أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1045
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تحية طيبة
وبعد
هذه أوّل مرّة أتوجّه فيها إلى سيادتكم بالخطاب راجيا التدخل السريع لأني لم أجد لحدّ الآن ردّ فعل من أيّ من الجهات المعنيّة بالتراث وبالثقافة وبالمحافظة على إرث الأمة رغم خطورة ما يحدث.
لا يخفى عليكم سيادة الرئيس أن الدولة بعد الاستقلال عملت على تجميع المخطوطات التي كانت موزّعة ومشتّتة في الزوايا والمساجد والبيوت عرضة للنهب والتهريب والإتلاف، وللمحافظة عليها قامت بضمّها إلى بعضها البعض ووضعتها في المكتبة الوطنية حتى تُمكّن روادها من استغلالها والاستفادة منها،كما سارعت إلى سنّ التشريعات من ذلك الأمر عدد 296 المؤرّخ في 7 سبتمبر 1967 المتعلق بتجميع المخطوطات التونسية، خلال العشر سنوات الماضية وفي ظل الفوضى والتسيّب الذي عرفه الوطن تمكّن البعض من ارتكاب جرائم في حق تراث الأمة وهو ما دفعني إلى الكتابة على صفحتي منبّها إلى خطورة ما حدث ويحدث كما أن الصحافة ومن بينها الوقائع سبق لها أن أثارت الموضوع في مقال تحت عنوان "سارق الكتب في باب منارة" مثيرة شكوكا كبرى حول الأدوار التي تلعبها دار البناني في التفريط بمخزوننا الثقافي.
فقد علمت هذه الأيام أن النسخة الخطية الوحيدة في العالم لكتاب "زهر الربيع في محاسن البديع" لإبراهيم الخراط الصفاقسي المتوفى سنة 1836 انتقلت ملكيتها إلى دار البناني والأمر على غاية من الخطورة فهذا الكتاب يقع في حوالي 630 صفحة، كتبه صاحبه بتشجيع من عامل صفاقس في تلك الفترة محمد بن فرحات الجلولي الذي أهداه المؤلف نسخته الأصلية والوحيدة التي حافظ عليها آل الجلولي إلى أن آلت ملكيتها إلى المنعم المبرور سيدي أحمد الجلولي حتى أنه من شدّة حرصه عليها فكّر في وضعها أمانة في أحد البنوك وفق ما روى لي ولكن القدر لم يمهله رحمه الله، وقد أشاد بهذه النسخة وحدّد الجهة التي تملكها كلّ من محمد محفوظ في كتابه "تراجم المؤلفين التونسيّين" الجزء الثاني ص 189 وحسن حسني عبد الوهاب في كتاب العمر المجلد الثاني ص347 الترجمة رقم 397 طبعة الحبيب اللمسي، فضلا عن بعض المقالات في الثريا وفي غيرها، هذه النسخة الفريدة والنادرة اشترتها دار البناني من الورثاء والخوف كل الخوف أن يتمّ التفريط فيها للأجانب لأن الدار مؤسّسة تجاريّة ربحيّة وليست ثقافية فهي بذلك غير تابعة لوزارة الثقافة التي لا تعلم شيئا عن محتوياتها، حفظا لتراث الأمة وصونا لآثار أسلافنا على الدولة أن تبادر بمصادرة هذه النسخة أو اشترائها إن لزم الأمر ووضعها في المكتبة الوطنية فليس أخطر على تراثنا من أن يتكاتف عليه الجهلة مع تجار السوء، علما وأن السلطات الوطنية سبق لها أن تدخلت لمنع مزاد علني كان من المزمع أن تنظمه دار دروو Drouot في فرنسا خلال سنة 2020 لبيع قطع لا تقدر بثمن تعود ملكيتها كذلك لآل الجلولي آلت إلى الفقيد سيدي أحمد الجلولي من بينها ملابس رسميّة تعود إلى مطلع القرن العشرين ومخطوطات دينية وقصائد ومراسلات رسميّة من القرن التاسع عشر.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة المتعلقة بالنوادر من المخطوطات التي تتصرّف فيها الدار المذكورة بل سبقتها أخرى عاينتها بنفسي لأني كنت من روادها صحبة خيرة من الأصدقاء رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء، قلت عاينت بنفسي وقائع لا يمكن أن توصف إلا بالجرائم في حق البلاد من ذلك:
1) كتاب عنوانه "اختصار القدح المعلّى في التاريخ المحلّى" لابن سعيد أبي الحسن بن موسى المغربي وهو مخطوط في تراجم الأندلسيّين الذين استقرّوا بتونس، توجد منه نسختان في العالم لا غير واحدة في باريس والثانية كانت في المكتبة الأحمديّة التي تم نقلها إلى دار الكتب الوطنية، هذه النسخة الفريدة حبسها أحمد باشا باي سنة 1840 على الجامع الأعظم وعليها تحبيس بإمضاء عدلين ونملك صورة من التحبيس ومن الصفحة الأولى والأخيرة من المخطوط، الغريب في الأمر أن هذه النسخة معروضة للبيع في دار البناني في باب منارة وقد شاهدها نخبة من العارفين، والثابت لدينا أن هذا المخطوط بعد نقله إلى المكتبة الوطنية إثر الاستقلال وقع التفريط فيه للدار من طرف ورثة عثمان الكعاك الذي سبق له أن استلفه من المكتبة وادّعى أنه ضاع وعوّضه بحزب النووي.
2) في واحدة من زياراتي لهذه الدار أطلعني صاحبها على الخطط الهندسية للقصر الرئاسي في قرطاج التي أعدّها كليمون كاكوب الموجودة في حاسوبه وهو أمر على غاية من الخطورة الأمنية لأنه يضع على قارعة الطريق المثال الهندسي لأحد أهمّ المقرّات السياديّة.
3) يعلم كل المتابعين أن شاعر الشباب محمود بورقيبة المتوفى سنة 1956 لم ينشر له ديوان في حياته ولكنه كعادة الشعراء كان يجمع قصائده مخطوطة في كراس آل إلى ملكية دار البناني ولا أدري كيف حصل ذلك؟، هذه النسخة شاهدتها بنفسي لأني كنت منشغلا بنقد كتاب عن الشاعر صدر ضمن سلسلة ذاكرة وإبداع عن وزارة الثقافة.
4) شاهدت في الدار نسخة البهلي النيال من كتابه "الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي" وعليها تصويباته وتصحيحاته بخطّ يده، وقد رغب صديقنا الناشر الحبيب اللمسي رحمه الله اشتراءها ولكنه اعتبر أن 500 دينار وهو الثمن الذي عرضه البناني مبالغا فيه فبقيت لديه ربما إلى اليوم، ولحسن الحظ احتفظ بائعها بنسخة اعتمدت لإصلاح النشرة الثانية للكتاب الصادرة عن دار برسبكتيف آفاق للنشر.
5) من بين ما شاهدت في دار البناني جملة من الوثائق الخطية التي تخصّ الشيخ صالح المالقي شيخ الإسلام المالكي وهو من المتعاونين مع السلط الاستعماريّة والأكيد أنها تحمل إضاءات حول طبيعة العلاقة بين الإقامة العامة ومشيخة جامع الزيتونة في عهده، ولكن كيف الاستفادة منها وهي محجوزة في خزانة شبيهة بخزائن البنوك؟، هذه الخزانة دخلتها وشاهدت ما فيها من نوادر الكتب بالعربية والفرنسية يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر تشبه في حجمها وبما فيها من رسوم وخرائط كتاب وصف مصر في الحملة الفرنسية.
كل هذه الوثائق حصلت عليها الدار من العجائز والأرامل الذين لا يدركون قيمة ما ترك أقاربهم فتباع بأبخس الأثمان أوراقا لا حاجة لهم بها وفق ما يتصوّرون، ولأن صاحب الدار لا علاقة له بالكتاب أو بالثقافة لأننا لم نقرأ له بحثا أو تحقيقا لمخطوط ولم نسمع له محاضرة أو مداخلة فالأكيد أن الغرض من تجميع هذه الوثائق هو بقصد البيع لِمن يدفع أكثر لندرتها، والخوف كل الخوف أن يتمّ التفريط فيها للأجانب، لذا أدعوكم يا سيادة الرئيس ومن خلالكم مؤسّسات الدولة كوزارة الثقافة وإداراتها ووزارة الداخلية والمالية والعدلية أن تسارعوا بوضع اليد على هذه الدار وجرد محتوياتها ومصادرة ما فيها حفاظا على ذاكرة الأمة من أن تبقى في أيدي من لا يؤتمنون حتى على مفحص قطاة وما خفي أعظم.
وفي حفظ الله دمتم
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: