أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 54
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تحية طيبة وبعد
بعد أسبوع واحد من الآن يحلّ شهر رمضان لتنقلب حياة الناس رأسا على عقب فتتغيّر المواعيد ويصبح الليل نهارا والنهار ليلا وتلتهب الأسعار وغير ذلك ممّا لا يقرّه لا الدين ولا العرف ولا المصلحة ويندرج في باب العادات والتقاليد الآخذة في الترسّخ التي إن لم تقع مقاومتها من الآن ستمثل خطرا جسيما على مستقبل البلاد والعباد، وهي جميعها تجد الحماية من ملامستها وقربها لعبادة من العبادات وأخصّ بالذكر الصلاة والصوم رغم أن الدين ذاته لا يقرّها، وبعد أن كتبت في الموضوع مرات متعددة على أمل أن تتفطن لذلك المؤسسات الدينية التي فضلت الصمت والمواصلة في هذا الغيّ قررت التوجه إليكم عارضا المسألة من وجهة نظري علّها تجد القبول لدى نظركم السامي.
العبادات جميعها من السمعيات أي أنّ العلم بها متوقّف على السّمع ولا مجال فيها للإضافة أو الإنقاص أو التغيير فالصلاة أركان مخصوصة وأذكار معلومة بشرائط محصورة في أوقات مقدّرة لا مجال فيها للاجتهاد أو التعقل وكذا باقي العبادات ومن بينها الصيام الذي أُمر المؤمن بالقيام به وفق ما حدّد المشرّع، في هذا المعنى يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "إن طرق نقل ثبوت أسباب العبادات غير طرق نقل الأمور العادية لأن أئمة الدين قد بيّنوا لأسباب نقل العبادات طرقا وجعلوا ما عداها كالعدم وهذه الطرق مختلفة بحسب اختلاف العبادات فطريق نقل ثبوت استهلال هلال رمضان الرؤية... وطريق ثبوت أوقات الصلوات آذان المؤذنين وإخبار الموقتين... وطرق ثبوت طهارة الماء أو ضدها...." الأمر الذي يعني أن كلّ ما يتعلق بالعبادات لا مدخل فيه للتزيّد لأنها مبنيّة على المنع أي أنّه لا فعل فيها إلا بأمر، لذا يحرم على أي كان أن يتناولها بالتقديم أو بالتأخير أو بالإضافة أو بالإنقاص، بحيث يقوم بها المرء كما أمر المشرّع دون تفتيش عن علة أو سبب الهيئة التي هي عليها أو الإيهام بتيسيرها وافتعال أسباب لذلك لأنها المظهر الخارجي والمادي للإيمان الذي هو فعل قلبي والحكمة منها هي إظهار الطاعة لله، واللافت للانتباه أن عبادتي الصلاة والصوم تناولهما تغيير فاضح خرج بهما عن العبادة وما تتطلب من خشوع وصفاء نفس وسريرة إلى عادات تقاليد أفسدت الدين والدنيا معا وبيان ذلك:
1) أوقات العبادات جميعها مبنيّة على حركتي الشمس والقمر وهي لذلك تختلف من منطقة إلى أخرى، الدين مُوَجَّه إلى المؤمنين وليس مُوَجَّها إلى مؤسّسات الدولة حتى تحدّد وقت الصلاة أو تعلن دخول شهر رمضان أو خروجه فوقت صلاة المغرب في تونس العاصمة هو غيره في توزر وإعلانه في تونس لا يعني أنّ متساكني توزر يفطرون وفق ما أذيع في تونس بل ينتظرون مغيب الشمس وهو التوقيت الشرعي، لذا تقتضي الحكمة أن يُترك أمر العبادة وتوقيتها للمؤمنين فأحكام العبادات تُعرف بالوسائل العاديّة المتاحة للجميع وليست في حاجة إلى الاختصاصات والآلات والمعارف المعقّدة لأنّ القصد من أداء العبادة إظهار الطاعة لله وليس أداؤها في وقت محدّد مضبوط، العبادات مبنيّة على الظنون وليست مبنيّة على اليقين من ذلك أن القبلة في جامع الزيتونة وفي جامع عقبة منحرفة بالحسابات الفلكيّة ورغم ذلك فالصلاة فيهما صحيحة لأن الأوامر الشرعية مبنيّة على قدرة المكلف بإمكاناته العادية والمتاحة له أمّا ما نشاهده من هرج يصحب رؤية هلال رمضان والدعوة إلى اعتماد الحساب والرصد الجوي والمناظير فليس إلا تكلّفا وتقعّرا يندرج في باب التديّن الشكلي المنهي عنه، وقد كان أسلافنا أقرب منا إلى فهم متطلّبات العبادة فإعلان دخول رمضان كان يتمّ بالشكل التالي الذي رواه محمد ابن الخوجة قال: "بقي الكلام على العلم الأبيض الذي ينشر من صومعة جامع القصبة تنبيها لمؤذني بقية الجوامع بدخول وقت الصلاة واختصاص هذا الجامع بنشر ذلك العلم له سببان فيما يظهر فأوّلا لتلبّسه بالصبغة الملكية التي أشرنا إليها فيما تقدم وثانيا لارتفاع موقعه الذي هو أعلى بقعة بمدينة تونس فكان هو المتعيّن لاستدعاء المؤذنين للنطق بحيّ على الصلاة ويكون ذلك بنشر علم أبيض... ولمّا وقع بناء المدرسة الصادقيّة الجديدة في سنة 1315 وكانت في صعيد واحد مع جامع القصبة وتكاثرت من جهة أخرى الأبنية ذات الطبقات المتعددة والمتعالية بتونس احتجب علم صومعة جامع القصبة عن عيون مؤذّني بعض الصوامع الأخرى فتداركت ذلك جمعيّة الأوقاف في عهد رئيسها المصلح أب السرور السيد البشير صفر برفع صاري العلم وجعله لجانب جامور الصومعة (الجامور قطعة النحاس الحاملة للهلال وتوجد في أعلى الصومعة) كما هو الآن وبسبب ذلك حصل له ارتفاع بنحو عشرة أذرع زال به المانع المذكور والله المدبّر لكلّ الأمور"، هكذا تصرّف السلف أما الخلف ففي هوجة التديّن الشكلي التي انتشرت من الربع الأخير من القرن الماضي اتجه إلى بث الآذان في الإذاعات وهو ما يربك المؤمنين فتوقيت صلاة المغرب في العاصمة تونس هو غيره في توزر وهو غيره في تطاوين ولهذا السبب أفتى الشيخ عبد العزيز بن جعفر لمّا سئل: "هل يصحّ لنا الإمساك والإفطار على إذاعة تونس في رمضان مع العلم أنّ توقيت ألمانيا هو نفسه توقيت تونس؟ فأجاب: إنّ الإمساك والإفطار برمضان المعظم متوقّف على ظهور الفجر الصادق بالنسبة للإمساك أو على المغيب بالنسبة للإفطار بقطع النظر عن الترقيم الزمني"، وحتى إن قيل بأنّ الآذان هو بحسب التوقيت المحلي لمدينة تونس فإن الإشكال يبقى قائما لأنّه يحيل إلى أفضلية جهة ما على باقي الجهات في البلاد، لكلّ كما ذكر يعتبر إعلان الآذان في الإذاعات تشويشا على العبادات وإرباكا للمؤمنين لم يأمر به الشرع والأصل أن تقوم كلّ جهة بتحديد أوقات أداء العبادة بحسب ما ضبط الشارع وفيما ترك سلفنا الصالح المثال الحي.
2) استعمال مكبرات الصوت في الآذان وفي الصلاة منكر لم يأت به الشرع
قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "إنّ الجهر المتوسّط بقراءة القرآن قبل صلاة الجمعة جائز إذا لم يخشى منه تشويش على متنفل بحيث يبلغ إليه الصوت ويشوّش عليه فإذا كان المصلي قريبا من القارئ وخشي عليه التشويش كره الجهر حينئذ فيخافت القارئ من صوته، وأمّا الجهر الشديد فإيقاعه في المسجد مكروه عند مالك رحمه الله مطلقا"، كما أفتى الشيخ محمد المختار السلامي المفتي الأسبق بتحريم إذاعة القرآن بمكبّرات الصوت جاء في فتواه: "ولذا فإنّ قراءة القرآن بواسطة مضخّمات الصوت من أعالي المآذن ممّا يتعيّن منعه لأنّ القائم به ليس عابدا ولكنّه عاص، إذ هو بعمله يجعل القرآن موجب إزعاج وإرهاق للأعصاب ولأنّه غير محترم للقرآن إذ يصل صداه إلى مجامع الطهر وغيرها ويحول بين المصلي الداخل للمسجد وبين الخشوع في صلاته ويشغله عن تحية المسجد وإنّ التأثير السلبي للجهلة المتعصّبين على الدين قد يكون أسوأ من تأثير أعداء الدين فما كان التعصّب للدين أو عليه عمى والقرآن بصائر"، أما الشيخ عفيف عبد الفتاح طبارة فيقول: "ولكن المشاهد اليوم في كثير من الدول الإسلامية أن بعض المؤذنين لهم صوت غير حسن يقدّمونه وراء مكبر صوت (الميكروفون) ويجعلونه صوتا عاليا جدا ممّا يؤدّي إلى خدش الأسماع وترويع الأطفال فمكبّر الصوت يجب أن تشرف عليه إدارة الأوقاف كليا فلا تدعه لرغبة المؤذنين برفع صوته وإحداث تلك الضجة التي تؤذي آذان الناس وخصوصا في آذان الفجر حيث الهدوء التام وحيث الصوت ينتشر بسهولة دون حاجة إلى مكبّر صوت ولهذا فإنه يتوجّب إلغاء مكبر الصوت إلغاء تاما في أذان الصبح ودعوة المؤذنين إلى الآذان بدونه..."، ومن الجدير بالملاحظة أنّ المؤذنين لدينا ليس لديهم أي ضابط فتجدهم في كلّ الأوقات يتنافسون على المرتبة الأولى في الأعلى صوتا والأكثر جلبة والذي يسكن العاصمة تونس يدرك هذا المعنى جيدا، رغم منافاة هذا التصرف من المؤذنين للشرع الحنيف فإن وزارة الشؤون الدينية المسؤولة الأولى عن المحافظة عن الشأن الديني صمّت آذانها عن معالجة هذا الملف لأسباب سياسيّة.
3) الإبقاء على المساجد مفتوحة خصوصا بعد منتصف النهار في شهر رمضان حيث تعجّ بالصائمين للنوم أوّلا وللتمتّع بما فيها من وسائل التبريد والتسخين ثانيا بجانب الهدوء وهو ما يخلّ بالمهمّة التي أوجد لها المسجد الذي استعمل في فترة سابقة لتجنيد الشباب لصالح المنظمات الإرهابيّة ومحلا لتجميعهم بغية تسفيرهم إلى بؤر التوتر لهذا السبب بالذات يذهب الجلّة من العارفين بالشرع وأحكامه إلى ضرورة إغلاق المساجد في غير أوقات الصلاة، قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور:"وكذلك غلقها (المساجد) من دخول الصبيان والمسافرين للنوم، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال:غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة... "، فإن دعا أسلافنا إلى إغلاق المساجد خوف دخول الصبيان أو المسافرين ألا يكون الأَوْلى إغلاقها تماما إن استعملت محلا للنوم ووسيلة للمغالبة والتدافع بين أبناء الأمّة الواحدة وتعلّة لفرض خطاب وإمام ثبت ولاؤه لغير الوطن، فعلى الجهات المسؤولة أن تحافظ على بيوت الله من أن يقع الانحراف بها عن مهمّتها الأساسية وهي التعبّد.
4) من العادات التي دأبت عليها وسائل الإعلام لدينا إعداد حصّة دينية قبل آذان المغرب غير أنّ الحصص التي تابعناها طوال السنوات الماضية اتصفت بصفتين:
* على مستوى الشكل كلّ الذين يقدّمون هذه البرامج يظهرون في لباس تقليدي فاخر باهض الثمن مصحوبا بكُشَيطة ويصرّون على إضافة لفظ الشيخ لأسمائهم متشبّهين في ذلك بالأزهر في مصر والحال أنّ القياس في هذه الحالة فاسد لأن الكاكولة التي يلبسها الأزاهرة خاصّة بالمنتسبين للتعليم الأزهري وهي المقابل الظاهر للباس الكهنة الأقباط فكما أنّ للكنيسة القبطية بابا ورهبان ومدارس فللأزهر كذلك إمام أكبر وشيوخ ومدارس، أما بالنسبة للجبّة التونسيّة فهي لباس تقليدي يلبسه الناس جميعا في الأفراح وفي الصيف وفي مختلف المناسبات وليس خاصا بالزيتونيّين ولا يحمل أيّ معنى ديني يضيفه للابسه، واللافت للنظر أنّ الذي يشاهد هذه الحصص يشاهد عرضا للأزياء والألوان ممّا يفقد الهدف من الحصّة أيّ سَمْتٍ جدي، فالجبّة لدى هؤلاء إنما هي وسيلة لفرض خطاب لا يمتلك مقوّمات الإقناع الذاتية بالاستناد إلى عكاكيز من خارجه للإيهام بأنّه ينطق بلسان الله والشرع في أرضه، واللافت للانتباه أن الجبّة انتشرت انتشار النار في الهشيم بعد سنة 2011 في الجامعة الزيتونية وفي المظاهرات التي شارك فيها الأئمة دفاعا عن إمام معزول أو سندا لإمام نهضوي كما حدث في صفاقس وفي تونس إبان عزل بعضهم، لذا قدّرتُ أنّ لبس الجبة الذي يكون مصحوبا بخطاب ديني هو تحيّل على خلق الله وتدليس لم يأمر به لا الشرع ولا العرف.
* أما على مستوى المضمون فإن الأمر أشنع وأفظع فقد تابعت البرامج التي وقع بثها في إبانها ونشر بعضها فيما بعد على صفحات الفايسبوك لأصل في النهاية إلى القول بأنّ الخطاب الذي يروّج فيها خطاب رثّ وبائس لا يمتلك مقوّمات الخطاب لا من ناحية اللّغة ولا من ناحية المضامين، هو إلى أسلوب الفداوي أقرب حيث يستهدف إغراب السامعين بالأخبار الملفّقة وأكاذيب القصّاص من ذلك تقديم الصحابة في صورة الملائكة الأتقياء الأنقياء والحال أنهم اختلفوا ورفعوا السيوف في وجوه بعضهم البعض بعد وفاة الرسول(ص)، ومن الأكاذيب التي دأبت البرامج الدينية على ترويجها فرية الإعجاز العلمي في القرآن حيث يتصيّد البلّه الاكتشافات العلمية لربطها بهذه الآية أو تلك حتى يثبتوا أن القرآن موحى به من عند الله فضلا عن ادعائهم بأن القرآن جاء لينظم الحياة البشرية وأوجد تشريعات تحفظ الحقوق وتتكفّل بحسن تسيير الجماعات والأفراد والحال بحيث يكسبون تصرفاتهم واجتهاداتهم قدسية بنسبتها إلى القرآن وهو براء منها لأنه ليس بكتاب علم أو تشريع بل هو كتاب عقيدة وأخلاق والرأي عندي أن المصلحة تقتضي التخلص من هذه النوعية من البرامج لضررها المتحقق على الناشئة خصوصا.
سيدي الرئيس
آمل أن تجد رسالتي هذه حسن القبول حماية للدين من تزيّدات الجهلة والمتاجرين به وحفظا للدولة من أن تساهم في نشر عادات تأباها النفوس السوية.
وفي حفظ الله دمتم
أنس الشابي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: