أجهزة صناعة الوعي: السلاح الناعم للهيمنة على الشعوب
محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 95
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في عالمنا اليوم، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات، بل أصبح أداة قادرة على تشكيل العقول وإعادة صياغة وعي المجتمعات وفق مصالح القوى التي تمتلكه وتتحكم به. إنه السلاح الناعم الذي يمكن أن يكون قوة دافعة نحو التنوير والتحرر، كما يمكن أن يكون وسيلة لخداع الشعوب وإغراقها في دوامة التضليل والدعاية الموجهة. فحينما تتحكم جهة معينة في تدفق المعلومات، يصبح بوسعها رسم صورة معينة للواقع، وإقناع الجماهير بها حتى وإن كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة.
لطالما لعب الإعلام دورًا حاسمًا في توجيه الشعوب، سواء كان ذلك من خلال الصحافة التقليدية أو القنوات التلفزيونية أو وسائل التواصل الاجتماعي. في العالم العربي، شهدنا فترات استخدم فيها الإعلام كسلاح في وجه الاستعمار، حيث كانت الصحف والمجلات منابر لنشر الوعي الوطني والتحريض على المقاومة، مثلما حدث في مصر والجزائر وتونس خلال حقبة الاستعمار الأوروبي. لكن بعد الاستقلال، تحول الإعلام في كثير من الدول إلى أداة بيد الأنظمة الحاكمة، تروّج لرواياتها الرسمية وتقمع الأصوات المعارضة، مما جعله وسيلة لإعادة إنتاج الاستبداد بدلًا من كونه فضاءً لحرية التعبير.
هذه الظاهرة ليست حكرًا على العالم العربي، بل نجد لها نظائر في التاريخ العالمي. في ألمانيا النازية، كان الإعلام أحد أهم أسلحة أدولف هتلر، حيث وظفه وزير دعايته جوزيف غوبلز ببراعة لتعبئة الجماهير خلف الحزب النازي، مستخدمًا الصحافة والسينما والإذاعة في تزييف الواقع وتبرير سياسات الحرب. وفي الولايات المتحدة، لعب الإعلام دورًا محوريًا في الحرب الباردة، حيث تم تجنيده لصياغة صورة الاتحاد السوفيتي كعدو شرس، مما ساهم في تشكيل وعي أجيال كاملة وفق مصالح واشنطن الجيوسياسية.
مع ظهور الإنترنت وتطور وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الإعلام أكثر تعقيدًا وتأثيرًا، إذ لم يعد مقتصرًا على الحكومات والمؤسسات الكبرى، بل بات في متناول الجميع. ومع ذلك، لم يؤدّ هذا الانفتاح إلى تحقيق حرية أكبر في الوصول إلى الحقيقة، بل أدى في كثير من الأحيان إلى فوضى إعلامية يسهل فيها نشر الأخبار المزيفة وتضليل الجماهير. لقد رأينا كيف تم التلاعب بالانتخابات في دول كبرى من خلال حملات إعلامية موجهة، وكيف يتم استغلال مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لروايات معينة أو طمس أخرى. لم يعد الإعلام اليوم مجرد ناقل للخبر، بل أصبح قادرًا على توجيه الأحداث نفسها، مما يجعل منه قوة لا تقل خطرًا عن السلاح التقليدي.
في العالم العربي، يتجلى هذا التأثير في كيفية استخدام القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي لخدمة أجندات سياسية معينة، حيث يتم التلاعب بالترندات، ونشر المعلومات المضللة، وشيطنة بعض الأطراف، وتلميع أخرى وفق المصالح المسيطرة. وفي كثير من الأحيان، يتم صرف أنظار الجماهير عن الأزمات الحقيقية عبر افتعال قضايا جانبية وإغراق الفضاء العام بنقاشات عقيمة لا تخدم إلا من يريدون استمرار الوضع الراهن.
ورغم هذا الواقع، يظل الإعلام أداةً يمكن توظيفها لخدمة الحقيقة والتنوير متى ما وُجدت الإرادة لذلك. فقد كان ولا يزال وسيلة قادرة على فضح الفساد وكشف الانتهاكات، كما رأينا في العديد من التحقيقات الصحفية التي أسقطت أنظمة وأحدثت تغييرات كبرى في السياسات. لكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل وعي نقدي قادر على تمييز الحقيقة من التزييف، وعدم الانسياق وراء الدعاية الموجهة، سواء أتت من أنظمة حاكمة أو من جهات أخرى لها مصالح خفية.
تكمن خطورة الإعلام في قدرته على صناعة الإدراك الجمعي، فمن يسيطر عليه يستطيع أن يحدد للناس ما يجب أن يؤمنوا به، وما ينبغي أن يعارضوه، وما هو مهم وما هو غير ذي قيمة. إنه معركة حقيقية تدور في العقول قبل أن تنعكس على أرض الواقع. اليوم، لم تعد الشعوب تُحكم بالسلاح وحده، بل عبر التحكم في مصادر معلوماتها، وإعادة تشكيل وعيها وفق قوالب جاهزة تحدد لها كيف تفكر وكيف ترى العالم من حولها. بين التنوير والتضليل، بين الحرية والتوجيه القسري، يبقى الإعلام القوة الأكبر في رسم ملامح المستقبل، والسؤال الذي يجب أن يطرحه كل فرد على نفسه: هل أمتلك وعيًا حقيقيًا، أم أنني مجرد صدى لما يريدونني أن أكونه؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: