أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 892
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما كنت أرغب في الحديث عن مصطفى بن جعفر لأن دوره في الحياة السياسيّة قبل سنة 2011 وبعدها لم يتجاوز حدود المنفّذ لِما يطلب منه، ولأنّه طوال حياته السياسيّة لا يتحرّك إلا إذا دُعي للقيام بمهمّة ما، فإنه لسبب سيتّضح فيما يلي عاد هذه الأيام عبر بوّابة شمس ف م للحديث عن الديمقراطية والديمقراطيين وإنجازاته في عشريّة حكم الإخوانجية وغير ذلك، فمن هو مصطفى بن جعفر أوّلا وقبل كل شيء؟، ثم ما هو موقعه الحقيقي في الفضاء السياسي في تونس منذ عهد الزعيم بورقيبة رحمه الله إلى اليوم؟.
مصطفى بن جعفر رئيس شعبة في الحزب الاشتراكي الدستوري تربى هناك وكأي رئيس شعبة كان منضبطا فلم نسمع له صوتا أو نشاطا أيام محاكمات اليساريّين والبعثيّين من الطلبة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، اشتغل طبيبا في المستشفيات العموميّة إلى أن بلغ سنّ التقاعد ولم يتعرّض إلى مضايقات في عهدي الزعيم بورقيبة والرئيس ابن علي رحمهما الله، في فترة الصراع على الخلافة وحتى لا تنتقل رئاسة البلاد إلى الساحل مرّة ثانية حاول المستيري الحصول على إمضاء تعيين له من الزعيم بورقيبة وهو على نقالة في طريقه إلى المطار للعلاج بالخارج ولكن هذا الأخير رفض وفق ما ذكر فيما بعد في واحدة من خطبه فلمّا فشلت هذه الخطة ظهرت حركة الديمقراطيّين كتجمع لأبناء تونس العاصمة أو ما اصطلح على تسميتهم بــــ"البلديّة" حتى يكون لهم دور في الفترة اللاحقة بعد وفاة الرئيس "الساحلي"، فهي إذن حركة جهويّة في نواتها الأولى، وحتى تنفي عن نفسها هذا البعد الجهوي البغيض زيّنت قياداتها ببعض الأسماء من جهات أخرى كما رفعت شعار الديمقراطية الذي كان شعارا محبّبا إلى النفوس في منتصف سبعينات القرن الماضي، ممّا أكسبها حضورا سياسيّا في تلك الفترة خصوصا لأن قياداتها قادمة من ثنايا الحكم، بعد خروج أحمد المستيري وتولّي محمد مواعدة "النفطي" الأمانة العامة للحركة استقال مصطفى بن جعفر "البلدي" منها واتّجه إلى تأسيس حركة على مقاسه سمّاها التكتل سنة 1994 لا يتجاوز عدد منتسبيها العشرين وأصدر جريدة لمدّة قصيرة انتهت إلى احتجابها، في تلك الفترة أي في الفترة التي يسمّيها مصطفى بن جعفر اليوم بفترة الاستبداد أيام حكم ابن علي رحمه الله كان يصدر البيانات ويحضر بعض اجتماعات المعارضة، ويعلم كلّ المتابعين أنه أطرد أحد مؤسّسي التكتل وهو على رمضان من الحزب استجابة لرغبة من الحكم أيامها كما انخرط في البداية في حركة 18 أكتوبر إلا أنه انسحب منها فيما بعد تنفيذا لأوامر عليا مقاطعا اجتماعات المعارضة، سنة 2002 تحصّل على شهادة رضا من الحكم ممثلة في التأشيرة، وفي المؤتمر الأوّل لحزبه مكنته السلطة من قاعة الرياضة في المنزه السادس ومن منحة بلغنا أنها مساوية لـ 50 ألف دينار(1) وحضر الجلسة الافتتاحيّة بتكليف رسمي المرحوم فوزي العوام الأمين العام المساعد للتجمع الدستوري الديمقراطي ونالت كلمته استحسان المؤتمرين وتصفيقهم الحارّ.
بعد سنة 2011 أصبح مصطفى بن جعفر ثوريا ومناضلا ولم يتوقّف عن لوك هذه اللوبانة مفتعلا مواقف مسرحيّة حتى يظهر أنه غير قابل للمساومة وأن ثوريّته غير مشكوك فيها من ذلك رفضه وزارة الصحّة في حكومة الغنوشي الأولى، بعد انتخابات مجلس 2011 وفوز حزبه بنسبة من المقاعد اتّجه إلى التحالف مع النهضة عارضا نفسه لمنصب رئيس الجمهوريّة ولكن إصرار المرزوقي فوّت عليه الفرصة فرضي من الغنيمة برئاسة المجلس، وهناك لم يتخلّف عن السعي إلى الحصول على حصّته من كعكة الحكم من ذلك نشره أربعة قرارات في الرائد الرسمي قضت بالترفيع من منح النواب وتمكين نائبته محرزية العبيدي من "منحة تساوي أكثر من ضعف منحة رئيس المجلس وتقارب ضعف مرتب رئيس الحكومة... تسدّد بالكامل من العملة الصعبة"(2)، وفي يوم 29 ديسمبر 2012 وعلى الساعة الواحدة صباحا وفي جلسة مشهودة يقول الأستاذ فتحي ليسير تحصّل النواب على: "زيادة تفوق 50% وأصبحت الآن جزءا من قانون المالية ولا يحق للمحكمة الإدارية ولا لأي هيئة قضائية أن تعيد النظر فيها باعتبار أنها لا تتوفر إلى الآن على محكمة دستورية بإمكانها إبطال قوانين معيّنة"(3) وهو ما يفسّر في جانب منه الإصرار على عدم إنشاء المحكمة الدستورية فيما بعد، ومن ناحية أخرى لم يبخل مصطفى بن جعفر على تمكين مجرمي ماء الفرق والإرهابيّين من منتسبي حركة النهضة من الحصول على التعويضات، فلمّا رفض حسين الديماسي وزيرالمالية الموافقة على هذا الطلب واستقال حلّ محلّه التكتلي إلياس الفخفاخ الذي أمضى بالموافقة على ذلك رغم تحذيرات الخبراء الاقتصاديّين ممّا يمكن أن تتعرض له التوازنات المالية الأمر الذي أدّى إلى إفلاس تظهر آثاره اليوم في فقدان المواد الأساسيّة وهوان الدولة وعجزها عن معالجة الأوضاع الاقتصادية والماليّة المتردية ليعاني المواطن تبعات سياسات شارك في وضعها وأسّس لها مصطفى بن جعفر.
بعد انتخابات 2014 غاب ابن جعفر وحزبه تماما عن الساحة السياسيّة خصوصا بعد فشله في الانتخابات وبعد أن استعاد حزب نداء تونس مقعده بمجلس نواب الشعب عن دائرة القصرين بفضل حكم صادر عن المحكمة الإدارية سبق أن أهدي للتكتل هذا من ناحية ومن ناحية أخرى استبعد الباجي قائد السبسي مصطفى بن جعفر وحزبه من أن يكون لهما أي دور سياسي في عهده رغم أن الباجي ومصطفى ينتميان إلى نفس مجموعة "البلدية" التي خرجت من الحزب الاشتراكي الدستوري بزعامة المستيري، فبقي التكتل ورئيسه في الظل إلى أن أطل علينا هذه الأيام بخطاب مراوغ قلب فيه الحقائق تماما تحت ستار التنسيب والتدقيق وهي كلمات حقّ أريد بها باطل لأن المتأمل في خط سير مصطفى السياسي يجد أنه تحالف تحالفا وثيقا مع تنظيم ديني لا مجال معه لا للتنسيب ولا للتدقيق لأن برنامجه "السياسي" عقيدة إما أن تأخذها كلّها فأنت مؤمن أو أن تطرحها كلّها فأنت كافر أو مرتد، وهو الشرك الذي يقع فيه كل الذين يعتقدون أن الحركات الدينيّة يمكن أن تفاوض الآخرين أو أن تمارس النقد الذاتي إذ يغيب عنهم أن التيارات المدنيّة يمكنها أن تتنازل عن هذه النقطة أو تلك حتى تتقارب المواقف أما التيارات الدينيّة فلأن برنامجها عقيدة فهي غير قابلة للتفاوض، التنسيب والتدقيق لا يكون إلا في إطار ما هو مشترك وموضوعي قد نتفق حوله أو نختلف ولا يكون في القناعات وفي المعتقدات وفيما هو ذاتي حميمي، أما حديث مصطفى عن دستور 2014 والحريات في فترة رئاسته لمجلس باردو فقد تكفّل الشعب بالردّ عليه يوم 25 جويلية 2021.
--------
الهوامش
1) اللافت للانتباه أن عطايا الرئيسين زين العابدين والباجي رحمهما الله لا تتجاوز رقم 50 مليون كما حصل في عهد ابن علي مع أحزاب المساندة قبل 2011 ومع النساء الديمقراطيات وفق ما أخبرت بذلك جريدة المساء بتاريخ 27 جويلية 2011 أما الباجي فقد أعطى المبلغ نفسه لكل عضو من أعضاء لجنة بشرى للمساواة في الإرث وهو ما ذكره عبد السلام الزبيدي في كتابه "تقرير الحريات الفردية والمساواة، جدل الفضاء الافتراضي الفايسبوك نموذجا" نشر ستوميديا تونس 2018، ص273.
2) "دولة الهواة، سنتان من حكم الترويكا في تونس" فتحي ليسير، دار محمد على الحامي صفاقس 2016، ص197، هذا الكتاب من أهمّ الكتب التي توثّق لتلك المرحلة لا غنى عنه لأي مواطن فضلا عن الباحث أو المسيّس.
3) دولة الهواة ص199.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: