أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1087
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
صدر في الفترة الأخيرة كتاب "دولة الغنيمة، من سقوط نظام بن علي إلى مأزق الانتقال الديمقراطي" للسيّد محمد الطيب اليوسفي عن مؤسّسة ليدرز في حوالي 340 صفحة، وقد سارعت إلى اقتناء الكتاب والاطلاع عليه ممنّيا النفس بأن أجد فيه ما يلقي الضوء على بعض الأحداث أو يوضح بعض مناطق الغموض في العشريّة الماضية التي لمع فيها نجم المؤلف بتعيينه مديرا لدواوين رؤساء الحكومات محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي والحبيب الصيد ثمّ مديرا لوكالة تونس أفريقيا للأنباء في فترة حكم الجبالي والعريض، أي أنه تحمّل مسؤوليات من الصفّ الأوّل في فترة حكم النهضة.
عرفت الطيب اليوسفي أيام كنت أكتب في جريدة الصحافة في بداية التسعينات وللعلم هذه الجريدة وقع تأسيسها بعد السابع من نوفمبر حتى تكون لسانه، في تلك الفترة كان اليوسفي يكتب افتتاحيات الجريدة بدون إمضاء مقابل ثلاثمائة دينار شهريّا كما أن حامد القروي الوزير الأوّل أيامها عيّنه ملحقا صحفيّا مهمته إعداد معرض الصحافة اليومي وكانت له مساهمات أخرى في الإذاعة الوطنية حيث كان يحرّر حديث الصباح الذي يذاع إثر أخبار السادسة كما أنه كان حاضرا في قائمات المتعاونين مع وكالة الاتصال الخارجي التي كانت مهمّتها الأساسية تلميع صورة نظام ابن علي حيث نجد اسمه في آخر الصفحة السابعة من "قائمة في المصاريف التي تخصّ المتعاونين مع الوكالة لسنة 2009" التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة حيث تحصل على 470 دينارا و588 مليما ويليه ترتيبا في نفس القائمة وبنفس المبلغ مفدي المسدي، ونختم هذه النبذة بالقول إن الطيب تقاعد برتبة وزير التي تحصل عليها في فترة الحبيب الصيد، هذه المسيرة من مجرّد ملحق إعلامي إلى وزير في ظرف العشر سنوات التي حكمت فيها النهضة سنجد آثارها في مضمون الكتاب الذي يطرح جملة من التساؤلات كالتالي:
دولة الغنيمة
هو عنوان الكتاب غير أننا بعد الاطلاع عليه لم نجد فيه أيّا من متعلقات الغنيمة فلا الغانمون ذُكروا بأسمائهم أو بصفاتهم أو حتى باتجاهاتهم السياسيّة ولا الغنائم المتحصّل عليها ذكرت هي الأخرى كعقارات أو أموال سائلة أو ترقيات وظيفيّة بحيث باعنا السيد اليوسفي سلعة مضروبة وصندوقا فارغا لنشتري كتابا لا علاقة بين عنوانه ومحتواه، وسبب ذلك يعود إلى أن الحديث عن الغنيمة يحيل إلى الفترة التي حكمت فيها حركة النهضة وهي نفس الفترة التي ترقى فيها اليوسفي من موظف عادي إلى وزير، لذا تعمّد إغفال ذكر هذه الحركة التي تعاملت مع الدولة غنيمة لم تتوقف عن نهبها وعن المطالبة بالتعويضات التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس يوم 25 جويلية 2021، وللتاريخ نذكر بأن عزيز كريشان الوزير المستشار للمنصف المرزوقي تحدث عمّا سكت عنه اليوسفي، ففي ملف الصلح مع أصحاب رؤوس الأموال يقول بأنه كان من المتوقع أن تشرف عليه وزارة المالية والمجلس التأسيسي فإذا به يُسحب من مساره الإداري ويغيّر اتجاهه إلى مقرّ حركة النهضة في عملية ابتزاز فظيعة لكلّ من صُنِّف ضمن رجال الأعمال لتمتلئ تبعا لذلك خزينة الحركة بالأموال المغصوبة(1)، وممّا يثير التعجب حقا أنه حتى في الاتهامات التي وردت في كتاب اليوسفي في حقّ حركة النهضة وهي قليلة جدّا سنأتي عليها جميعها فيما يلي فإنه ينسبها لغيره وينقلها على ألسنتهم مبرّئا نفسه من أن يسيء قلمه أو لسانه للحركة التي عيّنته لسان الدولة والناطق باسمها قال : "وأقرّ إلياس الفخفاخ وزير الماليّة في حكومة علي العريض بالبعض من الأخطاء الكبرى مثل سوء التصرف في موارد البلاد والتعاطي غير العقلاني مع مشروع العفو العام..."(2) فإغفال ذكر الحقائق المعلومة للجميع وتعمّد الطيب اليوسفي التغطية على سياسات حركة النهضة التي أوصلت الوطن إلى الإفلاس أمر يُقصد به تبرير الجرائم التي أتتها في حق البلاد والعباد.
تغييب النهضة
يغطي الكتاب زمنيا العشر سنوات التي حكمت فيها النهضة من سنة 2011 إلى سنة 2021 الأمر الذي يعني منطقيا أنها ستكون حاضرة في مختلف فصول الكتاب، إلا أن اليوسفي تعمّد تغييبها ولم يذكرها إلا مرات قليلة ودون أن يسمّيها.
اغتال منتسبون لحركة النهضة المرحوم لطفي نقض المنسّق العام لحركة النداء وصدرت أحكام باتة بمعاقبتهم بالسجن 15 سنة، هذه الجريمة ذكرها اليوسفي ولكنه تعمّد إخفاء اسم الحزب الذي ينتسب إليه المجرمون قال بأنه تمّ: "تعنيفه وسحله من قبل مناهضين لهذا الحزب"(3) وهو الأمر الذي يقدح في مصداقية كلّ ما ورد في الكتاب لأن إغفال ذكر اسم النهضة لن يبرّئها من الجريمة التي ارتكبها منتسبوها فالغنوشي احتفى بسعيد الشبلي المدان بحكم قضائي بات كما أرسل عبد الكريم الهاروني لزيارة القتلة في بيوتهم، وغاب عن اليوسفي أن الذاكرة وإن أصابها شيء من النسيان فإن الوقائع تبقى عنيدة.
حضور الرئيس ابن علي
تقتضي المنهجية في هذا الكتاب أن يلتزم صاحبه بالفترة الزمنية التي حدّدها لموضوعه وتقع فيما بين مغادرة الرئيس السابق رحمه الله البلاد وأحداث 25 جويلية، غير أن الكاتب خصّص ثلث ما سوّد أو أكثر للقدح في نظام ابن علي بحيث لم يترك نقيصة إلا ألصقها به صحبة سيل من ألفاظ الاستخفاف والاستهانة بالنظام من ذلك قوله بأن النظام وقتها "لم يقدر خطورة التسونامي القادم"(4) و"لكن نظام الحكم في تونس بقي عاجزا عن اكتناه أبعاد... وعن اتخاذ المبادرات والتدابير..."(5) و"لم يستوعب نظام الحكم"(6) و"لم يستوعب... ولم يتحسّس"(7) و"بلغ التنكر للتعهدات أوجه"(8) و"أساء نظام الحكم تقدير... وتوهّم... وظنّ... كما فاته..."(9) و"ذهب في خلد النظام... سوء تقدير السلطة... لم يتم إدراك..."(10) و"لم ينبثق عنه أي تقييم جدي... ولم يتم إدراك خطورة الوضع..."(11)، هذا الكلام كان من الممكن أن يستساغ لمّا يصدر عن أحد خصوم النظام أمّا أن يصدر عن الذي احترف تمجيد ابن علي ونظامه في افتتاحيات جريدة الصحافة والوثائق المالية شاهدة على ذلك فلا يمكن أن يمرّ دون أن يلجم صاحبه، والغريب في الأمر أن اليوسفي نقل كلاما للباجي الذي كان: "يبدي تهكمه على بعض الصحفيّين وغيرهم الذين لبسوا رداء الثورية بعد أن كانوا يمجدون النظام السابق"(12) ولأنه لم يتفطن إلى أن الباجي يقصده هو نقل حديثه متوهّما أنه بمثل هذا الكلام يبرّئ نفسه من "تهمة" تمجيد ابن علي ونظامه موهما القارئ بأنه ثوري وكأن السنوات التي قضاها ملحقا صحفيّا في الوزارة الأولى منذ أن استجلبه حامد القروي إلى سنة 2011 كانت في إطار الإعداد للثورة، لو توقف الأمر عند هذا الحد لهان الأمر لكن اليوسفي ينتقل إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الافتراضات التي لا يسندها واقع وتصبّ في خانة تبرير التآمر على ابن علي واستبعاده رغم رغبته في العودة إلى البلاد قال اليوسفي: "فلو افترضنا أن بن علي رجع بعد أن علم الجميع بمغادرته.... ولو افترضنا أن بن علي رجع في تلك الليلة..."(13) ولأن اليوسفي لا يعرف التاريخ ولا يدرك أن في أحداثه عبرا يجب أن نتوقف عندها من بينها أن من خرج من السلطة يستحيل أن يعود إليها، وتاريخ تونس في القرن العشرين شاهد على ذلك فحكامها الذين أخرجوا من السلطة في النصف الثاني من القرن العشرين لم يعودوا إليها رغم شعبيّة بعضهم وحبّ الناس لهم وهم على التوالي والترتيب المنصف باي والأمين باي والحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي رحمهم الله جميعا، قال عبد الله ابن المقفع: "المُلك سريع الانتقال من أيدي الملوك وليس بعائد إلى من انتقل عنه، لأنه من عجز عن حفظه وهو في يده فهو في إعادته أعجز".
المسكوت عنه
حتى يغطي اليوسفي تعمّده إغفال ذكر الحاكم الفعلي للبلاد في العشر سنوات الماضية التجأ سدًّا للفراغات وتسويدا للأوراق إلى الحديث عن النظام السياسي ودستور 2014 ناقلا في ذلك ما أطنب فقهاء القانون الدستوري لدينا في دراسته وتمحيصه بحيث لم يأت بجديد كل ما هنالك نقول ونقول ونقول دون تحديد مصادرها لإيهام القارئ بأن ما تعيشه البلاد من إفلاس وهوان مردّه النظام السياسي والدستور قال: "إن النظام السياسي الذي أرساه دستور 27 جانفي 2014 هو أصل الداء والخطايا والأخطاء المتراكمة التي عفّنت الأوضاع وأدت بالبلاد إلى منزلقات خطيرة"(14) والحال أن التاريخ يصنعه الأفراد وتصوغه الشعوب والوقائع لا يغيّرها سوى البشر وأفعالهم أمّا المكتوب فيبقى تأثيره محدودا إن لم يكن مرفوقا بالعمل، والذي يعلمه الجميع أن دولة الاستقلال بما حققت من إنجازات ما زلنا ننعم بآثارها وبما تبقى منها إلى اليوم لم يكن السبب في إيجادها النظام السياسي بل رجال آمنوا بالوطن وجاهدوا من أجل تحريره والنهوض به فصنعوا المستحيل بصرف النظر عن الدستور الذي تغيّرت فصوله المرات المتعدّدة، والمتأمّل في تاريخ الحركات الإخوانية التي وصلت إلى السلطة يلاحظ أنها جميعها انتهت إلى طريق مسدود إذ دمّرت دولها وأفلستها وجزّأتها وفتّتتها فمن استلم بلدا موحّدا تركه مقسّما والأمثلة على ذلك نلحظها في سودان الترابي وإيران الملالي وأفغانستان طالبان وليبيا التي ما زالت تعاني ومصر التي أنقذت نفسها بعد سنة واحدة من حكم مرسي العياط، ورغم كل ذلك فإن اليوسفي تعمّد التستر على الجرائم التي ارتكبتها حركة الإخوان المسلمين في تونس في حق البلاد ومن بينها:
1) اغتيال بلعيد والبراهمي، وبما أن التلاعب بملف الشهيدين ظهر منذ الأيام الأولى عقدت لجنة الدفاع عن الشهيدين ندوات صحفيّة داخل الوطن وخارجه كشفت فيها تورّط الجهاز السري لحركة النهضة في عمليات الاغتيال الأمر الذي دفع إلى إعادة النظر قضائيا في هذا الملف لتوفر معطيات جديدة، ورغم كل ذلك يذكر اليوسفي عرضا في الصفحة 135 أن بلعيد كان يتصل بالحبيب الصيد الذي زار قبر شكري وهو أوّل نشاط قام به بعد أن عُين رئيس حكومة !!!! أما البراهمي فقد ذُكر في الصفحة 136 وللأسف لم ينل قبره شرف زيارة الصيد.
2) العديد من الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون الإسلاميون وطالت أمنيينا ومواطنينا ذبحا وتفجيرا لم يتعرّض لها اليوسفي ولا أشار إلى مرتكبيها وحتى الهجوم على بن قردان لا أثر له وكذا تفجير الحافلة الرئاسية ومبنى المتحف والنزل في سوسة والرش في سليانة وغيرها حتى ليخيّل للقارئ أن الكتاب مخصّص لدولة ديمقراطية استقرت مؤسّساتها وتدير خلافاتها داخلها وليس بصدد الحديث عن دولة أنهكها الإرهاب وجمعياته الدينيّة المبثوثة في كامل أرجاء الوطن.
3) لما وصل الجبالي إلى الحكم عَيّن الطيّب اليوسفي مديرا عاما لوكالة تونس إفريقيا للأنباء والذي يجب أن نضعه في الاعتبار أن حركة النهضة كانت تعدّ أيامها عدّتها للسيطرة على وسائل الإعلام وبدأت حملة اكبس في تنظيم اعتصاماتها وللعلم فإن الوكالة هي اللسان الرسمي لنقل أخبار السلطة وبياناتها، فهل من المعقول أن تفرّط حركة النهضة في هذا الموقع لغير أبنائها لو لم تكن مطمئنة إلى اليوسفي الذي بقي في المنصب طوال فترتي الجبالي والعريض وهما فترتان عرفتا من الجرائم ما لا عدّ له ولا حصر بعضه يحاكم بسببه الاثنان هذه الأيام.
والذي نخلص إليه أن تونس فعلا دولة الغنيمة في حكم الإخوانجية حيث لم يستفد منها سوى منتسبوها وأذيالهم والطيب اليوسفي الذي ارتقى في حكمها من مجرد ملحق إعلامي في أدنى درجات السلم الوظيفي إلى وزير في ظرف عشر سنوات فقط.
-------
الهوامش:
1) "LA PROMESSE DU PRINTEMPS" لعزيز كريشان، طبعة سكريبت، صفحة 133 وما بعدها خصوصا الصفحة 135.
2) دولة الغنيمة، ص140.
3) دولة الغنيمة ص137.
4) دولة الغنيمة ص47.
5) دولة الغنيمة ص52.
6) دولة الغنيمة ص57.
7) دولة الغنيمة ص61.
8) دولة الغنيمة ص64.
9) دولة الغنيمة ص73.
10) دولة الغنيمة ص74.
11) دولة الغنيمة ص75.
12) دولة الغنيمة ص132.
13) دولة الغنيمة ص96 و97.
14) دولة الغنيمة ص311.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: