من بوليفار إلى غيفارا: كيف يظل النضال مستمرًا بعد رحيل القادة؟
محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 145
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المقاومة تُعدّ قيمة إنسانية تتجاوز الحدود والأزمنة، فهي التعبير الأعلى عن إرادة الإنسان في مواجهة الظلم والطغيان، والسعي لتحقيق العدالة والحرية. تمثل المقاومة إرادة جماعية تتغذى من التضحيات والآمال، وتنبثق من الظلم الاجتماعي والسياسي. واحدة من الخصائص الأساسية للمقاومة هي أنها لا تعتمد على شخصيات القادة فقط، بل تمتد لتشمل الشعوب بأكملها، وتستمر حتى بعد رحيل القادة، إذ يصبح القادة رموزًا للإلهام، ويظل جوهر المقاومة حاضرًا في قلوب الناس وعقولهم.
إن قيمة المقاومة تتجلى في تحرر الشعوب واستعادة حقوقها المسلوبة، وفي قدرتها على خلق هوية جماعية تناضل من أجل العدل. المقاومة ليست مجرد أفعال مباشرة ضد العدو، بل هي أيضًا ثقافة تُكرس لحقوق الإنسان وكرامته، وتُعزز من روح التضامن بين الأفراد. إنها تتجاوز البعد العسكري لتشمل كل أشكال الاحتجاج، مثل العصيان المدني، والمقاومة الثقافية، وحتى الحياة اليومية في ظل ظروف قمعية، وهو ما يظهر في العديد من حركات التحرر حول العالم. من هنا، تبرز أهمية المقاومة كقوة تحولية تُعيد تشكيل وعي الشعوب، وتحفز الأفراد للانخراط في العمل الجماعي من أجل تحقيق العدالة والمساواة.
من المهم التأكيد على أن موت القادة، رغم تأثيره الكبير على الروح المعنوية للحركات المقاومة، لا يعني نهاية المقاومة. على العكس، فإن رحيل القادة في كثير من الأحيان يكون نقطة تحول تُشعل الروح النضالية وتعزز الوحدة بين الناس. الأفكار التي يبثها القادة والتضحيات التي يقدمونها تصبح في كثير من الأحيان وقودًا يستمر في إلهام الأجيال اللاحقة. في أمريكا اللاتينية، هناك العديد من الأمثلة التي تؤكد هذا المبدأ بوضوح.
يعتبر إرنستو "تشي" غيفارا من أبرز الشخصيات الثورية في تاريخ أمريكا اللاتينية، وقد لعب دورًا حاسمًا في الثورة الكوبية بجانب فيدل كاسترو، قبل أن يكرّس حياته لنشر الثورة في بقية دول أمريكا اللاتينية. عندما قُتل في بوليفيا عام 1967، لم تكن تلك النهاية لحركات المقاومة، بل كان العكس. تحوّل غيفارا إلى رمز عالمي للثورة والحرية، وظلت أفكاره تلهم أجيالًا من الثوار في كافة أرجاء العالم. الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية استمدت قوتها من تضحياته ورمزيته، واستمرت في نضالها ضد الأنظمة الديكتاتورية والإمبريالية.
سيمون بوليفار هو مثال آخر على كيف تستمر روح المقاومة بعد رحيل القادة. بوليفار، الذي قاد حركات التحرر في العديد من دول أمريكا الجنوبية ضد الاستعمار الإسباني، لم تكن وفاته عام 1830 نهاية لنضاله من أجل الحرية. بل على العكس، حلمه بتوحيد شعوب أمريكا الجنوبية ظل حاضرًا في وعي الناس، وألهم حركات التحرر التي تلت ذلك. لقد أصبح بوليفار رمزًا للوحدة والحرية، وتجسد إرثه في الاستقلال التام لمعظم دول القارة.
وفي المكسيك، كان فرانسيسكو مادييرو قائدًا للثورة المكسيكية ضد النظام الديكتاتوري لبورفيريو دياز. ورغم اغتياله عام 1913، إلا أن مقتله لم ينهِ الثورة، بل أدى إلى تعميق روح المقاومة واستمرار النضال الشعبي، الذي أسفر في النهاية عن تغييرات جذرية في النظام السياسي والاجتماعي للمكسيك. هذه الثورة كانت تعبيرًا عن إرادة الناس في مواجهة الاستبداد، مما يؤكد أن موت القادة لا يُطفئ جذوة الكفاح، بل يزيدها اشتعالًا.
سلفادور أليندي في تشيلي يُعدّ أيضًا مثالًا على استمرار المقاومة بعد رحيل القادة. أليندي كان رئيسًا اشتراكيًا منتخبًا، وسعى لإصلاحات تهدف لتحقيق العدالة الاجتماعية. ورغم الإطاحة به في انقلاب عسكري بقيادة أوغستو بينوشيه عام 1973، إلا أن وفاته لم تكن نهاية النضال من أجل الديمقراطية في تشيلي. بل على العكس، ظل الشعب يقاوم النظام الديكتاتوري لسنوات طويلة، حتى أُعيدت الديمقراطية في نهاية المطاف عام 1990. أليندي أصبح رمزًا للصمود والدفاع عن الحقوق الديمقراطية، وظلت حركته تلهم الناشطين حتى بعد رحيله.
من خلال هذه الأمثلة، يمكن القول بأن المقاومة تتجاوز الأشخاص لتستمر من خلال الأفكار والمثل التي يؤمن بها الناس. إن موت القادة لا يعني نهاية المقاومة، بل قد يكون أحيانًا بداية لتجديد القوة والتصميم على تحقيق الأهداف. هذه القيمة الجوهرية للمقاومة تجعلها حركة مستمرة، تُعبّر عن رفض الإنسان للخضوع وعن رغبته العميقة في العيش بكرامة وعدل. إنها دعوة إلى الأمل والتحدي، وهي شهادة على قدرة البشر على النهوض دومًا، حتى في أحلك الظروف، دفاعًا عن الحرية والكرامة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: