يوسف جاء ذكر الصبر الجميل على لسان يعقوب عليه السلام، وقد جاءه أبناؤه يخبرونه بأنّ يوسف أكله الذئب، وارادوا ان يبرهنوا على قولهم فجاءوا بدمٍّ كذب على قميصه، وبرغم الفاجعة الرهيبة على قلب الأب المؤمن واجه الأمر بأناة بالغة، وثقة عظيمة، جعلته يحسّ أنّ الأمر على غير ما صوّر أبناؤه، وتذرّع بالصبر الجميل، حيث يقول تعالى على لسانه : {قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون} (يوسف :18).
والموضع الثاني في سورة يوسف جاء ذكر الصبر على لسان يعقوب أيضاً، عندما جاءه نبأ احتجاز ابنه الثاني في سجن العزيز بمصر، وبرُغم تتابع المحنة، وعمقها في وجدان الشيخ الرسول، لكن مايزال للصبر الجميل الغلبة على مشاعره، فقال : {بل سوّلت لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنّه هو العليم الحكيم} (يوسف:83}،
أما الموضع الثالث الذي ذكر فيه الصبر الجميل في القرآن الكريم، فقد جاء بصيغة الأمر في سورة المعارج في قول الله تعالى : {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6} وَنَرَاهُ قَرِيباً{7}( المعارج )
التوجيه القرآني إلى الهجر الجميل :
قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } ( المزمل : 10 )، أي : واصبر على ما يقوله المشركون فيك وفي دينك، وخالفهم في أفعالهم الباطلة، مع الإعراض عنهم، وترك الانتقام منهم،
وهذا يعني أن هناك " هجر "، وهناك " هجر جميل "، ولم يرض القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرسوله بأقل من الهجر الجميل، وهو الهجر الذي لا إيذاء معه،
لقد أساء المشركون إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كثيرا، وآذوه كثيرا، ومع ذلك أمر الله في معاملتهم بالهجر مع الصبر، والهجر قد يتنافى مع مُهمّة الدعاة وأصحاب الرسالات الكبرى، لكن الهجر الذي أمر الله به نبيّه الهجر الجميل الذي يُشعر المهجور بسوء تصرّفه، وضلال سعيه مع استبقاء البرّ به والودّ له، فقال تعالي :{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} (المزمل:10) .
التوجيه القرآني إلى السراح الجميل :
قال تعالى موجها الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ( الأحزاب : 28 )، أي أن في هذا توجيه كريم للرسول صلى الله عليه وسلم يتعلق بالعلاقات الزوجية، والمعنى : يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك، يطلبن منك زيادة النفقة : إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا، وأفارقكنَّ – فراقا جميلا - دون ضرر أو إيذاء،
كما قال الحق تعالى في خطابه للمؤمنين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ( الأحزاب : 49 )، والمعنى : يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا عقدتم على النساء ولم تدخلوا بهن، ثم طلقتموهن مِن قبل أن تجامعوهن، فما لكم عليهن مِن عدَّة تحصونها عليهن، فأعطوهن من أموالكم متعة يتمتعن بها بحسب الوسع جبرًا لخواطرهن، وخلُّوا سبيلهن مع الستر الجميل، دون أذى أو ضرر ( التفسير الميسر )، وهذا يعني أن هناك سراح ( أي طلاق )، وسراح جميل، والله تعالى لم يرض لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا بالسراح الجميل وهو السراح الذي لا ضرر معه ولا إيذاء، وندب المؤمنين إلى ذلك أيضا،
إن سراح المرأة – أي طلاقها - بحيث تكون في حلّ من رابطة الزوجية، هو كما علمنا الإسلام أبغض الحلال إلى الله، كما في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " ( ضعفه الألباني في المشكاة وغيرها )، لكنَّه مع وقعه الأليم على النفس عندما يقترن بالجمال نحصل على ثمراته، وننأى عن سوءاته، ويَجْمُل السراح عندما تفارق المرأة بيت الزوجية من غير غبن، أو ظلم، أو قهر، أو انتقاص للحقوق، بعيداً عن البغي والعدوان.
لقد ذُكرَ السراحُ الجميل مرَّتين في مُحكم التنزيل، وكلتاهما في سورة الأحزاب، أولاهما: في تخيير النبي لزوجاته عندما سألنه التوسعة في النفقة، فقال ربُّ العالمين لنبيّه: {يا أيها النبي قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتنّ تُردنَ الحياةَ الدُّنيا وزينتَها فتَعالَين أُمتِعُكن وأسرّحكم سراحاً جميلاً} (الأحزاب:28) .
وثانيتهما: مطالبة الأزواج الذين يطلّقون الزوجات قبل الدخول، بأن يمتّعوا الزوجات، والمُتعة كسوة ملائمة لمكانة المرأة ومستواها الاجتماعي، ثم السراح الجميل دون بغي على الحقوق، وتعقب بالإساءة، فقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسّوهن فمالكم عليهن من عدّة تعتدّونها فمتِعوهُن وسرِّحوهُن سَراحَاً جَمِيلاً} (الأحزاب:49).
تعقيب :
وهكذا كما رأينا : فالصفح كخلق فاضل، جميل في ذاته، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بالدعوة إلى الصفح فقط، وإنما بين لنا أن المطلوب هو أن نأتي به على أجمل وجه ممكن، واقرأ قول الله تعالى : { فاصفح الصفح الجميل} ( سورة الحجر: 85 )،
والأمر نفسه نجده مع الصبر فهو جميل في ذاته، والمطلوب قرآنيا في الصبر أن نأتي به على أجمل وجه ممكن، قال تعالى : { فصبر جميل} ( سورة يوسف : 18 )،
والأعجب من ذلك أنه حتى عندما يجد المؤمن نفسه مضطرا لمخاصمة أو هجران، فمطلوب منه أن يكون بالحسنى وبالمعروف بما يجعله سلوكا جميلا كذلك، كما قال تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، بل حتى مع الخصوم والكفار نجد القرآن الكريم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون عليه من الهجر كما في سورة المزمل : (واهجرهم هجرا جميلا)، وكذا كان سلوكه عليه السلام مع خصومه كما جاء في قوله لعائشة : ''يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ'' ( رواه البخاري ) (1)
كلام قيم لشيخ الإسلام ابن تيمية حول ما نحن بصدده :
قاعدة في الصبر الجميل والهجر الجميل والصفح الجميل
لقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين إبن تيمية عن الصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، وما أقسام التقوى والصبر الذى عليه الناس ؟ فأجاب رحمه الله : " الحمد لله، أما بعد، فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل،
فالهجر الجميل هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا عتاب، والصبر الجميل صبر بلا شكوى، قال : يعقوب عليه الصلاة والسلام – كما حكى القرآن الكريم – { إنما اشكو بثى وحزنى إلى الله }، مع قوله فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، ويروى عن موسى عليه السلام أنه كان يقول : اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان،
ومن دعاء النبى صلى الله عليه وسلم : " اللهم إليك اشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى وهوانى على الناس، أنت رب المستضعفين وانت ربى، اللهم إلى من تكلنى، إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى، أن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، غير ان عافيتك هي أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى اشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بى سخطك، أو يحل على غضبك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك "، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الدعاء العظيم : إن كان ما يأتيني من التكذيب والإهانة ناتجاً عن شيء غير غضبك فلا أبالي، المهم ألا يكون ذلك عن غضبٍ عليَّ يا ربِّ! فكان يخاف من غضب الله، كلام عظيم من صدر منشرح بالإيمان، ليس لديه أدنى شك في موعود الله،
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقرأ في صلاة الفجر : { إنما اشكو بثى وحزنى إلى الله ...} ويبكى حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف، بخلاف الشكوى إلى المخلوق، قرىء على الإمام أحمد في مرض موته إن طاووسا كره انين المريض وقال : أنه شكوى، فما أن – أي الإمام أحمد - حتى مات، وذلك ان المشتكى طالب بلسان الحال إما إزالة ما يضره، أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } وقال صلى الله عليه وسلم : لابن عباس : إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " (2)،
وَلِهَذَا يروى أنه قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ : إنَّهُ شَكْوَى، فَمَا أَنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ، قال ابن تيمية : وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تَنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ( يوسف : 18)، وَقَالَ : {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ( يوسف : 86 ) (3)،
فوائد تتعلق بالموضوع :
- أن الله تعالى فطَرَ الخلقَ على التعلُّقِ بِمَن حَباهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بِجَمالِ الْخَلْقِ، وحُسْنِ الْخُلُقِ؛ ذلك أنَّ جَمالَ الْخَلْقِ تكميلٌ لِمَحاسِنِ الْخ ُلُق، كما قيل :
أُكْمِلْتَ خُلْقاً وَخَلْقاً مِثلَهُ حَسَناً ***وَالْخَلْقُ لِلخُلْقِ تَتْمِيمٌ وَتَكْمِيلُ! !
وقال ابنُ عبدِ ربه الأندلسي :
تَجافَى النَّومُ بَعْدَكَ عَنْ جُفُونِي ***ولكِنْ ليسَ يَجفُوها الدُّموعُ
يطيبُ ليَ السُّهادُ إذا افترقنا ~ ~ وأنتَ بهِ يطيبُ لكَ الهجوعُ
يُذَكِّرُني تَبَسُّمُكَ الأَقاحي ***ويَحكي لي تَوَرُّدَكَ الرَّبــــــــــيعُ
يطيرُ إليكَ مِن شَوْقٍ فُؤادِي ***ولكنْ لـــــيسَ تَترُكُهُ الضُّلوعُ
كأَنَّ الشَّمسَ، لمَّا غِبْتَ، غابَتْ ~ فليسَ لها على الدُّنيا طلوعُ
فما لِي عَن تَذَكُّرِكَ امْتِناعٌ ***ودُونَ لِقائكَ الحِــــــصْنُ المَنيعُ
إذا لم تستطِعْ شيئاً فـــدعهُ *** وجاوزْهُ إلى ما تستــــــــــطيعُ (4)،
- أن ثمة ملاحظة هنا جديرة بالتنويه وهي أنّ الجمال في الصبر والصفح قد يكون مألوفاً، وربما لا يثير العجب، الصبر بلا شكوى إلى الخلق، والصفح بلا معاتبة، لكن ماذا نقول في جمال الهجر، وجمال السرح، وهُما لونان من المقاطعة؟! إنّ القرآن حينما يأمر أو يندب إلى الهجر الجميل الذي لا إيذاء معه، والسراح الجميل الذي لا إضرار معه، فهو بهذا يُعطى بُعداً جديداً للسلوك الإنساني، وأنَّ الجمال مطلوب ومرغوب حتى في السلوك الذي لا يخلو من ألم ومُعاناة،
- أن القرآن الكريم كما رأينا يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين إلى أن يكون نوع السراح ( الطلاق ) مريحا لنفوس نسائه، ومما لا شك فيه أن مفارقة الرجل لنسائه ليس جميلا في حد ذاته، بل لعله يكون شديد الوقع على نفس المرأة خاصة، ومع ذلك فإن القرآن الكريم استعمل الجميل صفة للفراق، وكذلك استعمله للهجر، ولم يرد الجميل في هذين الموضعين للدلالة على الرفق وحسب، بل للدلالة على وقع هذا الرفق في نفوس الآخرين بحيث لا ينتج عن الفعل استثارة سلبية أو ضغينة أو كراهية.
الهوامش والاحالات :
=================
(1) - محمد شاكر المودني : " الجمالية في الإسلام.. من التوصيف إلى التوظيف في لفظ الجمال وحيا "، مجلة التجديد، 14 - 02 - 2011 م،المصدر : www.maghress.com/attajdid/64402
(2) – أنظر :
- تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي ( ت : 728هـ) : " الزهد والورع والعبادة "، تحقيق : حماد سلامة، محمد عويضة، مكتبة المنار – الأردن، ط1، 1407م، ص : 99،
- تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية : " العبودية "، تحقيق : محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي – بيروت، لبنان، ط7، 1426هـ - 2005م، ص 86،
(3) – شيخ الإسلام ابن تيمية : " الفتاوى الكبرى " : ج5، 182،
(4) - أبيات للشاعر الأندلسي أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم، ويكنى بأبي عمر وقيل أبي عمرو، فجده سالم مولى لهشام بن عبد الرحمن الداخل ولد بقرطبة في 10 رمضان عام 246هـ، ونشأ بها، توفي في 18 جُمادى الأولى 328 هـ، ودُفن يوم الاثنين في مقبرة بني العباس بقرطبة عن 81 عاماً.
*************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: