أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1157
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعد نشر دستور 2022 في الرائد الرسمي أصبحت أحكامه واجبة النفاذ غير أن المراسيم التي نشرت خلال الأيام الفارطة كشفت قصوره عن الاستجابة لِما تتطلبه الأوضاع السياسيّة الحاليّة من ليونة في التعامل مع الوقائع بحيث لا يخلو الحال من أمرين إمّا خرق الدستور وتنفيذ المرسومين المتعلقين بالانتخابات وبمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال أو الحكم بعدم دستوريّة هذين المرسومين وإسقاطهما، وبيان ذلك كالتالي:
عن الانتخابات
نصّت أحكام المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلّقة بالانتخابات على وجوب استظهار المترشح لمجلس الشعب بتزكية 400 ناخب نصفهم من الإناث، وهو أمر مخالف للفصل الخامس من الدستور الذي أوجب على الدولة وحدها العمل على تحقيق مقاصد الإسلام كما حدّدها الشارع في القرآن بنصوص صريحة لا إمكانية لإبداء الرأي فيها أو تأويلها، أما أن يبتكر المرء دون ضابط شرعي مقاصد مخالفة لِما جاءت به النصوص الثابتة فأمر لا يعتدّ به، قال تعالى: "وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى" (سورة البقرة الآية 282) الأمر الذي يعني أن التزكية في الانتخابات التي هي شهادة بصلاحية المترشح وجب أن تكون متّسقة مع النص القرآني والأحكام التي ترتبت عليه، ففي مبحث الشهادة ذهب الفقهاء إلى القول بأن شهادة المرأة تُقبل في كل ما تطّلع عليه الأنثى ويمتنع عن الذكور كالولادة والرضاع وفي الحمامات وغيرها، قال الشنقيطي نقلا عن ابن قدامة: "والذي تُقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبرص وانقضاء العدّة والبكارة وعدمها"(1) أمّا فيما يعرض من مسائل وقضايا أخرى كالحدود والقصاص والأموال والديات وغيرها فقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافات بسيطة والأغلب الأعمّ أن لا تُقبل شهادتها وإن قُبلت لدى بعضهم في مواضع محدودة فإنهم اشترطوا الالتزام بنصّ الآية "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان"، وبالعودة إلى مرسوم الانتخابات نصّ الفصل 20 منه على وجوب تزكية المترشح من طرف 400 ناخب نصفهم من الذكور والنصف الآخر من الإناث، وهو أمر مخالف لمقاصد الإسلام ونصوصه الثابتة إذ بالحساب الشرعي وانضباطا للفصل الخامس وجب أن يكون عدد النسوة 400 أي ضعف عدد الرجال بما يجعل من مجموع المزكين 600 نفر، وهو ما يعني أن المرسوم 55 لسنة 2022 غير دستوري لأنه انتهك الفصل الخامس من ناحية ومن ناحية أخرى أوجد التباسا بخصوص الانتخابات المزمع تنظيمها في شهر ديسمبر القادم لا حلّ له إلا بإلغاء الفصل الخامس من الدستور الذي ينصّ على أن يكون عدد المزكين والمزكيات 600 أو إبطال شرط التزكيات تماما.
عن مكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال
ورد في الفقرة الثانية من الفصل 24 المتعلق بالعقوبات في المرسوم 54 ما يلي: "ويعاقب بنفس العقوبات المقرّرة بالفقرة الأولى كل من يتعمّد... الحثّ على خطاب الكراهية" وهو كلام معقول لو لم يكن هنالك الفصل الخامس من الدستور الذي ينصّ على أن من واجبات الدولة تحقيق مقاصد الإسلام وهي مقاصد تُضبط فيها الحقوق والواجبات استنادا إلى إيمان المرء من عدمه، فخطاب الكراهية في هذه الحالة إن أدرجناه ضمن مقتضيات الفهم السليم للفصل الخامس فإنه سيحمل صبغة دينيّة تجعل من المخالف في الدين أيا كان موضوعا للكراهية وهو المعنى الذي نجده حاضرا بقوة في العديد من الآيات الأمر الذي يجعل من الحديث عن جريمة حث على خطاب الكراهية غير ذي معنى لأن الدستور في فصله الخامس أعلى من القوانين والمراسيم قال تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء" (سورة محمد الآية4) وقال كذلك: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" (سورة التوبة الآية 28) وقال كذلك: "فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (سورة التوبة الآية 5) هذا من ناحية الكفّار أما من ناحية المسلمين وهم الشطر المقابل من معادلة الكراهية فإن القرآن يصفهم بأنهم الأفضل والأعلى شأنا بإيمانهم وليس بعملهم قال تعالى: "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (سورة آل عمران الآية 139) هذا الاستعلاء بالإيمان الذي حوّله سيّد قطب إلى تكفير للدولة والمجتمع فرّخ التنظيمات الإرهابية المسماة غلطا جهادية، كلّ ذلك أوجد مبحث أهل الذمّة في المنظومة الفقهيّة، فالإنسان لا حقوق له إلا إذا كان مسلما أمّا إذا كان من معتنقي الديانات الأخرى فعليه دفع الجزية إن أراد الأمان لنفسه قال تعالى: " قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (سورة التوبة الآية 29) هذا الصَّغار الوارد في الآية التي نتعبّد بها تفنّن فيه الفقهاء وأوجدوا له تطبيقات لا إنسانية تستهدف الإذلال من ذلك أنهم منعوا الذمي من استئجار المسلم للعمل لديه لِما في ذلك من إهانة لهذا الأخير وفرضوا عليه لباسا خاصا ووصل الأمر إلى حدود منعه من شرف الدفاع عن الوطن الذي ولد فيه وتربى ويعيش قال الغنوشي في حديثه عن الجزية بأنها: "مقابل واجب الدفاع عن الوطن.. إذ أن الدفاع عن الوطن واجب على كل مواطن وبما أن هذا الدفاع يتخذ عند المسلمين صبغة دينية (الجهاد) وكثيرا ما يكون في مواجهة أقوام لهم مع أهل الكتاب علاقات دينية ، ممّا يجعل حمل أهل الذمة على خوض حرب مثل هذا هو نوعا (كذا) من الإكراه على ممارسة عبادة ليست جزءا من دينهم"(2)، ألا يحمل مبحث أهل الذمة حثا على الكراهية بما يستوجب العقوبة الواردة في المرسوم أو علينا أن نغضّ الطرف لأنه مقصد من مقاصد الإسلام الواردة في الفصل الخامس من الدستور؟، ثمّ ما العمل مع الآية الكريمة: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"(سورة آل عمران الآيتان 106 و107) هل نتوقف عن التعبّد بها أو نلغيها من المصحف تماما لِما تحمل من عنصريّة أساسها اللون، وما العمل في التناقض بين فصل خامس وضع فيه الحاكم الإطار الديني لحركته وبين مراسيم يتوسّل بها إلى الأساليب الحديثة في الحكم حتى وإن كانت صورة دون روح أو مضمون؟، منذ بدايات القرن الماضي واتصال العرب والمسلمين بالآخر لم تستطع النخبة حلّ معضلة الحكم لأنها تسعى إلى تأبيد بقائها فيه بادعائها حماية الدين والتمسك بشعائره والإعلاء من شأن هويّة وهميّة في مقابل خصوصيّة صاغها التاريخ وعركتها الجغرافية يعبّر عنها علميا بتونس وبالتوانسة، قال الأفغاني في واحدة من خاطراته"لا حكم إلا للعقل والعلم".
الهوامش
1) "مواهب الجليل من أدلة خليل" تأليف أحمد بن أحمد الشنقيطي، طبعة إدارة إحياء التراث الإسلامي قطر 1987، ج4 ص253، (رتقت المرأة أي انسدّت ويقال بالعامية مصفحة والقرن أي قرن الرحم).
2) "حقوق المواطنة، وضعيّة غير المسلم في المجتمع الإسلامي" لراشد الغنوشي، مطبعة تونس قرطاج 1989، ص69.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: