قيس سعيد، محمد الشرفي، احميدة النيفر
جدلية سياسية تاريخية لفهم الحاضر
أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1045
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في الاحتفال بيوم العلم ألقى رئيس الجمهورية خطابا تحدث فيه عن جملة من المسائل التي تهمّ التعليم والتربية من ذلك وصفه الإصلاح التربوي الذي حدث في عهد المرحوم محمد الشرفي بأنه تم في إطار تصفية حساب سياسي للحدّ من انتشار فكر على حساب فكر آخر ويقصد بذلك أن ما حدث أيامها إنما كان هدفه مقاومة التيارات الإسلامية حيث تكاتف اليمين ممثلا في الحزب الدستوري واليسار ممثلا في الشرفي وفي بعض الأسماء التي انخرطت في التجمع، معرجا في نفس الوقت على الاستفتاء حول مشروع الدستور حيث التقت قيادة حزب النهضة التي تمثل اليمين ببعض الوجوه التي انتسبت أو كانت منتسبة لما يُسمى اليسار في مواجهة قرارات 25 جويلية المجهضة، وكأني بالرئيس يشير إلى أن خصوم الأمس في الجامعة كما اتحدوا في فترة الشرفي يتحدون اليوم وغاب عنه أنه في المثالين المذكورين أي في تجربة محمد الشرفي وتجربته هو مع الإسلام السياسي يحضر عامل مشترك ومؤثر في التجربتين أعني بذلك اليسار الإسلامي أيا كانت تسميته كرابطة تونس للتعدد والثقافة أو الإسلاميين التقدميين وهو حضور أفسد الرؤية في التجربتين وغيّب التخوم بين المدارس الفكرية وخلط بين الخصوم والمنافسين، وبيان ذلك أنه في أواخر عهد الزعيم بورقيبة وأيام كان المرحوم محمد الصياح وزير تربية تفطنت الدولة إلى أن برامج مادة التربية الإسلامية مشحونة بالكثير من المفاهيم المتطرفة المؤدية إلى الإرهاب كالجهاد وأهل الذمة والعلاقات الدولية وضرب المرأة وغيرها من المسائل التي كانت مقرّرة لذلك ألفت لجنة أذكر أن من بين أهمّ رموزها المرحوم محمود شرشور نائب مدير الحزب وهو زيتوني ومن قدماء المناضلين الدستوريين وقد قامت هذه اللجنة بحذف الكثير من المحاور في المادة، أيامها كنت أدرِّس المادة فاتصلت بمنشور في هذا المعنى في شهر أكتوبر 1987، في تلك الأثناء حدث تحول السابع من نوفمبر ووقعت انفراجة أطلق بموجبها سراح مساجين الاتجاه الإسلامي ومُكِّنوا من رخصة جريدة ومن تأشيرة تنظيم طلابي ومن الدخول إلى المجلس الإسلامي الأعلى فتوقف بذلك عمل اللجنة ولم نتصل بأي منشور أو توجيه إلى أن عُيّن محمد الشرفي في 11 أفريل 1989 وزيرا للتربية والعلوم، ولأنه كان ينوي إجراء تحوير في البرامج بقصد تهذيبها ممّا علق بها من شذوذ في الرأي وتطرّف في التناول عيّن احميدة النيفر مستشارا له في مادة التربية الإسلامية لسابق علاقة به في جريدة الرأي ولأن المرحوم كان يعتقد كغيره أن ما سُمِّي اليسار الإسلامي هو وجهة نظر يمكن أن تكون بديلا عن الإسلام السياسي في صورته الإخوانية ومتوهّما كذلك بأن هذا التعيين سوف يحقق أهدافا من بينها:
1) أنه سيحميه ويحمي إصلاحاته التي ينوي القيام بها من هجوم الاتجاه الإسلامي ومن تكفيرهم له لأنها سوف تتم بأيد إسلامية لها سابقة في تأسيس الحركة ولا يمكن أن يشكك أحد في صدق انتمائها لتنظيم الإخوان المسلمين.
2) أن هذا التغيير سوف يشقّ الإسلاميّين ويمنع توحّدهم ضدّه خصوصا لمّا نضع في الاعتبار أن المتداخلين في مناهج تدريس مادة التربية الإسلامية كثر لا عدّ لهم ولا حصر ومن بين من صدرت عنهم مواقف متباينة نجد حركة الاتجاه الإسلامي وحزب التحرير واليسار الإسلامي والإسلاميون المستقلون والإسلام الرسمي الذي يمثله المفتي والمجلس الإسلامي الأعلى والملحق الديني لجريدتي الحرية والبيان اللذين يشرف عليهما عضو اللجنة المركزية للتجمع ومتفقدو المادة وجماعة كلية الشريعة وأصول الدين التي ستصبح الجامعة الزيتونية فيما بعد.
ورغم أن المشرفين على إصلاح مادة التربية الإسلامية من ذوي النسب والهوى الإسلامي فإن ذلك لم يعف محمد الشرفي من التكفير حيث نشرت حركة الاتجاه الإسلامي بيانا عنوانه لا للسخرية بالإسلام في 2 أكتوبر 1989 بعد الندوة الصحفية الشهيرة التي أعلن فيها عن حذف محاور كثيرة كضرب المرأة والجهاد وغيرهما واللافت للنظر أن احميدة النيفر مستشار الوزير لمّا أصدر بيانا باسم جماعته لم يستنكر تكفير وزيره وإخراجه من الملّة بل استنكر "تكفير التوجهات الاجتهادية المتصلة بالمجالات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو التربوية...."(1) وشتان بين تكفير التوجهات والتكفير الاصطلاحي الذي يطال العقيدة كالإيمان بالله وملائكته ورسله وغير ذلك وهو المقصود من بيان الحركة.
أما احميدة النيفر فقد كانت له حسابات أخرى ليس من بينها الدفاع عن وزيره أو البرنامج الذي أعلن عنه في ندوته الصحفية بل استغل هذه الفرصة الذهبية للمزيد من الاندساس ووضع أعوانه في المواقع الحساسة في صياغة البرامج والتفقد من خلال:
1) تعيين المنتسبين لحركته مرشدين بيداغوجيين يشرفون على تأطير أساتذة المادة وأعضاء في لجنة تحوير البرنامج ثم مؤلفين للكتب المدرسية مثل محمد القوماني ومحمد الشتيوي وعبد الرزاق العياري وسيف الدين الماجدي وغيرهم بجانب هؤلاء نجد الحاضر الدائم في كل اللجان صلاح الدين الجورشي.
2) تشريك مختلف الحساسيات السياسية في أشغال اللجنة كالتجمع واليسار الإسلامي والعروبيين وأصدقاء حركة الاتجاه الإسلامي للإيهام بمشاركة الجميع وقد اتصلت بدعوة للمشاركة في تأليف مدرسي للسنة السابعة ثانوي صحبة المنصف بن عبد الجليل ومحمد القوماني وغيرهما وفق مكتوب من المدير العام للبرامج والتكوين المستمر مؤرخ في 5 مارس 1990 إلا أني اعتذرت لأني معترض على البرامج ذاتها.
3) تغيير تركيبة اللجنة بعد كل اجتماعين أو ثلاثة بحيث لا يحضر أشغالها كاملة إلا جماعة اليسار الإسلامي الذين مثلوا نواتها الصلبة في حين يشارك باقي الأعضاء بصورة عرضيّة لا تمكّنهم من تصوّر متكامل عن طبيعة البرنامج المقترح وأهدافه السياسية، فخلال سنة واحدة تداول على رئاسة اللجنة ثلاثة فضلا عن الأسماء العديدة التي دخلتها وخرجت منها.
ولأني أعتقد أن محمد الشرفي تعرّض إلى عملية تلاعب كبرى وانحراف فاضح ببرنامجه الإصلاحي قمتُ بشنّ حملة أسبوعية على اليسار الإسلامي ودوره في إفساد كل نفس إصلاحي في جريدتي الصحافة والإعلان نشرت فيهما عشرات المقالات عن الاندساس الذي تمارسه هذه النحلة وبرامج التعليم التي عوِّض فيها مبحث الجهاد بمبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقُرّرت فيها مؤلفات زعماء هذه النحلة كفتحي عثمان كتبا مدرسية قامت بطبعها مكتبة الجديد المملوكة لنحلة اليسار الإسلامي في عشرات الآلاف من النسخ ممّا مكن جماعة احميدة النيفر من مصدر تمويل لا ينضب إلى أن اتصل بي المرحوم الهادي القريوي كاتب الدولة للإعلام أيامها وأعلمني بأن قرار عزل احميدة النيفر قد اتخذ حدث ذلك في شهر جويلية من سنة 1991 بحيث لم تطل إقامته في الوزارة حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه ولكن بعضه نفذه من جاء بعده، وللعلم طوال تلك الفترة لم أقابل محمد الشرفي رغم سابق معرفتي به إلا بعد خروج احميدة النيفر من الوزارة وبعد أن كاتبت رئيس الدولة في هذا المعنى وبعد أن انتقلت إلى العمل بوزارة الثقافة.
هذا الأسلوب في الاندساس والعمل على تغيير الأوضاع من الداخل وبتخف هو الأسلوب الذي برع فيه احميدة النيفر ونحلته وقد نجح فيه في فترة حكم المزالي الذي مكنهم من رخصة مجلة وفي نظام السابع من نوفمبر الذي مكنهم من رخصة جمعية الجاحظ، هذا النمط المراوغ في التعامل مع الآخرين نتلمسه في طريقة حكم 25 جويلية المستند فكريا إلى مقولات ما يسمى اليسار الإسلامي التي تروّج لها رابطة تونس للتعدد والثقافة وهي رابطة جمعت قدماء هذه النحلة ومن بينهم شقيق رئيس الدولة الذي يحتل موقعا مؤثرا في خيارات شقيقه آخرها الدستور الذي عرض على الاستفتاء حيث نجد الرابطة متخفّية ضمن فصوله من خلال:
1) جاء في الفصل الخامس من دستور 25 جويلية أن تونس جزء من الأمة الإسلامية فهي بذلك نقيض "للدولة القطرية" ويجب أن تعمل على التحرّر منها بالعودة إلى أصولها الدينية هذا الكلام ليس إلا الترجمة الحرفية لِما يروّج له اليسار الإسلامي جاء في أحد نصوصه: "بعد إنشاء الدولة القطرية وجنوحها إلى تهميش المجتمعات وسعيها لتحقيق التنمية التي أدت عمليا إلى مزيد من الاندماج في السوق العالمية عادت الثقافة التقليدية لتفعل فعلها من جديد حماية للمجتمع وتمكينه من أسلحة المقاومة"(2).
2) وللمزيد من تأكيد معنى العودة إلى الأصول ورد الحديث عن المقاصد كإطار يلف المجتمع ويحكم سيره جاء في وثيقة في الفكر الإسلامي التقدمي: "استلهام المبادئ العامة للتشريع في صياغة ما يحتاجه المجتمع من قوانين في سائر المجالات بحيث تشكل النصوص الإسلامية الإطار الدستوري العام للمجتمع في ضوء ملابسات البيئة وطبيعة الحياة المعاصرة"(3) وجاء في وثيقة أخرى: "تجميع النصوص... في اتجاه نحت تصوّر معرفي يؤثر في السلوك الفردي والجماعي ويعبئ الجماهير نحو أهداف نضالية للارتقاء بواقعها نحو الأفضل...ويكون الفهم المقاصدي للنصوص أداة للتنظير للواقع"(4) بهذا المعنى يصبح واضحا أن الهدف من المقاصد في هذا الفصل هو إلغاء القوانين المدنية وتعويضها بشريعة الفقهاء التي تسمى في أدبيات الحركات الإسلامية جميعها تطبيق الشريعة.
3) تساءل البعض عن أسباب تغييب هيئات دستورية كانت موجودة سابقا كهيئة الإعلام والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان وغيرها وإنشاء مجلس أعلى للتربية لم يكن موجودا في الدساتير السابقة، في تقديرنا أن سبب ذلك يعود إلى الأهمية التي يحملها التعليم لصياغة الناخبين الجدد وفق تعبير السيد الرئيس في خطابه وهو المعنى الذي أفاض فيه القول احميدة النيفر في نصين على غاية قصوى من الأهمية فيما نحن فيه نشرهما في جريدة الرأي الأول منهما عنوانه "من يملك الجامعة يملك المستقبل" في العدد 280 بتاريخ 3 أوت 1984 والثاني عنوانه" الجامع... الجامعة... المجتمع...الصورة وظلالها" في العدد289 بتاريخ 5 أكتوبر 1989.
4) نصت الدساتير السابقة على وظيفة المفتي الذي هو مستشار الدولة في المسائل الدينية وعضو اللجنة التي تقبل الترشحات لرئاسة الجمهورية إلا أن دستور 25 جويلية لم يذكر هذه الوظيفة وألغاها تماما وهو ما يطرح تساؤلا عن الجهة التي ستحدّد مقاصد الإسلام الواردة في الفصل الخامس؟ ومن يمثل الدولة فيها؟ في تقديري أن إلغاء منصب المفتي يمثل خطوة في اتجاه ما عليه الشيعة من إيمان بالمرجعية الدينية المستقلة عن الدولة خصوصا لمّا نجد أن رئيس الجمهورية في هذا الدستور يشبه ما عليه الولي الفقيه لدى الشيعة من صلاحيات واسعة وإعفاء له من أي مسؤولية.
والذي تهمنا الإشارة إليه أن ما ذهب إليه السيد رئيس الجمهورية من تحالف بين يمين ويسار وهمي ضدّه لا تسنده الوقائع لأن الذين تحالفوا مع النهضة اليوم لإعادة حكم 24 جويلية هم أنفسهم الذين خاصموا إصلاحات المرحوم وزير التربية الأسبق وخصّصوا جريدتهم ومحلاتهم لذلك في نفس الوقت الذي كان فيه احميدة النيفر يمارس الاندساس في برامج التعليم وإداراته، واليوم أنت نفسك يا سيادة الرئيس تتعرّض لِما تعرض له محمد الشرفي من نحلة اليسار الإسلامي من غدر وخيانة وعلى رأسها احميدة النيفر ورابطته التي يتحمل فيها شقيقك نيابة الرئيس، ففي نفس الوقت الذي جمعت فيه الناس حول قرارات 25 جويلية ظهرت رابطة النيفر والجورشي لتفسد مرة أخرى مشروعا ساندناه ولكنه انقلب على نفسه.
--------
الهوامش
1) مجلة حقائق العدد 218 من 20 إلى 26 أكتوبر 1989 ص11.
2) "المقدّمات النظرية للإسلاميّين التقدميين لماذا الإسلام وكيف نفهمه؟"صلاح الدين الجورشي ومحمد القوماني وعبد العزيز التميمي، دار البراق للنشر، تونس 1989 ص32.
3) مجلة 15/21 العدد12 سنة 1985 ص29.
4) المقدمات النظرية ص49.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: