أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1155
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أثار الفصل الخامس من مشروع الدستور لغطا لم يتوقف لحد الآن وقد انقسمت ردود الأفعال إلى قسمين قسم أوّل رحّب بالفصل بحشيشه بريشه ودافع عنه وقسم ثان أبدى اعتراضه عليه لأنه يؤسّس لدولة دينية وهو ما أشعر محرّر الدستور بالحرج من اصطفافه في خانة الإسلاميين فقام بإضافة مصطلح الديمقراطية تخفيفا من شناعة الفصل ليصبح كالتالي : " تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية" وفي تقديريي أن الدفاع عن الفصل في صيغته القديمة أو الجديدة لا يستند إلى معرفة بمؤدّى ونهايات تطبيقه كما أن إضافة الديمقراطية لن تنزع عنه صفته الثيوقراطية الدينية التي تستهدف القضاء على الدولة المدنية وهو ما سنأتي عليه فيما يلي:
الدفاع الباطل عن الفصل الخامس
إثر صدور النسخة الأولى من مشروع الدستور خرج علينا البعض مدافعا عن الفصل الخامس مروّجا أن مقاصد الشريعة موجودة في دستور 1959 في فصله الأول وهي أفضل ما أنتج الفكر الإسلامي المستنير وأنها المدخل إلى الحداثة وأن الإسلام السياسي يرفضها في محاولة لتمريره تحت غطاء الحداثة ومقاومة حركة النهضة، مثل هذا الكلام لا يحمل أي قدر من الجدية أو الصدق بل هو محاولة للالتفاف على حقيقة هذا الفصل وتقديمه في صورة مغايرة وبيان ذلك:
1) الربط بين الفصل الخامس في المشروع والفصل الأوّل من دستور 1959 الذي جاء فيه أن تونس دولة "الإسلام دينها" ربط واه ومفتعل لأن القول بأن دين الدولة هو الإسلام ليس إلا وصفا لحالة حضارية كانت موجودة بعد الاستقلال وأثناء وبعد الحركة الوطنية التي استعملت الدين أحد أهم أسلحتها في مقاومة المستعمر بحيث لا يحمل هذا الوصف أي مضمون حقوقي أو دستوري ملزم في حين نجد أن الفصل الخامس يلغي وجود الأمّة التونسية ويدرجها كمكوّن من مكوّنات ما سمّاه محرّر الدستور الأمة الإسلامية كما أنه حدّد مهام الدولة في تحقيق مقاصد الشريعة التي نجد تفاصيلها في كتب الفقه وأصوله لتنتقل بذلك من الوصف العام إلى قواعد وأحكام وتفاصيل مدسترة مكتسبة بذلك علوية على القوانين الجاري بها العمل حاليا، فلو ذهب أحدهم إلى الاحتجاج بها على عدم دستورية قانون التبني لحَكَم القاضي وفق مقالته ولو ذهب شخص آخر إلى المحكمة وأعلمها بأن أولياء الدم قبلوا الديّة بدل القصاص لما كان أمام الحاكم إلا الحكم له وفق طلبه ليطلق سراح القاتل رغما عن مجلة الإجراءات الجنائية التي لا نجد فيها قصاصا تمت دسترته في غفلة من التاريخ والتفاف على النخب في مقصد المحافظة على النفس، وهنا تكمن خطورة هذا الفصل لأن بقاءه يهدّد كل المكتسبات المدنية ويدمر كل المنجزات التي تحققت منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى ما قبل سنة 2011.
2) القول بأن الفصل الخامس يمنع التنظيمات الإسلامية من استعمال الدين ويحصره في الدولة التي أصبحت مهمتها تحقيق مقاصد الشريعة يحمل جملة من المغالطات من بين أهمها أنه انتقل بالدولة من الدولة الراعية التي تنحصر مهمتها الأساسية في تحقيق المصالح العامة لمواطنيها إلى الدولة الداعية التي تسعى إلى خلق مجتمع المؤمنين وليس المواطنين هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الربط بين الدولة كمؤسّسة مدنيّة والأحزاب الدينيّة من خلال توحيد المهام ممثلة في أسلمة المجتمع مفسد للعملية السياسية برمتها فبدل أن يكون الحق والعدل مقياسا للتعامل بين المواطنين يصبح الإيمان هو المحدّد والمعيار في التعامل.
3) القول بأن المقاصد تمثل تجديدا في الفكر الإسلامي كلام ملتبس لأنه يخلط المسائل ويفسد الرؤية ذلك أن الفكر الديني وضمنه المقاصد يستند إلى النصوص القرآنية والحديثية ولا يخرج عنها أبدا وكل تجاوز للحدود التي وضعها الفقهاء يوسم صاحبه بالردّة لسبب بسيط وهو أن الأديان ممتنعة عن أي تطور من داخلها إلا ضمن حدود لا يتم تخطيها لهذا السبب فشلت كل المحاولات التي ادعت تثوير الدين من داخله ورضي أصحابها من الغنيمة بالإياب فكل الذين حاولوا ذلك انتهوا مروّجين لخطاب ادعوا محاربته في فترة من حياتهم والأمثلة على ذلك لا عدّ لها ولا حصر كعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد عمارة وطارق البشري وحسن حنفي واليسار الإسلامي ولدينا ألفة يوسف ويوسف الصديق ومحمد الطالبي وغيرهم، والمستفاد ممّا ذكر أن التجديد الديني لا يمكن أن يستند إلى أدوات دينية لأن هذه الأدوات غير قادرة إلا على إعادة إنتاج ذاتها، فالقياس من أهمّ الأدوات التي يستعملها الأصوليون عندما تعرض عليهم واقعة مستحدثة ولكنهم لما لا يجدون لها حكما في آية أو في حديث يلجؤون إلى القياس الذي يعني إلحاق غير المنصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في العلة، من ذلك أن المخدرات لا حكم لها ولم يرد نص بتحريمها ولكن الفقهاء ذهبوا إلى تحريمها قياسا على الخمر لاشتراكهما في علة التحريم التي هي تغييب العقل وإفساده وهو ما يعني أن القياس ليس إلا استحضارا لأحكام سابقة، أما الإجماع الذي عرفه الفقهاء بإجماع المجتهدين حول حكم في واقعة مستحدثة فهو محل خلاف بين الأصوليين فالبعض يجيزه ويعتمده والبعض الآخر يرفضه مستندا في ذلك إلى امتناع حصوله عقلا وواقعا لاختلاف الأمكنة والأزمنة واستحالة تجميع علماء الأمة في زمن واحد حول قضية واحدة، وقد حاول البعض تجاوز هذه المعضلة بالحديث عن المجمعات الفقهية وتوحيد الفتاوى من خلال توحيد مؤسّساتها إلا أن ذلك عسير التحقيق لأن هذه المؤسسات الدينية هي في أغلبها معبرة عن سياسات الدول الراعية لها فالفتاوى التي تصدرها هيئة كبار العلماء في السعودية غير مرحب بها في المغرب مثلا وحتى داخل البلد الواحد نجد أن مؤسّستين دينيتين تختلفان حول القضية الواحدة من ذلك أن الصراع قام في تسعينات القرن الماضي في مصر بين الأزهر ودار الإفتاء حول مسألة الربا التي منعها الأزهر وأفتى بحليتها المفتي، الأمر الذي يعني أن المقاصد في نهاية الأمر ليست إلا إجبارا على التصرف وفق قياس وإجماع سابقين قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "فالمهم في نظر الشريعة هو الوازع الديني اختياريا كان أم إجباريا ولذلك يجب على ولاة الأمور حراسة الوازع الديني من الإهمال فإن خيف إهماله أو سوء استعماله وجب عليهم تنفيذه بالوازع السلطاني"(1) وقال عن مقصد حفظ الدين: "فحفظ الدين معناه حفظ دين كل أحد من المسلمين أن يدخل عليه ما يفسد اعتقاده وعمله اللاحق بالدين وحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة أي دفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية"(2)، وبَيِّنٌ ممّا ذكر أن المقاصد الشرعية هي في حقيقتها المرادف لتطبيق الشريعة والاختلاف الوحيد بينهما أن الأخيرة نفر منها خلق الله لأنها تحيل إلى تطبيق الحدود من قطع للرقاب والأرجل والأيادي والرمي من شاهق أما المقاصد فهي مبحث مستجد في الخطاب السياسي المعاصر بدايته الحديث عن المصلحة ومنتهاه تطبيق شريعة الفقهاء.
الإضافة الباطلة للفصل الخامس
بعد النقد الذي وُجه إلى الفصل الخامس المتعلق خصوصا بالمقاصد الشرعيّة حاول محرّر الدستور الالتفاف على ذلك فأضاف بأن عمل الدولة من أجل تحقيق المقاصد يتمّ "في ظل نظام ديمقراطي" للإشعار بمدنية الدولة وأن الأمر لا يتعلق بتطبيق الشريعة أو ولاية الفقيه، وهو أمر يدلّ على أن محرّر الدستور لا يمتلك الحد الأدنى من المعرفة بالمصطلحين والقدرة على الفرز بينهما وإلا لما ارتكب هذا الخلط الشنيع وبيان ذلك:
1) الديمقراطية أسلوب لإدارة الشأن العام يستهدف تحقيق مصلحة العموم عن طريق الوسائل العلمية وبتشريك أغلب المستفيدين من ذلك واضعين في الاعتبار الظروف المحيطة التي قد تستلزم التغيير الكامل أو الجزئي لِما خطط له، أما تحديد المصالح ضمن المقاصد الشرعية فيقتضي منا الإجابة عن سؤال مهم هل أن المصلحة المقصودة في المقاصد هي مصلحة الشرع أو مصلحة العباد؟ جوابا عن ذلك ذهب الفقهاء إلى إحاطة المصلحة بجملة من الضوابط كالتالي: "المصلحة التي لا يشهد لها دليل خاص تكون نوعا من التلذذ والتشهي.... المصالح إن كانت معتبرة فإنها تدخل في عموم القياس وإن كانت غير معتبرة فلا تدخل فيه ولا يصح أن يدعى أن هناك مصالح معتبرة ولا تدخل في نص أو قياس... الأخذ بالمصلحة من غير اعتماد على نص قد يؤدي إلى الانطلاق من أحكام الشريعة.... لو أخذنا المصلحة أصلا قائما بذاته لأدى ذلك إلى اختلاف الأحكام باختلاف البلدان"(3) الأمر الذي يعني أن المصلحة المقصودة في المدوّنة الفقهية وتبعا لذلك في الفصل الخامس هي إظهار الطاعة لله بتنفيذ أوامره ونواهيه ولو كان ذلك على حساب مصالح العباد فالحج اليوم يكلف ميزانية الدولة المفلسة أصلا أموالا مهولة وتقتضي المصلحة وحسن التصرف التوقف عن أدائه حتى تعتدل الموازين المالية خصوصا لما نجد أن المشرع نفسه اشترط لوجوبه الاستطاعة وهو شرط غير متوفر اليوم ورغم كل ذلك فإن دولة الفصل الخامس تصرّ على القيام به محملة الشعب نتائج اختيارها هذا، والمستفاد مما ذكر أن النظام الديمقراطي يتناقض تماما مع المقاصد الشرعية التي تضع حدودا للتصرف وهو المعنى الذي صاغه الإمام نجم الدين الطوفي في قوله: "أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل فإذا رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها"(4) أما الإمام ابن عابدين فيذهب إلى القول:"قوله لتقدم حق العبد أي على حق الشرع لا تهاونا بحق الشرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشرع ألا ترى أنه إذا اجتمعت الحدود وفيها حق العبد يُبدأ بحق العبد لِما قلنا ولأنه ما من شيء إلا ولله فيه حق فلو تقدم حق الشرع عند الاجتماع بطل حقوق العباد... وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم فدين الله أحق فالظاهر أنه أحق من جهة التعظيم لا من جهة التقديم"(5) هكذا نجد أن سلف الأمة ممن ذكرنا يقف موقفا متطورا يخالف ما عليه مواقف محرّر الدستور من جمود وتحجّر.
2) تحدّد الديمقراطية الحقوق والواجبات اعتبارا لاتصاف الإنسان بصفة المواطنة بصرف النظر عن المحدّدات الأخرى كاللون والجنس والدين وغيرها أما المقاصد الشرعية فإنها تحدّد الحقوق والواجبات بحسب العقيدة فالمسلم أفضل من المسيحي أو اليهودي وهذين أفضل من البوذي وهكذا كما أن الذكورة والأنوثة تلعبان دورا أساسيا في ذلك وكذا وضع الإنسان من ناحية الحرية فحقوق العبد الذكر هي غير حقوق الحر الذكر....
والذي نخلص إليه أن هذا الخلط الشنيع بين المتناقضات كالديمقراطية ومقاصد الشريعة الوارد في الفصل الخامس سبق أن استعملته حركة النهضة لمّا ادعت أنها تمثل الإسلام الديمقراطي أيام نشرت فرية الفصل بين الدعوي والسياسي وسبق أن أشاعه كذلك ما يسمّى اليسار الإسلامي وغيرها من التنويعات التي انتهت إلى فشل محتّم واندثرت لأنها بُنيت على التلفيق والترميق الذي لا يقيم بناء ولا يشيد صرحا ولا يحقّق هدفا.
--------
الهوامش:
1) "مقاصد الشريعة الإسلامية" الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، تحقيق الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، طبع على نفقة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر 2004، ج3 ص370.
2) المصدر السابق ج3 ص236.
3) "أصول الفقه" الشيخ محمد أبو زهرة، دار التبليغ للنشر والتوزيع، تركيا بدون تاريخ، ص282 و283.
4) "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" مصطفى زيد، دار الفكر العربي، مصر 1954، ط1، ص48 من رسالة الطوفي في آخر الكتاب.
5) "ردّ المحتار على الدر المختار" لابن عابدين، ج2 ص144.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: