نفحات قرآنية ابن عباس ونماذج من العطاءات القرآنية للأمة المحمدية 3
ثمان آيات في سورة النساء ....
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5050
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحلقة الثالثة :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد :
مع الاية الرابعة من آيات سورة النساء الثمانية التي قال عنها حبر الامة، وترجمان القرآن رضي الله عنهما، هن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت : فهي آيات لم تؤت مثلها إلا أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ،
ولكن لماذا كان لتلك الآيات الثمانية هذه المكانة للأمة المحمدية ؟
يجيب " الشعراوي " على ذلك قائلا : هذه الآيات الكريمات كانت خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت، لأنها تحمي من حمق الاختيار الذي وجد في الإنسان حين لا يلتزم بمنهج الله، ولو أن الإنسان كان مسيَّراً وَمُكْرَهاً على الفعل لارتاح من هذا الاختيار، وتعب الإنسان جاء من ناحية أنه اغترّ بمزيته على سائر خلق الله، والميزة التي ميِّز الله بها الإنسان هي العَقل الذي يختار به بين البديلات، بينما سائر الأجناس كلها رضيت من الله أن تكون مسخرة مقهورة على ما جعلها له بدون اختيار، ونعرف أن الحق قال : {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ( الأحزاب : 72 )، فالإنسان قد ظلم نفسه، لأنه أرجح نفسه عند اختيار الشهوة أو اختيار مرادات منهج الله، بينما المقهورون أو المسخرون ليست عندهم هذه المسألة، وكل كائن منهم يقوم بعمله آلياً وارتاح من حمق الاختيار - فهذه الآيات طمأنت الإنسان على أنه إن حمق اختياره في شيء فالله يريد أن يتوب عليه، والله يريد أن يخفف عنه، والله يريد إن اجتنب الكبائر أن يرفع عنه السيئات ويكفرها، كل هذه مطمئنات للنفس البشرية حتى لا تأخذها مسألة اليأس من حمق الاختيار، فيوضح : أنا خالقك وأعرف أنك ضعيف لأنَّ عندك مسلكين : كل مسلك يغريك، تكليف الله بما فيه من الخير لك وما تنتظره من ثواب الله في الآخرة يُغري، وشهوة النفس العاجلة تُغري.
وما دامت المسألة قد تخلخلت بين اختيار واختيار فالضعف ينشأ؛ لذلك يوضح سبحانه : أنا أحترم هذا فيك لأنه وليد الاختيار، وأنا الذي وهبت لك هذا الاختيار،
والحق حين وهب الاختيار لهذا الجنس الذي هو سيد الأجناس كلها، يُحبُّ أن يأتي لربه راغباً محبّاً: لأن هناك فارقاً بين أن يسخَّر المسخَّر ولا يستطيع أن ينفلَت عما قدر له أن يعمله، وتلك تؤديها صفة القدرة لله، لكن لم تعط الله صفة المحبوبية ؛ لأن المحبوبية أن تكون مختاراً أن تطيع ومختاراً أن تعصي ثم تطيع، هذه صفة المحبوبية، والله يريد من الإنسان أن يثبت بطاعته صفة المحبوبية له سبحانه، فالإنسان المحب لمولاه برغم أنه مختار أن يفعل الطاعة أولا يفعلها ينحاز بالإيمان إلى جانب الطاعة.(1)
* الآية الرابعة : وهي قول الله تعالى :
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً}( النساء : 31 )، والمعنى العام للآية كما جاء في التفسير : إن تبتعدوا - أيها المؤمنون - عن كبائر الذنوب والمعاصي كالإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقَتْلِ النفس بغير الحق، ......وغير ذلك، نكفِّر عنكم ما دونها من الصغائر، وندخلكم مدخلا كريمًا، وهو الجنَّة،
تقسيم الذنوب الى كبائر وصغائر :
والناظر الى القران الكريم والمتدبر لاياته يجد ان الذنوب والمعاصي التي تقع من الانسان تنقسم الى كبائر وصغائر، وهو ما قال به جمهور أهل السنة والجماعة، وقد خالف في ذلك كثير من الأشاعرة، وزعموا أن الذنوب كلها كبائر ولا يوجد فيها صغائر، وهو خلاف قول جمهور العلماء،
ويجدر بنا قبل أن نوغل في الحديث عن بعض عطاءات الاية التي نحن بصددها ان نحدد معنى الكبائر والصغائر والفرق بينهما وذلك على النحو التالي :
تعريف الكبائر :
الكبيرة في اللغة : مأخوذة من كَبُرَ كَكَرُمَ عَظُمَ وجَسُمَ، وكل ما عظم وجسم فقد كَبُرَ، وهي نقيض صَغُرَ فقول كَبُرَ كِبرَاً وكُبْراً وكُبَار وكُبَّار وكبير والمؤنث منه كبيرة، والكبيرة : هي كل فعلة منهي عنها شرعاً لقبحها وعظيم أمرها، وجمعها كبائر (2)
ثانياً: الكبائر شرعاَ :
ورد في الشرع النص على بعض الكبائر وتحديدها، وذلك مثل قول النبيr " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ونحوه،
وقوله r " الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين. . . " (3)،
إلا أن مما يجمع عليه العلماء أن المراد من هذه الأحاديث ليس حصر الكبائر وتعريفها، ولأهميـة الضابط للكبائر اهتم العلماء ببيانه، ليتضح به ما هو داخل فيها مما ليس هو منها، وذلك لارتباط العديد من الأحكام بها، وهذه التعاريف كثيرة جداً نذكر بعضاً منها :
- قول لابن عباس : " كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة " (4)
- ما ورد عن عبد الله ابن مسعود : " ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله : {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً }( النساء : 31 )، فهو كبيرة " (5)
- قال الضحاك : " الكبائر كل موجبة أوجبت لأهلها النار وكل عمل يقام به الحد فهو من الكبائر ".
- عن ابن عباس أنه قال : " الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب "،
وهذا التعريف الأخير هو الذي ارتضاه أكثر العلماء، وعبروا عنه بنحو قولهم : " كل عمل أوجب الله تعالى فيه حداً في الدنيا أو عذاباً في الآخرة، أو لعن فاعله، أو غضب عليه أو تبرأ منه الله ورسوله، أو توعّد عليه بعدم دخول الجنة، أو عدم الإيمان، أو وصفه بالفسق أو نحوه "، فيدخل في ذلك جميع الأعمال التي وصفها الشارع بذلك (6)
تعريف الصغائر
الصغائر: جمع صغيرة وهي : ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، وقال ابن تيمية رحمه الله : " أقل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو أن الصغيرة ما دون الحدين حد الدنيا وحد الآخرة، وهو معنى قول من قال ما ليس فيها حد في الدنيا، وهو معنى قول القائل كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر، ومعنى قول القائل وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة" (7)،
وقال ابن النجار (8) رحمه الله : " والصغائر هي كل قول أو فعل محرم لا حد فيه في الدنيا ولا وعيد في الآخرة "،
* الإصرار على الصغائر :
قال أهل العلم : " والصغائر من المعاصي والذنوب ؛ قد تتحول إلى الكبائر لأسباب عدة نذكر منها :
- الإصرار والمداومة عليها.
- استصغار المعصية واحتقارها.
- الفرح بفعل المعصية الصغيرة والافتخار بها.
- فعل المعصية ثم المجاهرة بها؛ لأن المجاهر غير معافى.
- أن يكون فاعل المعصية الصغيرة عالماً يقتدى به؛ لأنه إذا ظهر أمام الناس بمعصيته كبر ذنبه.
* المعاصي تؤثر في الايمان :
إن المعاصي والذنوب عند أهل السنة والجماعة : تؤثر في الإيمان من حيث نقصه بحسب قلتها وكثرتها، لا من حيث بقاؤه وذهابه ؛ فاقتراف المعاصي بمفردها والإصرار عليها لا يخرج من الدين إن لم يقترن بها سبب من أسباب الكفر، كاستحلال المعصية، أو الاستهانة بحكمها سواء كان بالقلب، أو اللسان، أو الجوارح. (9)
• من ثمرات هذه الآية المباركة :
- أن تكفير الصغائر مشروط بترك الكبائر، بدليل قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها إذا اجتنبت الكبائر " ( رواه مسلم )،
- ودليل ذلك أيضا من كتاب الله تعالى قوله عز وجل : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }( النجم : 32 )، والمعنى : وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم, وهي الذنوب الصغار التي لا يُصِرُّ صاحبها عليها, أو يلمُّ بها العبد على وجه الندرة, فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات, يغفرها الله لهم ويسترها عليهم, إن ربك واسع المغفرة, هو أعلم بأحوالكم حين خلق أباكم آدم من تراب, وحين أنتم أجنَّة في بطون أمهاتكم, فلا تزكُّوا أنفسكم فتمدحوها وتَصِفُوها بالتقوى, هو أعلم بمن اتقى عقابه فاجتنب معاصيه من عباده ( التفسير الميسر )، وحاء في تفسير " الجلالين " : " اللمم " هو صغار الذنوب كالنظرة والقبلة واللمسة فهو استثناء منقطع والمعنى لكن اللمم يغفر باجتناب الكبائر ( تفسير الجلالين )،
- ولذلك فقد أثنى الله تعالى على الذين يجتنبون الكبائر فقال : {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ }( الشورى : 37 )، والذين يجتنبون كبائر ما نهى الله عنه، وما فَحُش وقَبُح من أنواع المعاصي، وإذا ما غضبوا على مَن أساء إليهم هم يغفرون الإساءة، ويصفحون عن عقوبة المسيء ؛ طلبًا لثواب الله تعالى وعفوه، وهذا من محاسن الأخلاق،
- وفي هذا قال الخطابي : " المراد بِاللَّمَمِ، ما ذكره الله في قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } ( النجم : 32 )، وهو المعفوُّ عنه، وقال في الآية الأخرى : {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهَونَ عنه نُكفّر عنكم سيئاتكم}، فيؤخذ من الآيتين أن اللمَم من الصغائر، وأنه يُكَفّر باجتناب الكبائر"، وهذا يعني أن اجتناب الكبائر مظِنّة لجبر ما يقع فيه المرء من اللمم،
- قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } ( ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأُخْرى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}، وقال ههنا: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال. ) .
- وفي قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ( النساء :31 )، قال الطوفي : " فيه انقسامُ السيئات إلى كبائر وصغائر، وإنَّ اجتنابَ جميع الكبائر مكفرٌ لجميع الصغائر "، وقال : " وتكفيرُ الصغائر باجتناب الكبائر مناسبٌ عرفاً وشرعاً " (10).
- قال بعضهم : ومما يُستدل به على هذا التقسيم للذنوب – أيضاً - قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ( الحجرات :7 )، فجعل المعصية رتباً ثلاثاً : كُفراً وفسوقاً - وهو الكبيرة -، وعصياناً - وهو الصغيرة -، ولو كان المعنى واحداً لكان اللفظ في الآية مكرراً، لا بمعنى مستأنفٍ، وهو خلافُ الأصل (11)،
وفي الحديث الشريف نجد قوله صلى الله عليه وسلم :" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" ( رواه مسلم في صحيحه )، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضى ذلك فانه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبى الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه ... .
- قال القرطبي في تفسيره : عند قول الله تعالى : إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ( النساء : 31)، " لما نهى تعالى في هذه السورة ( أي سورة النساء ) عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وروى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه، وبينت السنة أن المراد بـــ " تجتنبوا " ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر، والله أعلم، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة، ولا صغيرة عندنا، قال القشيري عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي، قأل القرطبي : قلت : وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي المعالي، وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم ؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واحتجوا بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه " على التوحيد ؛ وكبير الإثم الشرك، قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل : يا رسول الله، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك، فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير (12)،
- وحول الكبائر قالوا :
قال القرطبي في تفسيره : " وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ؛ وتصديقه قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشرك بالله ؛ دل عليها القرآن .
وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، والسحر، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن، وفي أحاديث خرجها الأئمة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة .
وقد اختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ؛ والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره، فالشرك أكبر ذلك كله، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك، وبعده اليأس من رحمة الله ؛ لأن فيه تكذيب القرآن ؛ إذ يقول وقوله الحق : ورحمتي وسعت كل شيء وهو يقول : لا يغفر له ؛ فقد حجر واسعا . هذا إذا كان معتقدا لذلك ؛ ولذلك قال الله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . وبعده القنوط ؛ قال الله تعالى : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل ؛ قال الله تعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . وقال تعالى : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . وبعده القتل ؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود، واللواط فيه قطع النسل، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر ؛ فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه، والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : وندخلكم مدخلا كريما قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين " مدخلا " بضم الميم، فيحتمل أن يكون مصدرا، أي إدخالا، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل ؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا، ودل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة ؛ فقلت له : وكيف ؟ قال : يقول الله عز وجل : إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين .
وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم . وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمراد بذلك من مات على الذنوب ؛ فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى ؛ إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له . وروي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا، قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر الآية، وقوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية، وقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله . وقال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يريد الله ليبين لكم ....}، { والله يريد أن يتوب عليكم ......}، { يريد الله أن يخفف عنكم .....}، { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم..... }، الآية، { إن الله لا يغفر أن يشرك به ...}، { إن الله لا يظلم مثقال ذرة ...}، { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ...}، { ما يفعل الله بعذابكم ..........}الآية (13)
- الاستغفار لاهل الكبائر :
عن ابن عمر: قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: «أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة»,
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع, أخبرني مُجَبّر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} إلى آخر الاَية, قام رجل فقال: والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء, ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} ( رواه ابن جرير )، وعن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أخبركم بأكبر الكبائر الشرك بالله " ثم قرأ {ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً}، وعقوق الوالدين. ثم قرأ {أن اشكر لي ولو الديك إلي المصير}.
روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات "، قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال : " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " ( وله شواهد من وجوه أخر ) (14)،
الهوامش والاحالات :
=============
(1) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، الشعراوي : ج4، ص ص : 2151 – 2152
(2) انظر :
- مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى ( توفى: 817هـ) : " القاموس المحيط "، تحقيق : مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط8، 1426 هـ - 2005 م، ص : 601،
- محمد بن مكرم بن على جمال الدين ابن منظور الأنصاري ( ت : 711هـ ) : " لسان العرب "، دار صادر، بيروت، ط3، 1414 هـ، ج5، ص : 3807،
- مجمع اللغة العربية : " المعجم الوسيط "،القاهرة، ط ٢، بدون تاريخ، ج ١، ص 772،
(3) وقد عرفها بعدِّ بعض الكبائر علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهم، وقد رجح هذا الاتجاه في تعريف الكبائر بعدها ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره، أنظر : - محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م، ج5، ص ص : 39 – 40،
(4) محمد بن جرير الطبري : " نفس المرجع السابق "، ج5، ص : 41،
(5) – نفس المرجع السابق، ج 5، ص : 37،
(6) – وتجدر الإشارة الى انه يدخل في الكبائر في العرف الشرعي ما يخرج به صاحبه من الملة، كالشرك بالله، الذي ورد منصوصاً عليه في أحاديث عدة، كما أن تارك الصلاة كافر عنـد كثير من السلف، ويختلف العلماء في غير الصلاة من مباني الإسلام، فمن العلماء من يكفر بترك الزكاة، ومنهم من يكفر بتركها مع الصيام والحج، أنظر في ذلك :
- انظر : شيخ الإسلام أحمد بن تيمية : " مجموع الفتاوى "، جمع وترتيب : الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه الشيخ محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، المدينة النبوية، بدون تاريخ، ١٤١٢ هـ، ج 7، ص 302، 609،
(7) - أحمد ابن تيمية : " مجموع الفتاوى "، جمع وترتيب : الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه الشيخ محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، المدينة النبوية، ١٤١٢ هـ، ج 11، ص : 650،
(8) – أنظر :
- ابن النجار الحنبلي : " شرح الكواكب "، مكتبة العبيكان، الرياض، السعودية، ج 2، ص : 388،
- سعد بن محمد ال عبد اللطيف : " التعريفات الاعتقادية "، مدار الوطن للنشر، السعودية، ط 2، 1432 هـ / 2011 م، ص : 220،
(9) - عبد الله بن عبد الحميد الاثري : " الايمان حقيقته - خوارمه - نواقضه عند اهل السنة والجماعة "، مراجعة وتقديم : عبدالرحمن بن صالح المحمود، مدار الوطن للنشر، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م،
(10) - سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي نجم الدين أبو الربيع : " الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية "، تحقيق : حسن بن عباس بن قطب، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة، 1423 – 2003م، ج2، ص : 22 - 24،
(11) - احمد ابن ادريس المصري المالكي ( 626 - 684 ) : " الفروق "، تحقيق : عمر حسن القيام، مؤسسة الرسالة، ط1، 2003م، بيروت، لبنان، ج4، ص : 1199،
(12) - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، ( ت : 671 هـ) : " الجامع لأحكام القرآن "، تحقيق : هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1423 هـ/ 2003 م،
(13) – " نفس المرجع السابق "، تفسير سورة النساء،
(14) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم "، تحقيق : سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ / 2000م، ج2، تفسير سورة النساء
****************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: