من روائع مالك بن نبي -1- الهدف أن نعلم الناس كيف يتحضرون
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5858
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الجانب الأخلاقي هو أساس الحضارة عند مالك بن نبي :
مالك بن نبي (1) علم من أعلام أمتنا في العصر الحديث ، وهو لم ينل حقه لم ينل حقه سواء في حياته أو بعد رحيله كمفكر حل مشاكل الكثير من الأمم ، ومعظم شباب الامة لا يكاد يعرف عنه شيئا ، ورغبة منا في لفت الأنظار إلى هذا المفكر والفيلسوف وخصوصا لدى شباب الأمة الواعد فإننا نحاول في هذه السلسلة أن نبرز نماذج لبعض أفكاره المتفردة ، وكلماته ومقولاته التي تكشف الكثير مما تعانيه امتنا في واقعها المعاصر ، وترسم الطريق الأقوم لنهضة الأمة إن أرادت أن يكون لها مكان بين الأمم ،
الحضارة الإنسانية وفن الحياة الجماعية القائمة على التعارف والتعايش :
يراهن مالك بن نبي في خطه الفكري بوجه عام على الجانب الأخلاقي ، لإيمانه القوي بأن الحضارة الانسانية لا تقوم إلا عليه ، ولذلك نراه يقول في إحدى روائعه : " ليس الهدف أن نعلم الناس أن يقولوا أو يكتبوا أشياء جميلة ، وإنما الهدف أن نعلمهم فن الحياة مع زملائهم ، أعني أن نعلمهم كيف يتحضرون " (2) ،
ما يشير إليه مفكرنا الكبير هنا أمر غفلت عنه مجتمعاتنا في الواقع المعاصر ، وبخاصة نظم التعليم ، ومؤسسات التربية والاعلام ، ومؤسسات بناء الانسان ، وهو ما يتعلق بالتأسيس الأخلاقي ، والعمل الجاد والمنظم على إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية الايجابية والفاعلة ، للعيش في توافق وانسجام وعلاقات إيجابية مع الآخرين ، خاصة وأن من المقرر علما وشرعا أن الإنسان مدني بطبعه ، لا يمكنه العيش إلا في وسط اجتماعي ، يمكنه من إشباع احتياجاته ، ومواجهة ما يعترض حياته من مشكلات ومنغصات ، من خلال التعاون الايجابي المشترك مع غيره من بني جنسه ،
" لتعارفوا " غاية إنسانية في التصور الإسلامي :
والقرآن الكريم ينادي الناس جميعا قائلا : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ( الحجرات : 13 ) ، أي : يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم ، وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب ، وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا ، إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له ، إن الله عليم بالمتقين, خبير بهم ( التفسير الميسر ) ، فالتعارف والتعايش بين بني الانسان على العموم هو غاية إنسانية جادة ، ووعي انسان العصر بهذه الحقيقة وتنشئته عليها حتى تكون جزءا أساسيا من تكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي كفيل بأن يضمن لنا مواجهة العديد من القضايا والمشكلات التي أضحت تؤرق العالم كله كعدم الاعتراف بالآخر ورفضه في كثير من الأحيان ، وانعدام الحوار ، وشيوع مظاهر الاستقصاء والتمييز العنصري ،
إن هذا المصطلح القرآني " لتعارفوا " باعتباره إحدى غايات الخلق للإنسان الذي يتسم بالتنوع والتمايز والاختلاف هو – في واقع الأمر - طريق الاعتراف بالآخر ، كما أن التعارف يفرز الحوار واللقاء والسلام والأمان والعدل والأنصاف والاستقرار والاحترام المتبادل على كافة الأصعدة والمستويات ( الأفراد والجماعات ، والمجتمعات والدول ) ، قال صاحب " الظلال " رحمه الله : " يا أيها الناس : يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا ، يا أيها الناس : والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس : " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. والكريم حقا هو الكريم عند الله ، وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ، وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان ، وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام! وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.(3)
وهكذا فالاسلام كما تؤكد هذه الآية الكريمة :
0 جاء لينسخ القوميات والأجناس والتعصب للعنصر( العرق ) أو اللون ، أو الجنس ،
0 يجعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط انحدروا في الأصل من أب واحد وأم واحدة ، " كلكم لآدم وآدم من تراب " ،
0 ليؤكد على التعارف بين البشر ، والتعايش دون تمييز ، فالتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة ،
0 أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى لله عز وجل لا بشيء آخر ،
عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ لِلنَّاسِ مَكَارِمُ أُخْرَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّقْوَى مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرُ تَزْكِيَةٍ فِي النُّفُوسِ مِثْلُ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ ونقاء النّسَب والعرافة فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ فِي الْأُمَمِ وَفِي الْفَصَائِلِ، وَفِي الْعَائِلَاتِ، وَكَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا خَلَّدَهُ التَّارِيخُ الصَّادِقُ لِلْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ فَمَا يَتْرُكُ آثَارًا لِأَفْرَادِهَا وَخِلَالًا فِي سَلَائِلِهَا (4) ،
كما أن القرآن الكريم جعل التعاون على البر والتقوى ركنا ركينا وأساسا متينا من أسس المجتمع المسلم ، فقال جل جلاله في ندائه الكريم لعباده المؤمنين : { ......وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }( المائدة : 2 ) ، أي : وتعاونوا - أيها المؤمنون فيما بينكم - على فِعْل الخير ، وتقوى الله ، ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله، واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب.
=================
الهوامش :
=======
(1) – هو المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي ( 1323هـ / 1905م – 1393هـ / 1973م ) ، من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين ، ويُعدّ أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين ، ويُمكن اعتباره امتدَادًا للمفكر العملاق ابن خلدون ، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة ، ولقد كانت جهود مالك بن نبي في بناء الفكر الإسلامي الحديث ، وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة ، سواء من حيث المواضيع التي تناولها ، أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك.( ويكيبيديا الموسوعة الحرة ) ،
.(2) – أنظر :
- الأخضر شريط. : " التغيير الحضاري في فكر مالك بن نبي " ، المصدر : www.philadelphia.edu.jo/arts/17th/day_one/session_two/shareet.doc
- مالك بن نبي : " الحضارة " ، مهرجان ملتقى الفكر الإسلامي الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر ، 1973م ،
- مالك بن نبي : " شروط النهضة " ، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 4، دار الفكر، دمشق ، سوريا ، 1981م ،
(3) - سيد قطب : " في ظلال القران " ، دار الشروق ، القاهرة ، ط 38 ، 2005م
، ج6 ، ص : 3348 ،
(4) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير " ، الطبعة التونسية ، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م ، ج26 ، ص : 262
***************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: