محمد علي العقربي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 310
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في تاريخ الأمم لحظات فارقة، تعيد تشكيل الواقع وتؤكد أن الإرادة أقوى من التحديات. حينما وقف الرئيس المصري الراحل أنور السادات في مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973، بعد عبور الجيش المصري قناة السويس وتحطيم خط بارليف، قال كلمته الشهيرة: “لقد عبرنا الجسر، وما بقي إلا أن نعبر إلى المستقبل.” واليوم، يبدو أن مصر تستعد لعبور جديد، ليس بالدبابات والطائرات، بل بالجرافات والرافعات، نحو إعمار غزة، وإعادة الحياة إلى شريط ساحلي عانى طويلاً من الدمار والحصار.
بين أكتوبر 73 وفبراير 2025: تشابه التحديات وتشابه الإرادة
عندما قررت مصر العبور في 6 أكتوبر 1973، كانت تواجه تحديات جمة، أبرزها الاحتلال الإسرائيلي الذي جثم على سيناء منذ نكسة 1967، والتخاذل الدولي الذي حاول تكريس الهزيمة كأمر واقع، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية والسياسية الداخلية التي جعلت الكثيرين يعتقدون أن الحرب مستحيلة. لكن القيادة المصرية آنذاك قلبت المعادلة، ونجحت في تحقيق انتصار عسكري غير مسبوق، بفضل التخطيط الدقيق والإرادة الشعبية الصلبة.
واليوم، بعد خمسين عامًا من ذلك النصر، تواجه مصر تحديًا جديدًا في غزة، حيث الدمار الهائل الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، وحيث الضغوط الإقليمية والدولية التي تحاول فرض واقع جديد لا يخدم إلا الاحتلال. لكن كما نجحت مصر في قلب موازين القوى في 73، يبدو أنها اليوم مصممة على لعب دور محوري في إعادة إعمار غزة، ليس فقط كضرورة إنسانية، ولكن كجزء من رؤيتها الاستراتيجية لضمان أمنها القومي وتحقيق الاستقرار الإقليمي.
الإعمار كسلاح استراتيجي
كما كان العبور العسكري في 73 سلاحًا سياسيًا أعاد لمصر مكانتها، فإن الإعمار في غزة اليوم قد يكون سلاحًا استراتيجيًا يعزز نفوذها الإقليمي. فالوجود المصري في عملية إعادة الإعمار، والذي بدأ فعليًا منذ سنوات من خلال إرسال معدات ومهندسين ومساعدات إنسانية، لا يقتصر على الجوانب المادية فقط، بل يعكس رغبة مصر في لعب دور الضامن لاستقرار القطاع، ومنع أي محاولات لإعادة إشعاله كجبهة ملتهبة.
هذا الدور يتجاوز الجانب الإنساني، فهو يعيد لمصر وزنها الإقليمي الذي كانت تتمتع به في العقود السابقة، ويثبت أنها الرقم الصعب في أي معادلة تخص القضية الفلسطينية. فكما كانت القاهرة مركز التخطيط للعبور العسكري في 73، ها هي اليوم تتحول إلى مركز التخطيط لعبور جديد نحو إعادة إعمار غزة، وخلق بيئة أكثر استقرارًا في المنطقة.
مصر وسياسة “فرض الأمر الواقع”
إحدى الدروس الكبرى لحرب أكتوبر أن مصر لم تنتظر إذنًا من أحد لاستعادة حقها، بل فرضت واقعًا جديدًا بالقوة. واليوم، يبدو أن مصر تتبنى نفس الفلسفة في ملف غزة، حيث تدرك أن إعادة الإعمار ليست ملفًا يمكن أن يخضع للمساومات السياسية، بل هو ضرورة لا تحتمل التأجيل. ولهذا تتحرك القاهرة بسرعة، رغم محاولات بعض القوى الإقليمية والدولية فرض شروطها أو عرقلة الجهود المصرية.
وكما أجبرت مصر العدو في 73 على التراجع تحت وقع المفاجأة والإنجاز العسكري، فإنها اليوم تفرض واقعًا جديدًا في غزة، من خلال بناء المدارس والمستشفيات والطرق، دون أن تنتظر ضوءًا أخضر من أحد. وهذا يعكس فلسفة مصرية قديمة، مفادها أن من يملك زمام المبادرة هو من يفرض شروطه في النهاية.
العبور الجديد: من الحرب إلى البناء
العبور في 1973 كان عبورًا بالسلاح والنار، أما العبور اليوم فهو عبور بالإعمار والبناء. لكنه في جوهره يحمل نفس الروح: كسر القيود، وتحدي الواقع المفروض، وإعادة رسم ملامح المنطقة وفق رؤية مصرية مستقلة. وإذا كان أكتوبر 73 قد أنهى الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، فإن العبور الجديد قد يكون الخطوة الأولى نحو إنهاء المعاناة الفلسطينية، وإعادة غزة إلى الحياة من جديد.
فالتاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يمنح الفرص لمن يفهم دروسه، ومصر اليوم، كما كانت في 73، تدرك أن الزمن لا ينتظر المترددين، وأن اللحظة التاريخية لا تصنعها البيانات السياسية، بل تصنعها الأفعال على الأرض. وكما قال السادات بعد النصر: “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.” واليوم، يمكننا القول: “ما دُمر بالحرب، سيُبنى بالإرادة.”
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: