نفحات قرآنية ( 4 ) ابن عباس ونماذج من العطاءات القرآنية للأمة 4
ثمان آيات في سورة النساء ....
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4438
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحلقة الرابعة :
الاية الخامسة :
وأما الخامسة : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً{40}( النساء : 40 )، والمعنى : إن الله تعالى لا ينقص أحدًا من جزاء عمله مقدار ذرة، ولا يظلم أحدا يوم القيامة مقدار وزن اصغر نملة بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته، وإن تكن زنة الذرة حسنة فإنه سبحانه يزيدها ويكثرها لصاحبها، (يضاعفها) من عشر إلى أكثر من سبعمائة، ( وفي قراءة {يضعِّفها} بالتشديد )، ويتفضل عليه بالمزيد، فيعطيه من عنده مع المضاعفة ثوابًا كبيرًا، وأجرا عظيما لا يقدره أحد، وهو الجنة.
إننا أمام واحدة من آيات القرآن الخبرية، التي تحمل للناس كافة، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة أخبارا ثلاثة تزيد معرفة المؤمن بربه، وتوطد صلته به، وإن دققت النظر في هذه الآية وجدت أن هذه الأخبار الثلاثة هي بمثابة بشريات يزفها القرآن الكريم إلى هذه الأمة،
الأولى : أن الله تعالى حكم عدل، لا يظلم أحدا، ولا يظلم عنده أحد، ومهما كان العمل صغيرا أو تافها في نظر الناس، فلا ينقص من جزاء هذا العمل مثقال ذرة،
الثانية : أن الحسنة مهما صغرت فإن الله تعالى يضاعفها للمؤمن من عشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة،
الثالثة : أن الله تعالى فوق كل ذلك، يتفضل على عبده بالمزيد، وبالأجر العظيم الذي هو الجنة،
فالله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولو كان صغيرا، وتكرر هذا المعنى في القران الكريم كثيرا، وفي عدة مواضع من كتابه الكريم نذكر منها :
- {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ( يونس : 44 )، فالله تعالى لا يظلم الناس شيئًا بزيادة في سيئاتهم أو نقص من حسناتهم، ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية ومخالفة أمر الله ونهيه.
- {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }( الكهف : 49 )،
* إن الله لا يظلم مثقال ذرة :
قال " الشعراوي " رحمه الله :
- صفات الله سبحانه وتعالى ثابتة لا تتأرجح بين القوة والضعف، وصفات الله تعالى هي صفات الكمال المطلق. . ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات. . اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ( النساء: 40)، هذه الآية الكريمة. . نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ( فصلت : 46)، وقوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }( آل عمران : 182، الأنفال : 51 )، وقوله تعالى : {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } ( الحج : 10 )، وقال أيضا : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ }( ق: 29 )، نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة، «ظلام» . . أي شديد الظلم. . وقول الحق سبحانه وتعالى: «ليس بظلام» . . لا تنفي الظلم، ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، ولا تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة. . نقول انك لم تفهم المعنى. . ان الله لا يظلم أحدا. . الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد. . والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد. . والعبيد هم كل خلق الله. . فلو اصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الاعداد الهائلة. . فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل. . ولذلك فإن الآية الاولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى. . ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة.
والظلم : الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحداً فهذا يعني أنك تأخذ حقه، وحقه هو ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن يكون الظالم قوياً، لكن ماذا عن الذي يظلم إنساناً لحساب إنسان آخر؟ إنه لم ينتفع بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع، وهذا شرّ من الأول : عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله عليه السلام قال : " بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا " .
لأنه ظلم إنساناً لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئاً لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه - وهو قوة القوى - إذا أراد أن يظلم - وحاشا لله أن يظلم - فماذا يكون شكل ظلمه؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم، إذن فقوة القوى عندما تظلم فظلمها لا يُطاق، ثم لماذا يظلم؟ وماذا يريد أن يأخذ وهو من وهب؟ إنه سبحانه مستغنٍ، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له سواء؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، كلهم متساوون، فلماذا يظلم؟
إن الظلم بالنسبة لله محال عقلياً ومحال منطقياً، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة ولا أن يضاعف سيئة، فهذه لا تتأتى، وتلك لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس جميعاً، وما دام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه، إن الحق سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ( فصلت : 46 )،
فكلمة «ظلاّم» مثل قولنا : فلان «أكّال» وفلان «نوّام» وهي تختلف عن قولنا : فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن «نوام» فهذا يعني مداومته على النوم كثيراً، أي أنه إما أن يكون مبالغاً في الحدث، وإما أن يكون مكرراً للحدث، فالمبالغة - كما نعرف - تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه قوي، ومرة يكون الحدث عادياً لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ} نفي للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة، ونقول : الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيراً كثيراً، ولو كان ظالما لشمل ظلمه وعَمّ الخلق جميعا فيكون كذلك كبيراً كثيراً ولكن الله - سبحانه – يقول : {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة، أما الحسنة فيضاعفها، {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} «مثقال» : يعني ثقل ووزن، والثقل هو : مقدار جاذبية الأرض للشيء.
فعندما يكون وزن الشيء قليلاً وتُلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان منا حين ينظر إلى كلمة «مثقال» ؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان هنا «الذرة» . وما «الذرة» ؟ قال العلماء فيها : هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، أو النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سُئل عنها : أخذ شيئاً من تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم : كل واحدة من هذه اسمها «ذرة» وهو ما نسميه «الهباء»، ونحن الآن الموجودين في مكان واحد لا نرى شيئاً من الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية - أي ثقب تدخل منه أشعة الشمس - فساعة ترى ثقباً يُدخل أشعة الشمس ترى غباراً كثيراً يسبح. والمهم أنك لا تراه جارياً إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجوداً ونستنشقه، فما الذي جعلني لا أراه؟ . لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغاً فوق طوق العين أن تراه، فالذرة واحدة من هذا الغبار، واسمه «الهباء» وواحدة الهباء هي الذرة (1)
مضاعفة الحسنة :
السيئة بمثلها والحسنة تضاعف رحمة من الله :
وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} يعني: وإن يكن الوزن لحسنة يضاعفها الله، وعندما يحدثنا سبحانه عن الحسنة وأنها تُضاعف ثم لا يتكلم عن السيئة فهذا يدل على أن السيئة بمثلها، والحق قد تكلم عن المضاعفة للحسنة في كثير من الآيات منها :
- {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ( البقرة : 245 )، وذلك فيما يتعلق بالانفاق من المال في سبيل الله،
- {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 261 )، أي والله يضاعف الأجر لمن يشاء، بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام. وفضل الله واسع، وهو سبحانه عليم بمن يستحقه، مطلع على نيات عباده.
- {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ( الحديد : 11 )، أي أن المنفق في سبيل الله محتسبًا من قلبه بل، ا مَنٍّ ولا أذى، يضاعف له ربه الأجر والثواب، وله جزاء كريم، وهو الجنة؟
- {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ( الحديد: 18 )،
- {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } ( التغابن : 17 )،
* فرق بين حساب الحسنات وحساب السيئات :
يقول الحق جل جلاله : {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }الأنعام160 )، من لقي ربه يوم القيامة بحسنة من الأعمال الصالحة فله عشر حسنات أمثالها, ومن لقي ربه بسيئة فلا يعاقب إلا بمثلها, وهم لا يظلمون مثقال ذرة.
ففيه فرق بين نظام حساب الحسنات ونظام حساب السيئات، فالحسنة تضاعف لعشر أمثالها لسبعمائة ضعف، هذا هو نظام الحساب، وإرادة خالق هذا النظام تعطي كما تريد، إذا كنا نحن - كبشر - عندما توظف واحداً نقول : أنت تدخل السلم الوظيفي، وتبدأ السلم الوظيفي من أول درجاته ثم تترقي درجة بعد درجة، ثم يأتي رئيس الدولة ليعينك في درجة أعلى من ذلك بكثير، فما بالنا بحساب الرب الأعلى؟ إنه يعطي بعملية حسابية فيها زيادة فضل؛
* ويؤت من لدنه أجرا عظيما :
ولقد ختمت الآية المباركة بقوله تعالى : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}، إنها أنوار الوعد الإلهي الكريم تغمر قلوب المؤمنين، والمعنى أنه سبحانه يعطي من عنده ذلك الأجر العظيم، وهذا اسمه " محض الفضل " وكيف يسميه الله أجراً مع أنه زائد؟ لأن هذا الفضل جاء تابعا للأجر، فإذا لم يعمل الإنسان هذا العمل فإنه لا يستحق أجرا، وبالتالي فلا ينال فضلاً، وحين يضرب الله الأمثال للناس فذلك لتقريب المعاني ؛ لأن الله قاله والله صادق فيما يقول، فيعطي الحق سبحانه وتعالى مُثلاً إيناسيا في الكون، حتى لا تستبعد أن الحسنة تذهب لهذه الأضعاف المضاعفة، فيوضح لك : هذه الأرض أمامك هات حبة واحدة وضعها في الأرض تخرج لك سبع سنابل وكل سنبلة فيها مائة حبة فإذا كانت الأرض - وهي مخلوقة لله - أعطت سبعمائة ضعف، فكم يعطي من خلق الأرض؟ إنه يعطي بغير حساب، إذن فكلمة «من لدنه» هذه تعطيك الباب الواسع الذي يتناسب مع الله. فالأرض تعطيك على قدر جهدك، وعلى قدر العناصر الغذائية الموجودة فيها. . والذي عنده وبيده الخير وخلق كل الكون يوضح: إذا كان خلق من خلقي يعطي حتى الكافر، سبعمائة ضعف فالذي خلق هذا يعطي للمؤمن أجراً للحسنة بلا حدود؛ ولذلك فالإيناسات التمثيلية في الكون يتركها الله لتقرب للعقل المعنى البعيد الذي قد يقف فيه.
وسبحانه يقول : {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ونقف عند كلمة «من لدنه» . ونعرف أن فيه فرقا بين الإتيان بالناموس - وهو النظام الموضوع - والعطاء المباشر، وعندما يقول الحق: «من لدنه» فهذا يعني أن الوسائط تمتنع. ونعلم قصة سيدنا موسى عندما ذهب ليقابل العبد الصالح قال تعالى في وصف العبد الصالح: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} ( الكهف : 65 )،
وهذا يعني أن العبد الصالح قد تعلم ليس بوساطة أحد. بل من الله مباشرة، بدليل أن الذي جاء ليتعلم منه وتعلم منه ثم وقف معه في أمور جاءت على خلاف ما تجري به النواميس والعادات فكلمة «من لدنا» تعني تجاوز الحجب، والوسائط، والأنظمة، والحق سبحانه يحترم أصل عملك ويسمي عطاءه لك «أجراً» ؛ لأنه أعطى من لدنه بعدما أعطى له النصيب المقدر كأجر، وهذا الأجر موصوف بأنه عظيم؛ لأنه مناسب للمعطي (2)
- والحق سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط ؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر،
- نسمع قول الله تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ( يونس : 61 )، إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن «أصغر» هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصغر، فإن فتتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر؛، لأن كل أصغر لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق عقولكم في الابتكار،
من معاني اسم الله المؤمن :
- من اقوال العلماء في معنى " اسم الله المؤمن " أنه الذي أمَّنَ الناس ألا يظلم أحدا من خلقه، وأمَّن من آمن به من عذابه، فكل سينال ما يستحق، كما قال تعالى : {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما ً } ( النساء :40 ) (3)، وقيل : " إن أثر الاسم في سلوك العبد وتوحيده لله فيه هو يقين العبد في ربه أنه لا يظلم أحدا من خلقه، وأنه سينصر المظلوم ولو بعد حين، فيلجأ إلى الله أن يجيره من ظلم الظالمين، ويثق أن وعد الله لعباده المؤمنين كائن لا محالة، وقد كان لعائشة رضي الله عنها موقف عظيم في حادثة الإفك يدل على توحيدها لله في أسمائه الحسنى وما دل عليه اسمه المؤمن، فعند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَليْهِ، تقول عائشة رضي الله عنها : فَلمَّا قَضَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالتَهُ قَلصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلتُ لأَبِي : أَجِبْ عَنِّي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَال : وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُول لرَسُول اللهِ صلى الله عله وسلم، فَقُلتُ : لأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَال، قَالتْ : وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُول لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ : إِنِّي وَاللهِ لقَدْ عَلمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلئِنْ قُلتُ لكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللهُ يَعْلمُ إِنِّي لبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلكَ، وَلئِنِ اعْتَرَفْتُ لكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللهُ يَعْلمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لتُصَدِّقُنِّي وَاللهِ مَا أَجِدُ لي وَلكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَال : فَصَبْرٌ جَمِيل وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ ، ثُمَّ تَحَوَّلتُ عَلى فِرَاشِي، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلكِنْ وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِل فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ، فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْل البَيْتِ حَتَّى أُنْزِل عَليْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ ليَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْل الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلمَّا سُرِّي عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّل كَلمَةٍ تَكَلمَ بِهَا أَنْ قَال لي : يَا عَائِشَةُ، احمدي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ، فَقَالتْ لي أُمِّي : قُومِي إِلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلتُ : لاَ وَاللهِ، لاَ أَقُومُ إِليْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللهَ فَأَنْزَل اللهُ رضي الله عنه : إِنَّ الذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لكُم بَل هُوَ خَيْرٌ لكُمْ لكُل امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالذِي تَوَلى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لوْلا جَاؤُوا عَليْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ .. الآيات ( البخاري في المغازي، باب تعديل النساء بعضهن بعضا 2/945 2518 ) (4)
* وزن الأعمال يوم القيامة حق ثابت لا ظلم فيه على الاطلاق :
- قال تعالى : {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ( الأعراف : 8 )، ووزن أعمال الناس يوم القيامة يكون بميزان حقيقي بالعدل والقسط الذي لا ظلم فيه، فمن ثقلت موازين أعماله -لكثرة حسناته- فأولئك هم الفائزون، قال صاحب اضواء البيان : أَنَّ وَزْنَهُ لِلْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقٌّ أَيْ لَا جَوْرَ فِيهِ، وَلَا ظُلْمَ، فَلَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِ مُسِيءٍ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِ مُحْسِنٍ.(5)
- وقال تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ( الأنبياء : 47 )، ويضع الله تعالى الميزان العادل للحساب في يوم القيامة، ولا يظلم هؤلاء ولا غيرهم شيئًا، وإن كان هذا العمل قدْرَ ذرة مِن خير أو شر اعتبرت في حساب صاحبها، وكفى بالله محصيًا أعمال عباده، ومجازيًا لهم عليها.
- وقال تعالى : {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً } ( طه : 112 )، ومن يعمل صالحات الأعمال وهو مؤمن بربه, فلا يخاف ظلمًا بزيادة سيئاته, ولا هضمًا بنقص حسناته.، قال الشنقيطي : وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ الظُّلْمِ، وَالْهَضْمِ بِأَنَّ الظُّلْمَ الْمَنْعُ مِنَ الْحَقِّ كُلِّهِ. وَالْهَضْمَ: النَّقْصُ وَالْمَنْعُ مِنْ بَعْضِ الْحَقِّ. فَكُلُّ هَضْمٍ ظُلْمٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ (6)،
وَأخيرا فإن مَا ذَكَرَهُ الله - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التي نحن بصددها مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَتَى بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ : { يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } ( لقمان : 16 )، أي : يا بنيَّ اعلم أن السيئة أو الحسنة إن كانت قَدْر حبة خردل- وهي المتناهية في الصغر- في باطن جبل، أو في أي مكان في السموات أو في الأرض, فإن الله يأتي بها يوم القيامة, ويحاسِب عليها. إن الله لطيف بعباده خبير بأعمالهم، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } ( الزلزلة : 7 – 8 ) ... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وأخيرا فإننا نذكر بخلاصة ما تضمنته الآية معاني تطمئن المؤمن، وتثلج صدره، وتعظم رجاءه في كريم موعود الله تبارك وتعالى، فلقد تضمنت معاني ثلاثة يلحظ المتدبر لها تدرجا في الارتقاء، وتناميا في العطاء الإلهي الذي نسأل الله تعالى ألا يحرمنا منه :
- فالمعنى الأول : أن الظلم منفي أبدا في حق الله تعالى، فلا ظلم للعباد ولو كان العمل مثقال ذرة، فسيجدها العبد حتما ماثلة أمامه يوم العرض على الله تعالى،
- ثم يرتقي الأمر إلى المعنى الثاني : فإن كان عمل العبد مجرد حسنة صغيرة قد لايلقي لها بالا فإن الله تعالى يعدنا ووعده الحق أنه يضافها لعبده، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة ...لا يعلمها إلا علام الغيوب، ولا عجب في ذلك فلقد جاء في البيان النبوي أن العبد قد يقيه الله تعالى من النار بشق تمرة، ففي الحديث : " عَن عديِّ بن حاتمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «مَا مِنْكُم أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة» . ( مُتَّفق عَلَيْهِ )، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَل» ( متفق عليه )،
- ثم نصل إلى قمة الارتقاء، فبعد اليقين بأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وبعد اليقين بأن الله يضاف الحسنة للعبد المحسن مهما صغرت، يأتي الفيض الإلهي : ويؤت من لدنه أجرا عظيما وهو الجنة،
فاللهم احعلنا من أهل الجنة،
وإلى الحلقة الخامسة إنشاء الله،،،،،،
***************
الهوامش :
======
(1) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج 1، ص : 49
(2) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج 1، ص : 49 - 52
(3) – أنظر :
- عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي : " اشتقاق أسماء الله "، عبد رب الحسين المبارك، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1406 هـ - 1986م، ط2، ص : 222،
- محمد بن جرير الطبري ( 224 – 310هـ ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ - 2000م، ج28، ص : 54،
-- فخر الدين محمد بن عمر الخطيب الرازي : " شرح أسماء الله الحسني، وهو الكتاب المسمي لوامع البينات شرح أسماء الله تعالي الحسني "، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1984م، ص : 198،
(4) - محمود عبد الرازق الرضوانى : " دراسة متكاملة عن كل اسم من الأسماء الحسنى - المؤمن "، http://www.eltwhed.com/vb/archive/index.php/t-1295.html
(5) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1983م، ج2، ص : 8
(6) – " نفس المرجع السابق "، ج4، ص : 102
***************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: