من عجائب القرآن الكريم والقرآن كله عجائب –1- الأمر بالعدل والندب إلى الاحسان والفضل في مجال المعاملات
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4959
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
- قرأت يوما قول الله تعالى في سورة النحل : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ{127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ{128} }( النحل : 126 )، وشعرت برغبة قوية في التوقف أمام هذه الآيات متأملا ومتدبرا، فوجدت بعد أن دققت النظر وأعملت الفكر أنها تمس الجانب الاجتماعي في الحياة الإنسانية في الصميم، فهي تتعلق بجانب المعاملات والتفاعلات والعلاقات بين الناس بعضهم والبعض الأخر، وتعمل على ضبط تلك المعاملات وتوجيهها الوجهة التي تحقق مصالح العباد في العاجل والآجل،
فالآية الأولى تخاطب الأمة المحمدية فيما يتعلق بموضوع القصاص من المعتدين، وهي في جوهرها تخير المؤمنين بين أمرين هم فيهما على الخيار :
- إذا أرادوا القصاص فعليهم أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، فلا زيادة ولا تجاوز عما فعله الأعداء بهم وهذا هو العدل،
- أو أن يصبروا، ولا يقتصوا ويؤثروا العفو والصبر، وهذا هو الفضل، والصبر خير لهم في الدنيا والآخرة،
وهذا يعني أن الامة في هذا الشأن على الخيار، إما أن تقتص بالعدل، وإما أن تصبر والصبر خير، وهي هنا مخيرة بين العدل والفضل، وإن كان الإسلام يغلب جانب الفضل ويرغب فيه، لما له من أثر عميق على الجماعة والمجتمع الإنساني برمته،
أما الآية الثانية : فهي تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأمره ( ولا تخيره ) بالصبر على كل حال، فالله تعالى لا يرضى لرسوله سوى معالي الأخلاق، لأنه الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة،
ولهذه الآية نظائر في القرآن الكريم يأمر فيها الحق تعالى بالعدل حتى مع المشركين، ويندب إلى الاحسان والفضل، كقوله تعالى : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ( الشورى : 40 )، وَقَوْلُهُ تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ( البقرة : 194 )، وَقَالَ تعالى : {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ( الْمَائِدَةِ : 45 ) ، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ( الْمَائِدَةِ : 45 )، ......إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا، مِنْ شَرْعِيَّةِ الْعَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الْفَضْلِ ، فالعدل أن تأخذ حقَّك، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به، والفضل أن تصبر وتعفو وتصفح وهو خير (1)،
قال الشعراوي في تفسيره : " ....إذن : الحق سبحانه، وإنْ شرع لنا الرد على الاعتداء بالمثل، إلا أن جعله صعباً من حيث التنفيذ، فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد، بحيث يكون مثله تماماً دون اعتداء، ودون زيادة في العقوبة، وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارةً إلى استحباب الانصراف عنها إلى ما هو خير منها، كما قال تعالى : {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ( النحل : 126 )، فقد جعل الله في الصبر سَعة، وجعله خيراً من رَدِّ العقوبة، ومقاساة تقدير المثلية فيها، فضلاً عما في الصبر من تأليف القلوب ونَزْع الأحقاد، كما قال الحق سبحانه : {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ( فصلت : 34 )، ففي ذلك دَفْع لشراسة ا لنفس، وسَدٌّ لمنافذ الانتقام، وقضاء على الضغائن والأحقاد، وقوله : {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} قال : الخيرية هنا من وجوه :
أولاً: في الصبر وعدم رَدِّ العقوبة بمثلها إنهاءٌ للخصومات، وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة لا تنتهي من العداوة.
ثانياً: مَنْ ظُلِم من الخلق، فصبر على ظلمهم، فقد ضمن أن الله تعالى في جواره؛ لأن الله يغار على عبده المظلوم، ويجعله في معيته وحفظه؛ لذلك قالوا: لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضنَّ عليه بالظلم (2)
وقال الشعراوي أيضا : " في الآية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل يستوي أمامه الجميع، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه، ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها، بل هَدَّأَها ودعاها إلى العفو والصفح، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم، وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توجّه إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تصرُّف خاص، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه، ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله، وصاحب منزلة عظيمة عنده، إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فقد مثَّل به الكفار في أُحُد، وشقَّتْ هند بطنه، ولاكت كبده، فشقَّ الأمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأثَّر في نفسه، وواجه هذا الموقف بعاطفتين: عاطفته الإيمانية، وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره، ووقف إلى جواره، فقال في انفعاله بهذه العاطفة: «لئن أظهرني الله عليهم لأُمثِّلنَّ بثلاثين رجلاً منهم»، ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدَّأ من رَوْعه، وعدَّل له هذه المسألة ولأمته من بعده، فقال : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. .} ( النحل : 126 )، والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنُّن على الخصم والرأفة به، فالمتحدث هو الله سبحانه، فكل حرف له معنى، فلا تأخذ الكلام على إجماله، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مراداً وأن له مطلوباً، لماذا قال الحق سبحانه : (وإنْ) ولم يستخدم (إذا) مثلاً ؟ إن عاقبتم : كأن المعنى : كان يحب ألاَّ تعاقبوا، أما (إذا) فتفيد التحقيق والتأكيد، والحق سبحانه يريد أنْ يُحنِّن القلوب، ويضع ردَّ العقوبة بمثلها في أضيق نطاق، فهذه رحمة حتى من الأعداء، هذه الرحمة تُحبِّبهم في الإسلام، وتدعوهم إليه، وبها يتحوَّل هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى الله.(3)
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وقال ابن كثير في تفسيره : " يَأْمُرُ تَعَالَى بِالْعَدْلِ فِي الِاقْتِصَاصِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ : أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إِنْ أَخَذَ مِنْكُمْ رَجُلٌ شَيْئًا، فَخُذُوا مِنْهُ مِثْلَهُ " (4)،
- أن قَوْلُهُ تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُنَالُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
- جاء في تفسير الجلالين : "{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم} عن الانتقام (لهو) أي الصبر (خير للصابرين) فكف صلى الله عليه وسلم وكفر عن يمينه " ( رواه البزار )،
- قوله تعالى : { واصبر وما صبرك إلا بالله ) أي بتوفيقه {ولا تحزن عليهم}، أي الكفار إن لم يؤمنوا لحرصك على إيمانهم، {ولا تك في ضيق مما يمكرون}، أي لا تهتم بمكرهم فأنا ناصرك عليهم ( الجلالين )، وفي التفسير الميسر : واصبر - أيها الرسول - على ما أصابك مِن أذى في الله حتى يأتيك الفرج، وما صبرك إلا بالله، فهو الذي يعينك عليه ويثبتك، ولا تحزن على مَن خالفك ولم يستجب لدعوتك، ولا تغتم مِن مكرهم وكيدهم، فإن ذلك عائد عليهم بالشر والوبال.
- أن الله سبحانه وتعالى مع الذين اتقوه بامتثال ما أمر، واجتناب ما نهى بالنصر والتأييد، فهم اتقوا الكفر والمعاصي، ومع الذين يحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته، والصبر على ذلك، فهو معهم بعونه وتوفيقه ونصره،
**************
الهوامش :
=======
(1) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم "، تحقيق : سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ / 2000م، ج4، ص 595،
(2) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج12، ص : 8289،
(3) - نفس المرجع السابق : ج12، ص : 8293،
(4) - ابن كثير، مرجع سبق ذكره، ج4، 613،
*****************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: