أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1179
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الصّلات الثقافيّة بين تونس ومصر قديمة تعود إلى ما يفوق الأربعة عشر قرنا، فقد مثّلت الزيتونة والأزهر العلامة البارزة لامتداد هذا التواصل عبر الزمان باعتبارهما أكبر معلمين دينيين تاريخيين وأهمّ جامعتين تخرّج فيهما روّاد النهضة في البلدين، ورغم أن الكتابات حول هذا الموضوع قليلة إلا أنه تجدر الإشارة إلى دراستين هامتين لتونسيّين اثنين عضوين في مجمع اللغة العربية في القاهرة:
الأولى منهما للعلامة حسن حسني عبد الوهاب نشرها في مجلة الثقافة التي تصدر في مصر في العدد 322 بتاريخ 27 فيفري 1945 تحت عنوان "الصّلات بين تونس ومصر" تناول فيها مظاهر الإخاء التونسي المصري في مختلف العهود الإسلامية مختتما كل ذلك بقوله: "والحقّ أن التاريخ المدني والأدبي والعلمي محشود بما يوضّح الإخاء بين القطرين ويؤكّد التعاون بين الشعبين والله المسؤول أن يديم عليهما بركات المحبّة الخالصة والودّ السّرمدي في ظلّ العروبة المقدّسة" ومن الجدير بالملاحظة أن مجلة الثريا التي تصدر في تونس نشرت مقتطفات مطوّلة من هذه الدراسة في عددها الرابع من السنة الثالثة بتاريخ أفريل 1946.
والثانية للعلامة محمد الفاضل ابن عاشور وهي عبارة عن محاضرة ألقاها في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة سنة 1970 تحت عنوان "امتزاج الأزهر بالزيتونة"(1) تناول فيها سِير بعض العلماء الذين كانت لهم زيارات إلى البلدين والمناهج الدراسية في الجامعتين وغيرها من المسائل التي تؤكّد عمق الترابط بين الأزهر والزيتونة، لمّا عُيِّن الشيخ الخضر حسين عضوا في هيئة كبار العلماء ثم شيخا للأزهر نشر الشيخ الفاضل مقالا في جريدة الأسبوع في شهر ماي 1953 عنوانه "أي مغزى سام في وضع الشيخ الخضر حسين على رأس الأزهر الشريف"(2).
وقد تواصلت العلاقات بين البلدين اتساعا وانتشارا لتشمل مختلف الفئات الاجتماعية وفي اختصاصات متنوعة وسوف نغفل ذكر من اشتهر من الجانبين كبيرم الخامس(3) وبيرم التونسي(4) والخضر حسين(5) ونازلي فاضل(6) ومحمد فريد(7) ومحمد بن عمر التونسي(8) وغيرهم لنتناول بالتعريف شخصيّات أخرى أدّت أدوارا ثقافية في البلدين ولكنها لم تنل حظّها من الذكر والإشادة بما قدّمت من طيّب الأعمال ومن بينها:
حمزة فتح الله (1849 - 1918)
بعد أن أنشئت جريدة الرائد التونسي وصدر أوّل عدد منها في 22 جويلية 1860 رأى خير الدين باشا أن يستعين بمن لديه خبرة في الصحافة فوقع اختياره على الشيخ حمزة فتح الله الذي حرّر في عدّة صحف مصرية أشهرها البرهان والاعتدال والكوكب الشرقي، كما عمل الشيخ حمزة مفتشاً للّغة العربية وتولى رئاسة قلم الإنشاء والترجمة واستعان به علي مبارك أحد روّاد النهضة في مصر في تطوير المناهج في مدرسة دار العلوم، وكان الواسطة في جلب هذا الرجل إلى تونس الشيخ محمد بيرم الخامس حسبما هو مُـبَـيَّـنٌ بالعدد الثاني من العام السابع عشر من الرائد الصادر في 9 فيفري سنة 1876، وقد تعاقدت الدولة التونسية مع الشيخ حمزة فتح الله على رئاسة تحرير الرائد التونسي لمدّة خمسة أعوام بجراية شهرية مبلغها 500 فرنك، فتح الشيخ بابا جديدا في الرائد التونسي عنوانه مُلح أدبية وألغاز علمية نشر فيه الكثير من أدبه وشعره في المناسبات التونسية كالمواكب الرسمية والأعياد الدينية، من ذلك أنه لمّا زار خير الدين باشا المطبعة قال فيه حمزة فتح الله ارتجالا:
دار الطباعة خير الدّين شرّفها***رِكابه فازدهت منه ضواحيها
وغرّد العزّ ميمونا بحضرته***يا دار حلّت بك الدنيا وما فيها
بعد أربع سنوات أنهيت العقدة مع الشيخ حمزة فتح الله وغادر تونس التي اختلط بنخبها فكانت له معهم مساجلات ومناظرات ومجالس علمية(9)، لحمزة فتح الله مؤلّفات متعدّدة في اللّغة العربية من بينها أهمّ كتبه "المواهب الفتحيّة في علوم اللّغة العربية" في مجلدين ضخمين بجانب مؤلّفات أخرى عن المرأة وغيرها.
محمّد طلعت (كان حيّا سنة 1907)
ولد في القاهرة وزاول تعليمه بالجامع الأزهر على يد أعلام القرن الثالث عشر للهجرة وهو من المتميّزين في الكتابة نظما ونثرا (10).
عمل في جريدة المؤيّد التي كانت تعتمده في المهمّات وتبعث به إلى بعض الممالك الإسلاميّة بصفته مراسلا للجريدة وبإشارة من الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيّد توجّه إلى البلاد الروسيّة لدراسة أحوال المسلمين هناك حيث عُهد إليه برئاسة تحرير جريدة التلميذ التي كانت تصدر في سان بطرس بورغ في عام 1907، بعد رجوعه إلى مصر ألف محمّد طلعت كتابا دعاه (السير والنظر) طبعه عام 1907، روى فيه أخبارا عن رحلته إلى روسيا وخروجه من مصر وعودته إليها مع الوعد بطبع القسم الثاني من هذا الكتاب الذي قال عنه إنه سيتحدّث فيه عن رحلته إلى تونس وطرابلس ومالطة وعلاقة المسلمين بالفرنسيّين وسياسة الإنجليز مع العرب.
بعد أن فارق البلاد الروسيّة اتجه إلى تونس باحثا عن عمل فيها، في شهر ماي 1907 حلّ محمّد طلعت بالحضرة التونسيّة حاملا توصيات من بعض التونسيّين الذين عرفهم بالمشرق إلى أصدقائهم هنا ليأخذوا بيده ويساعدوه في إيجاد عمل ويسهّلوا له أمر الاشتغال بالصحافة، فتردّد على إدارات الصحف العربيّة لاستخدامه إلا أنه لم يتمكّن من العمل في أيّ منها لأنها تعتمد التطوّع ولا تدفع أموالا لِمن يكتب فيها، ولأن عثمان بن عمر(11) صاحب جريدة الحقيقة لم يكن من ذوي الخبرة والتجربة الصحفية قرّر الاستعانة به ففسح له المجال وقابله أحسن قبول وأوكل إليه مهمة الإشراف على تحريرها بداية من 8 جوان 1907.
وقد اغتنم محمّد طلعت فرصة تحريره في جريدة الحقيقة فأراد الثأر لنفسه من الصحفـيّين التونسيّين الذين لم يقبلوا به في جرائدهم فشن أوّلا حملة على جريدة الصّواب وهجا صاحبها محمد الجعايبي بأبيات منها قوله(12):
رأوك بالعين فاستغوتهمو ظنن***من حسن وجهك، والتغرير للصور
فـكان ذلك مـنهم ضلّـــة بـدرت***ولـم يروك بـفـكـر صادق الـخـبـر
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته***كلؤمك استصغرته العين بالنظر
والنجم يشبه منك اللؤم في عظم***والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ثم التفت إلى البشير الفورتي صاحب جريدة التقدّم فأخذ يشتمه من حين لآخر، في ذلك الوقت نشرت التقدّم ترجمة لكتاب (خطر الإسلام) فاتخذ طلعت من ذلك فرصة للطعن في الفورتي والقول بأنه مأجور لترجمة الكتاب ونشره، وقد ساندته في ذلك بعض الصحف التونسيّة كجريدة الحقيقة وبوقشة وغيرهما، كما عمد إلى نشر كتاب مفتوح في الجريدة خاطب فيه الباي ودعاه إلى سجن الفورتي وإغلاق مطبعته حتى يطمئن الناس على أمور دينهم ودنياهم، هذا السلوك الذي اتّبعه طلعت ضد الفورتي أثار ريبة دار الإقامة العامة الفرنسية فلم تقف موقف المتفرج خصوصا وأن مؤلّف الكتاب فرنسي ومترجمه من دعاة التقارب العربي الفرنسي، فرَفْـعُ أمر الناشر إلى القصر الملكي تجاوز لدار الإقامة العامة وسابقة تفتح بابا يَلِجُ منه أصحاب القضايا إلى الباي لقضاء مآربهم، وهو ما دفع برئيس قلم المطبوعات الفرنسي إلى الأمر بطرد محمّد طلعت من تونس فاختار هذا الأخير السفر إلى طرابلس ومنها إلى مصر حيث جريدة المؤيد التي دعته إلى العودة للعمل فيها فسافر إلى بلاد فارس والأفغان وقام بسياحة أخرى كان فيها مراسلا لجريدته في كابول وطهران.
محمد دربال (....-.....)
هو الحاج محمد دربال التونسي كما ورد اسمه على أغلفة الكتب التي نشرها، نشأ في مدينة بنزرت ومنها انتقل إلى مصر حيث أسّس دار نشر ومكتبة سماها المكتبة العلميّة العموميّة الكائن محلها في شارع الحلوجي في مصر وقد طبع سنة 1908 كتاب "الحمّامات المعدنيّة" لبيرم الخامس كما نشر عددا كبيرا من الكتب التي أعلن عنها من بينها "جنة الولدان في الحسان من الغلمان" و"الكنس الجواري في الحسان من الجواري" و"قلائد النحور من جواهر البحور" للشهاب الحجازي، وكتاب "تحفة المجالس ونزهة المجالس" للسيوطي كما أعلن عن طبع كتب أخرى كأحاسن المحاسن ونثار الأزهار في الليل والنهار، والمعلومات عن دربال شحيحة وتكاد تكون معدومة لا تتجاوز ما نشر عنه الحبيب شيبوب(13) أو أغلفة كتبه حيث نجده مرّة يصف نفسه بالكتبي في شارع الحلوجي كما هو وارد في الحمامات المعدنيّة ومرّة يصف نفسه بالتاجر في الفحامين في كتاب تحفة المجالس، وإن كانت المنطقة واحدة فإن المهنة ليست نفسها.
لم تتوقف مساهمة التونسيين في طبع الكتب على محمد دربال بل نجد تونسيا آخر طبع هو الآخر على نفقته مجموعة من الكتب وهو الحاج محمد ساسي أفندي التونسي المغربي كما ورد اسمه على غلاف طبعته لكتاب المواقف للإيجي يقول محمود الطناحي عند حديثه عن مطبعة التقدم العلمية: "وممّا نشرته هذه المطبعة.... كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني على نفقة محمد ساسي المغربي وكان تاجرا بالفحامين المتفرّع من شارع الغورية بالقرب من الأزهر ثم تولّى الإنفاق على طبع الكتب ومن ذلك ممّا طبعه بتلك المطبعة الأغاني سنة 1323هـ /1905م وقد أصدره مذيّلا بالفهارس ومكمّلا بالجزء الحادي والعشرين وقد ظلت هذه الطبعة هي الأكثر تداولا بأيدي الباحثين والمحقّقين... وعلى نفقة محمد ساسي المغربي أيضا طبع بهذه المطبعة الأجزاء من 3 إلى 7 من كتاب الحيوان للجاحظ 1325هـ /1907م"(14) بجانب ما ذكر طبع الحاج محمد ساسي المواقف لعضد الدين الإيجي بشرح الجرجاني وتحشية السيالكوتي ومولي حسن جلبي بن محمد شاه الفناوي في مطبعة السعادة سنة 1325هـ.
علي الجرجاوي (1876-1961)
قدم إلى تونس ولم يستقرّ بها بل مثّلت نقطة عبور إلى غيرها شأنه شأن العديد من المصريين الذين دوّنوا شهاداتهم عما شاهدوا في تونس مثل:
1) عبد المجيد كامل(15) الذي نشر القسم الأوّل من الجزء الثالث من رحلته التي سمّاها "في بلاد الناس أو رحلة الشتاء والصيف" وخصّصه لمشاهداته في تونس في حوالي 80 صفحة حلاّها بصور لذوات محلية، كما وصف مدن تونس وسوسة والمهدية والكتاب رغم صغر حجمه لا يخلو من فائدة (16).
2) محمد فريد الزعيم الوطني، نشر رحلته إلى تونس سنة 1902 مفردة مرّة واحدة وطبعت في مطبعة الموسوعات بشارع باب الخلق بمصر ولم يتمّ بيعها بل وقع توزيعها مجانا، وقد دامت رحلته إلى تونس 20 يوما بعد أن وصلها يوم الأربعاء 13 أوت 1902، أما رحلته الثانية إلى تونس فقد نشرت أخبارها في جريدة المؤيّد خلال شهري ماي وجوان 1905، ذكرت نازك سابايرد في قائمة مصادرها أنها اعتمدت كتابا لفريد جمع فيه كل رحلاته عنوانه "من مصر إلى مصر، رحلات 1901، 1902، 1903، 1904" طبع في الإسكندرية سنة 1905(17) إلا أننا لم نتمكن من الاطلاع عليه، ومن الجدير بالملاحظة أن المؤلف قابل العديد من الذوات التونسية ذات الحيثيّة وتحدّث عنهم في رحلته كالبشير صفر ومحمد العزيز بوعتور ومحمد بن عثمان الحشايشي ومحمد الجودي وخليل بوحاجب وغيرهم كما وصف بعض المدن التي مرّ بها كالعاصمة وصفاقس والجمّ وتناول بالبحث مسائل التعليم والمحاكم الشرعية والنظام السياسي ومحاولته مقابلة الباي ودور الإقامة العامة والمعمّرين الفرنسيّين بحيث تمثل هذه الرحلة شهادة مهمّة على العصر في تونس في بداية القرن العشرين وقد تناولتها بالبحث في كتابي "وصف تونس في بداية القرن العشرين".
أما رحّالتنا الثالث فهو علي بن أحمد بن علي الجرجاوي وُلد في صعيد مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر درس في الأزهر ثم اشتغل في الأعمال الحرّة، أسّس جريدة "الإرشاد" التي كان يصدرها بجانب عمله محاميا بالمحاكم الشرعية، له بعض التآليف التي تناولت الردّ على بعض ما ورد في دراسات المستشرقين وحكمة التشريع الإسلامي وفلسفته توفّي في شهر جانفي سنة 1961عن 85 سنة فيكون بذلك ميلاده فيما بين سنتي 1876 و1877(18).
سنة 1906 وبعد انتصار اليابان على روسيا تقرّر عقد مؤتمر كبير للمقارنة بين الأديان في طوكيو وتمّ الإعلان عن ذلك في مختلف الجرائد في الدول الإسلامية وقد تحمّس لهذا المؤتمر علي الجرجاوي الذي كتب في جريدته حاثا ملوك المسلمين والأزهر على المشاركة فيه وتأليف وفد إسلامي يساهم في أعماله غير أن دعوته لم تجد استجابة إلا من بعض الأفراد من بينهم تونسي رافقه في رحلته هذه ولكنه تعمّد إغفال ذكر اسمه، ومن الجدير بالملاحظة أن الجرجاوي خصّص لتونس حوالي 50 صفحة من بين 236 وصف فيها المدن التي مرّ بها والوضع الذي عليه التونسيون في ظل الاستعمار كما أشاد بالشاعر الشيخ صالح السويسي القيرواني (1878 – 1941) الذي يبدو أنه هو الواسطة في قدومه إلى تونس لأن هذا الأخير وإن لم يسافر إلى مصر إلا أنه كان على علاقات وثيقة بالنخب هناك إذ نشر كتابه "منجم التبر في النثر والشعر" في مطبعة السعادة في القاهرة سنة 1906، يقول عن علاقته بمصر: "ثم شرعت أحرّر وأرسل ما أحرّره تارة إلى مجلة الإسلام وأخرى إلى مجلة الفنون"(19) كما نشر الشيخ مراثي لكبار الشخصيات المصرية التي ساهمت في تكوينه كمحمد عبده وحافظ إبراهيم ورشيد رضا ومصطفى كامل مؤسّس الحزب الوطني المصري الأمر الذي يعني أنه كان على علاقة وثيقة بالفضاء الثقافي المصري خصوصا منه الإسلامي وهو ما يمثل نوعا من التواصل المنتشر بين أفراد النخبة عن طريق المجلات والجرائد والكتب وفي الجانب المصري نجد أن بعض نخبها كانت على صلة هي الأخرى بتونس وبرموزها عن طريق النشر من بين هؤلاء صالح مجدي (1827–1881) أحد أعيان الأزهر وأحد أدبائها نجده يرسل عددا من قصائده للنشر في الرائد التونسي مادحا الصادق باي وخيرالدين باشا ورادا على تهنئة نجل المرحوم سعيد بك الشماخي وكيل تونس بمصر بمناسبة حصوله على نيشان وصله من الدولة التونسية وكلّ هذه القصائد منشورة في ديوانه الذي طبع في مطبعة بولاق سنة 1893.
لمّا وصل الجرجاوي إلى نابولي تحدّث عن صديقه أحمد باشا المنشاوي وروى إكرام المصريين له في الآستانة لمّا عرفوه فالرجل فضلا عن مبرّاته الكثيرة كان رجلا وطنيا يقول الجرجاوي: "وأقام المنشاوي (في الآستانة) معظما محترما حتى سافر إلى تونس ولا داعي لذكر ما قوبل به سعادته في تونس لأن الوقت غير مناسب"(20)، لا نعلم شيئا عن رحلة المنشاوي إلى تونس وإن وجدنا شاعرنا صالح السويسي يرثيه سنة 1904 بقصيد نشر أوّلا في جريدة الصواب العدد 41 وثانيا في "كتاب منجم التبر في النثر والشعر"(21).
البشير الفورتي (1884-1954)
أصيل جزيرة جربة تعلّم في الزيتونة وفي المدرسة الخلدونية، أنشأ مطبعة التقدم ونشر بها جريدة أسبوعية أوّلا ثم يومية تحمل نفس الاسم بعدها أصدر جريدة أسبوعيّة فكاهيّة هي ولد البلاد، بعد أن توقفت الجريدتان عن الصدور قام الفورتي برحلة استطلاعيّة إلى طرابلس وبعض البلدان في أوروبا إلى أن استقرّ به المقام في تركيا حيث أصدر صحبة عبد العزيز جاويش التونسي الأصل(22) جريدة الهلال العثماني وهناك توفرت له الفرصة ليصبح مستشارا لخديوي مصر عباس حلمي الثاني لمدّة سنة ونصف وقصّة ذلك يرويها محمد الصالح المهيدي قال: أخذ خديوي مصر عباس حلمي باشا إذنا من دار الخلافة لإنشاء مدرسة لتعليم اللّغة العربيّة لأبناء العرب الذين يقيمون بالآستانة، واشترى من ماله الخاص عقارا على ضفّة البوسفور... ومن رجال معيَّته شخص عرفه البشير الفورتي لمّا كان في طرابلس يدعى شيمي بك(23) وقد كان ركن حرب بمصر أحيل على المعاش له دالّة على الخديوي لأنّه ترعرع بين أحضانه وربّاه، استدعى الفورتي فلمّا حضر بين يديه قال له: "إن أفندينا قد أمر ببناء مدرسة وإنه قد أوكل إليَّ اختيار مدرّسيها، وقد وقع اختياري عليك، وهو الآن مقيم بسويسرة وعند عودته منها أقابلك به، ولا تتحدّث أمامه إلاّ بما أشير به عليك وأقبل منه مبدئيّا ما يرغب فيه ثم نتفاهم فيما بعد"، تمّت المقابلة ورضي الفورتي بما عُرض عليه، وبعد خمسة عشر يوما من هذه المقابلة تكرّرت أثناءها المقابلات وقع العدول عن خطّة التعليم وأصبح الفورتي من رجال المعيّة يتنقل مع الخديوي بين مصر وتركيا وسويسرا وأوروبا الوسطى في كلّ عام عدّة مرات وخُصِّص له جناح بقصر القبّة بمصر وممّا أثر عن الفورتي أنه كان يقول بأن الأيام والشهور التي قضاها في المعيّة هي أسعد أيام حياته، وإنه كان من قسم المعيّة التركيّة لأنه أُخذ من الآستانة(24)، هذه المرحلة من حياة الفورتي بقيت مهملة ولم يتحدث عنها سوى محمد الصالح المهيدي نقلا عن الفورتي ذاته.
ممّا أثر عن أمير الشعراء وسيّد القوافي أحمد شوقي قوله: "أخاف على الفصحى من عاميّة بيرم" هذا التونسي الذي تتلمذ له صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمان الأبنودي وغيرهم من كبار الشعراء سيحفظ له التاريخ أنه نشر العامية المصرية وأبدع في استعمالها لنقل نبض الشارع وحكايات المواطن العادي في حياته اليومية فطوّرها وجعلها مستساغة ومحبّبة إلى أذن الإنسان العربي، وسيبقى بيرم التونسي علامة من بين علامات كثيرة للتواصل الثقافي بين تونس وأرض الكنانة حماهما ربّ البريّة.
-------
الهوامش
1) "ومضات فكر" الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، الدار العربية للكتاب، تونس وليبيا 1982 ج2 ص395.
2) المصدر السابق، ج1 ص309.
3) عنه في ""محمد بيرم الخامس بيبليوغرافية تحليلية مع ثلاث رسائل نادرة" إعداد المنصف بن عبد الجليل وكمال عمران نشر بيت الحكمة 1989.
4) عنه في "محمود بيرم التونسي في تونس" لمحمد صالح الجابري، دار الغرب الإسلامي 1987.
5) عنه في "محمد الخضر حسين، حياته وآثاره (1873-1958)" لمحمد مواعدة، الدار التونسية للنشر 1974.
6) عنها في "الأميرة نازلي فاضل رائدة النهضة في مصر وتونس" بحث واختيار أبو القاسم محمد كرو، دار المغرب العربي، تونس 2002.
7) عنه في "وصف تونس في بداية القرن العشرين" تدقيق وتقديم أنس الشابي، دار آفاق برسبكتيف للنشر، تونس 2019.
8) عنه في "محمد بن عمر التونسي، حياته وآثاره" لرضوان الكوني، صادر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة ذاكرة وإبداع العدد14، تونس 2003، ولجمال الدين الشيال كتاب "تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي" نشر دار الفكر العربي مصر 1951 وكتاب "دراسات في التاريخ الإسلامي" نشر مكتبة الثقافة الدينية، مصر 2000.
9) عنه في الأعلام ج2 ص280 وتاريخ الصحافة العربية لدي طرازي، ج3 ص 48 و62 و64 وج4 ص217، ورسالة البشير الفورتي عنه التي أعاد نشرها كاملة صديقنا المرحوم الجيلاني بن الحاج يحي في كتابه عن الفورتي الصادر في سلسلة ذاكرة وإبداع عن وزارة الثقافة، تونس 2005، ص86 وما بعدها، عنه كذلك في "تاريخ الصحافة العربية بالبلاد التونسية" لمحمد بن الحسين المنشور في جريدة الزهرة بتاريخ 23 مارس 1944 وفي الرحلة الحجازية للسنوسي الشركة التونسية للتوزيع 1978، ج3 ص331، وفي تاريخ الصحافة العربية التونسية لمحمد الصالح المهيدي.
10) عنه في معجم المؤلفين لكحالة، ج3 ص369، وفي معجم المطبوعات العربية والمعرّبة لسركيس ص1672 وفي من أعلام الصحافة العربية في تونس لمحمد الصالح المهيدي.
11) ترجم له الطيب بن عيسى في كتابه "مشاهير المهاجرين والرحالين" مخطوط منه نسخة أهداني إياها المرحوم أبو القاسم محمد كرو ص96 بقوله: "ولد بتونس وتعلّم بالكُتَّاب ثم بالمدرسة الصادقيّة، في عهد شبابه أصدر الحقيقة اليومية بحروف رصاصيّة لأن الرشديّة ذات الأحرف الخطية كانت سبقتها في الصدور، والأستاذ عثمان بن عمر قضى مدّة قصيرة متعاطيا مهنة الصحافة ثم سافر وأقام بالمغرب الأقصى مدّة تقرب من خمسين عاما وحصل على ثروة طائلة.... وكانت ولادته أواخر القرن الثالث عشر للهجرة أما وفاته....فعن عُمُر يناهز الخمسة والستين عاما"، ذكر المهيدي في واحدة من وثائقه المودعة في دار الكتب الوطنية بأنه ولد سنة 1871 وتوفي سنة 1929، في عددها الصادر يوم 23 أوت 1946 نشرت جريدة سعادة الشباب مقالا عن المرأة الإفريقية ذكرت فيه أن للمرحوم عثمان بن عمر ابنة اسمها عائشة وهي أوّل فتاة مسلمة من تونس تحرز على شهادة الليسانس في الرياضيات كما أنها أول فتاة مسلمة تونسية تعتلي منبر الخطابة بجمعية قدماء الصادقيّة، عنها في مجلة الثريا السنة 3 العددان 8 و9 بتاريخ أوت وسبتمبر 1946،
12) جريدة الحقيقة، العدد 116 بتاريخ 15 جويلية 1907.
13) جريدة العقد بتاريخ 20 جويلية2004.
14) "الكتاب المطبوع بمصر في القرن التاسع عشر" محمود محمد للطناحي، كتاب الهلال، دار الهلال مصر 1996، ص100 و154.
15) عنه في معجم المؤلفين ج2 ص310.
16) طبع المطبعة العثمانية في بيروت، والكتاب ألف سنة 1913
17) "الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة" نازك سابايارد،مؤسسة نوفل، بيروت 1979، ص541.
18) مقدمة الطبعة الثانية لرحلة الجرجاوي الصادرة عن دار كشيدة ص5.
19) صالح السويسي القيرواني لأحمد بن عبد الله سلسلة ذاكرة وإبداع العدد 15 وزارة الثقافة تونس 2003، ص37.
20) -"الرحلة اليابانية" علي الجرجاوي، طبعت بمطبعة جريدة الشورى بالفجالة مصر 1352ه، ص28.
21) طبع بمطبعة السعادة، مصر 1906، ص64.
22) عن جاويش العدد 44 من سلسلة أعلام العرب "عبد العزيز جاويش من روّاد التربية والصحافة والاجتماع" لأنور الجندي، القاهرة 1965 و"رجال عرفتهم" لعباس محمود العقاد، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 1992 ص 131 و"أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" لفهمي جدعان، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1979، ص 354.
23) هو سعيد الشيمي رئيس بوليس المعيّة عنه في كتاب "أوراق محمّد فريد" الصادر عن مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصرة، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978، المجلد الأوّل ص 76 و77 و111.
24) مقال "السيد البشير الفورتي بالمشرق" منشور في كتاب من أعلام الصحافة العربية في تونس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: