المشترك الوطني ومراكمة الإيجابيات: دروس من التجربة التونسية الحديثة
محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 146
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تاريخ تونس الحديثة هو قصة متعددة الفصول، كل فصل فيها يحمل أبعاده الخاصة من الأمل والخيبة، الإنجاز والعثرة. لكن وسط كل هذه التقلبات، يبقى السؤال الملح: كيف يمكننا أن نستلهم من كل هذه التجارب، ونراكم إيجابياتها، لبناء مستقبل أفضل وأكثر صلابة؟
منذ الاستقلال، انطلقت تونس في مسار بناء الدولة الحديثة، وكانت فترة الرئيس الحبيب بورقيبة بمثابة الحجر الأساس في هذا المشروع. لقد حمل بورقيبة رؤية متكاملة للدولة التونسية، ترتكز على التعليم كمدخل للتنمية، وعلى تحرير المرأة كشرط أساسي للحداثة. ولم يكن ذلك مجرد خطاب سياسي، بل مشروعًا عمليًا غيّر وجه المجتمع التونسي جذريًا. ومع ذلك، لم تكن هذه المرحلة خالية من العثرات؛ إذ كان هناك ميل واضح إلى المركزية المفرطة في السلطة وقمع المعارضين. ورغم هذه النقائص، فإن البنية المؤسسية التي أرسيت في تلك الحقبة كانت حجر الزاوية الذي قامت عليه الدولة التونسية لعقود طويلة.
ثم جاءت فترة الرئيس زين العابدين بن علي، وهي مرحلة حملت معها وعودًا بالاستقرار والتنمية الاقتصادية. لا أحد ينكر أن تونس شهدت طفرة في البنية التحتية وتحسنًا ملحوظًا في مستوى المعيشة لفئات واسعة من المجتمع. ولكن هذا التقدم المادي كان مكلفًا على المستوى السياسي، حيث اختنقت الحريات وقُمعت الأصوات المعارضة. كان الاستقرار في ظاهره إيجابيًا، لكنه أخفى تحت السطح حالة من الاحتقان التي انفجرت في نهاية المطاف في ثورة 2011.
بعد الثورة، دخلت تونس مرحلة جديدة ومضطربة، عنوانها الأبرز كان الحرية. فتحت الثورة آفاقًا واسعة أمام التعبير السياسي والاجتماعي، وشهدت البلاد تجربة ديمقراطية فريدة في العالم العربي. ومع ذلك، لم تكن هذه المرحلة وردية؛ إذ عانت البلاد من أزمات اقتصادية خانقة وانقسامات سياسية حادة. ومع ذلك، كان هناك درس عميق في هذه المرحلة: الحرية ليست مجرد حالة يمكن أن تُمنح أو تُفرض، بل هي مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، تتطلب نضجًا سياسيًا وإدارة واعية للتحديات.
من كل هذه المراحل، نخرج بحقيقة أساسية: لكل تجربة إيجابياتها وسلبياتها، ولكن التحدي الأكبر يكمن في قدرتنا على التعلم منها، في الاعتراف بأننا لسنا بحاجة إلى أن نبدأ من الصفر مع كل تغيير، بل أن نبني على ما تحقق من إنجازات، ونتجاوز ما تعثر فيه الآخرون. إن التقدم لا يتحقق بالقطيعة مع الماضي، بل بالاستفادة من نقاط الضوء فيه، مهما بدت صغيرة أو متواضعة.
إن مراكمة الإيجابيات ليست فعلًا سياسيًا مجردًا، بل هي فلسفة تستند إلى رؤية شاملة تعترف بالمشترك الوطني كمصدر قوة. عندما نعترف بأن لكل مرحلة إسهاماتها، فإننا نصوغ مستقبلًا يقوم على التراكم لا على التناقض. هذا يعني أن التعليم الذي أرساه بورقيبة، والتنمية الاقتصادية التي دشنها بن علي، والديمقراطية التي انطلقت بعد الثورة، يمكن أن تشكل معًا أساسًا متينًا لمشروع وطني جامع.
تونس اليوم أمام مفترق طرق. يمكنها أن تختار الاستمرار في الدوران في دوامة الصراعات الإيديولوجية والسياسية، أو أن تتبنى نهجًا جديدًا يركز على البناء المشترك. نحن بحاجة إلى شجاعة الاعتراف بأننا لسنا مثاليين، ولكننا قادرون على التحسن. إن مشروعًا وطنيًا يعترف بإيجابيات الماضي ويتعلم من سلبياته هو ما يمكن أن يجعل من تونس نموذجًا حضاريًا وإنسانيًا يُحتذى به.
مستقبل تونس لن يُبنى فقط بالإرادة السياسية، بل بالعقلية التي ترى في الاختلاف مصدرًا للثراء، وفي التجارب السابقة ركيزة للانطلاق. التاريخ لا يكتب بمنطق الهدم، بل بمنطق التراكم والبناء. هذا هو التحدي الذي ينتظرنا، وهذا هو الأفق الذي يجب أن نتطلع إليه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: