تونس في حاجة إلى صفقة جديدة: دروس من تجربة روزفلت في مواجهة الكساد الكبير
محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 427
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في الثلاثينيات من القرن العشرين، واجهت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية في تاريخها، والمعروفة بالكساد الكبير. هذه الأزمة أدت إلى انهيار النظام المالي، ارتفاع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق، وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لملايين الأمريكيين. في هذا السياق، برز فرانكلين ديلانو روزفلت كرئيس جديد في عام 1933، حاملًا معه رؤية جريئة وشجاعة لإنقاذ الولايات المتحدة من أزمتها الطاحنة. رؤيته تمثلت في سلسلة من السياسات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي عُرفت لاحقًا بـ"الصفقة الجديدة". عندما تولى روزفلت الرئاسة، كانت البلاد في حالة من الفوضى الاقتصادية. معدلات البطالة تجاوزت 25%، الآلاف من البنوك أغلقت أبوابها، والفقر المدقع كان ينتشر بسرعة في جميع أنحاء البلاد. بادر روزفلت بإطلاق صفقة جديدة تهدف إلى إنعاش الاقتصاد، خلق فرص عمل، وإعادة بناء الثقة في النظام المالي. كانت رؤيته تقوم على ثلاث ركائز أساسية: الإغاثة، التعافي، والإصلاح.
بدأت جهود روزفلت بتحقيق الإغاثة الفورية للعاطلين عن العمل والفقراء. من خلال برامج مثل إدارة الأشغال العامة وإدارة تقدم الأعمال ، تم توفير ملايين الوظائف في مشاريع البنية التحتية، مثل بناء الطرق والجسور والسدود. هذه البرامج لم تساهم فقط في تخفيف البطالة، بل أسهمت أيضًا في تحسين البنية التحتية للبلاد، مما خلق أساسًا للنمو الاقتصادي المستدام في المستقبل.
في مجال التعافي الاقتصادي، عملت الصفقة الجديدة على إعادة تشغيل النظام المالي وإعادة الثقة إلى البنوك من خلال قانون إعادة التمويل الصناعي وإنشاء مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية . هذه الخطوات كانت ضرورية لاستعادة الاستقرار المالي ومنع الانهيارات البنكية المستقبلية. على الجانب الزراعي، قدمت الصفقة الجديدة دعمًا كبيرًا للمزارعين من خلال قوانين تنظيم الإنتاج الزراعي، مما ساعد في رفع أسعار المحاصيل وزيادة دخل المزارعين.
أما على صعيد الإصلاح، فقد سعت الصفقة الجديدة إلى إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد الأمريكي لمنع تكرار الأزمة. من خلال قانون الأوراق المالية وقانون سوق الأوراق المالية، تم تنظيم الأسواق المالية وإنشاء لجنة الأوراق المالية والبورصات للإشراف على الأنشطة المالية. هذا النظام الجديد ساعد في حماية المستثمرين ومنع التلاعب المالي الذي كان أحد أسباب الكساد الكبير.
اليوم، ونحن ننظر إلى تجربة الصفقة الجديدة في الولايات المتحدة، يمكننا أن نستخلص العديد من الدروس المهمة لتطبيقها على واقع تونس الحالية. تونس، التي تعاني من تحديات اقتصادية كبيرة تشمل ارتفاع معدلات البطالة، تدهور البنية التحتية، والفساد الإداري، تحتاج إلى مبادرة مشابهة للصفقة الجديدة للخروج من أزمتها.
تونس بحاجة إلى "صفقة جديدة" محلية، تقوم على نفس المبادئ التي اعتمدها روزفلت: الإغاثة، التعافي، والإصلاح. تحتاج البلاد إلى برنامج شامل لخلق فرص عمل جديدة، من خلال مشاريع بنية تحتية كبيرة تشمل تطوير الطرق، بناء المدارس والمستشفيات، وتحسين المرافق العامة. هذه المشاريع لن توفر فقط وظائف جديدة، بل ستساهم أيضًا في تحسين نوعية الحياة والبنية التحتية، مما يشجع على الاستثمار والنمو الاقتصادي.
في مجال التعافي الاقتصادي، يجب أن تركز تونس على إصلاح النظام المالي وتعزيز الثقة في البنوك والمؤسسات المالية. يمكن أن تتضمن هذه الخطوات إنشاء مؤسسة مالية مفتوحة لخلق الفرصة للمواطنين لبعث المشاريع ، وتحسين الشفافية والمساءلة في القطاع المالي. كما يمكن أن تشمل تقديم دعم مباشر للقطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الزراعة والصناعات الصغيرة والمتوسطة.
أما الإصلاح، فيجب أن يكون شاملًا ويستهدف جذور المشكلة. هذا يشمل مكافحة الفساد، تحسين النظام التعليمي، وتعزيز سيادة القانون. إصلاح النظام التعليمي مهم جدًا لتزويد الشباب بالمهارات اللازمة للمنافسة في السوق العالمية. كما أن تعزيز سيادة القانون سيشجع على الاستثمار الداخلي والخارجي، مما يخلق بيئة اقتصادية أكثر استقرارًا وازدهارًا.
من خلال اعتماد رؤية شاملة وجريئة تشبه الصفقة الجديدة، يمكن لتونس أن تتجاوز تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية وتبني مستقبلًا أكثر إشراقًا واستدامة. تتطلب هذه الرؤية قيادة شجاعة ومستعدة لاتخاذ قرارات جريئة، مثلما فعل روزفلت في الثلاثينيات، لتحقيق التغيير الحقيقي والنمو المستدام. بدون هذه الخطوات الجريئة، ستظل تونس تواجه نفس التحديات التي تعوق تقدمها وازدهارها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: