دور البرلمان في تنظيم الثورة التكنولوجية لضمان الاستدامة الاقتصادية
محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 152
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يشهد العالم اليوم تحولًا غير مسبوق، إذ أصبحنا في خضم ثورة تكنولوجية تعد بتغيير جذري في جميع مناحي الحياة البشرية. من التكنولوجيا الرقمية إلى الذكاء الاصطناعي، مرورًا بتكنولوجيا المعلومات، باتت هذه الثورة تمس كل جانب من جوانب الاقتصاد والسياسة والمجتمع. ولعل السؤال المحوري الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف يمكن للتصور السياسي أن يتعامل مع هذا التحول الكبير؟ وكيف يمكن للبرلمان، باعتباره الجهة التشريعية المسؤولة عن صياغة القوانين، أن يضمن إطارًا قانونيًا يوازن بين تنظيم عمل الشركات التكنولوجية وضمان فعاليتها في الدورة الاقتصادية؟
التصور السياسي لأي دولة يجب أن يكون قادرًا على إدراك عمق هذا التحول، ليس فقط على مستوى الاقتصاد المحلي، بل على مستوى الاقتصاد العالمي. فإن التأخر في فهم هذه الثورة والتكيف مع أدواتها سيعرض الدولة لتحديات اقتصادية وسياسية ضخمة. التكنولوجيا الحديثة ليست مجرد أداة تساهم في تسريع عمليات الإنتاج أو تحسين جودة الحياة؛ بل أصبحت عاملًا مؤثرًا في إعادة تشكيل العلاقات الدولية، بما يشمل التجارة والسياسة والأمن. من هنا، يظهر دور البرلمان في استشراف هذا المستقبل من خلال التشريعات التي يمكن أن تضمن فاعلية تلك الشركات التكنولوجية، وتحمي في الوقت ذاته مصالح المواطنين والدولة.
إن البرلمان، بما يمتلكه من أدوات قانونية، يقع على عاتقه مهمة صياغة قوانين تحكم عمل هذه الشركات، وتنظم تفاعلاتها مع المواطنين ومع الأسواق. فإذا نظرنا إلى التجارب العالمية، نجد أن بعض الدول، التي أدركت مبكرًا أهمية هذه الثورة، قد تمكنت من صياغة تشريعات تُشجع الابتكار التكنولوجي دون التضحية بحقوق الأفراد أو استقرار الأسواق. على سبيل المثال، في الاتحاد الأوروبي، تم إدخال العديد من التشريعات التي تهدف إلى تنظيم عمل شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “أوبر” و”فيسبوك”، من خلال فرض قوانين تحمي خصوصية البيانات وتعزز المنافسة العادلة. هذه التشريعات لم تأتِ كرد فعل عاطفي أو ردة فعل متسرعة، بل هي نتاج تفكير سياسي مدروس أدرك ضرورة التوازن بين التقدم التكنولوجي وحماية المصالح الاقتصادية والاجتماعية.
ومن المهم أن نتطرق إلى نقطة جوهرية هنا، وهي أن التشريعات التي تضعها البرلمانات في مواجهة الثورة التكنولوجية يجب أن تكون ديناميكية، قابلة للتكيف مع التحولات المستمرة في هذا المجال. فالتكنولوجيا تتطور بسرعة تتجاوز أحيانًا قدرة التشريعات على مواكبتها. وبالتالي، يتعين على البرلمانات أن تكون مستعدة لإجراء التعديلات اللازمة على القوانين، وهو ما يتطلب عقلًا سياسيًا مرنًا لا يتوقف عن التفكير في المستقبل، بل يسعى دائمًا إلى استشراف التحديات القادمة قبل وقوعها.
كما أن البرلمانات يجب أن تتبنى منهجًا يشجع على الشراكة بين القطاع الخاص والحكومة في مجال الابتكار التكنولوجي. فالشركات التكنولوجية الكبرى، رغم دورها البارز في تحريك عجلة الاقتصاد، تحتاج إلى بيئة تشريعية تحفزها على الاستثمار والمنافسة العادلة. إلا أن هذه البيئة لا يجب أن تكون فوضوية، بل يجب أن تكون منظمة ومبنية على قواعد تحمي حقوق المستخدمين وتحافظ على العدالة الاجتماعية.
إن دور البرلمان هنا لا يقتصر على إصدار القوانين فقط، بل يمتد إلى مراقبة تطبيق هذه القوانين وتعديلها إذا لزم الأمر. فالمشرعون ليسوا فقط صناع قوانين، بل هم أيضًا مراقبون للتطبيقات العملية لتلك القوانين في الحياة اليومية، وهم مطالبون بتعديل ما يجب تعديله لضمان أن لا تؤدي هذه القوانين إلى نتائج غير مرغوب فيها.
وفي الختام، إن التصور السياسي الذي يتعامل مع الثورة التكنولوجية يجب أن يكون مستنيرًا ومدركًا لعمق التحولات التي تجلبها هذه الثورة. على البرلمانات أن تكون في صدارة هذا التصور، وأن تعمل على وضع التشريعات التي تضمن النجاح الاقتصادي المستدام مع الحفاظ على حقوق الأفراد والمجتمع. فالتكنولوجيا، كما أظهرت التجارب العالمية، هي أداة عظيمة إذا تم استخدامها بحكمة وتوازن، وهي تهديد إذا ما تم التغاضي عن تأثيراتها السياسية والاجتماعية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: