أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 885
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في أغنية رائعة لأم كلثوم كتبها الشاعر الفحل أحمد رامي جاء في طالعها "الصبّ تفضحه عيونه" أي أن المحبّ مهما حاول إخفاء مشاعره فإن نظراته تكشف المكنون، تذكرت ذلك وأنا أشاهد السيّد رئيس الجمهورية في جولته الأخيرة في العاصمة حيث قابل مواطنتين جزائريتين تحادث معهما مؤكّدا على عمق الروابط التاريخيّة بين البلدين مشيرا إلى دور جامع الزيتونة الذي درس فيه قسم من النخبة الجزائريّة غير أن ما لفت نظري قوله: "الهواري بومدين الله يرحمو كان في جامع الزيتونة مشاو نحاوه للأسف... قرا في جامع الزيتونة" وهو كلام في منتهى الخطورة لأنه يكشف الموقف المضمر لرئيس الدولة عن أهمّ منجز من منجزات دولة الاستقلال أي توحيد التعليم من ناحية كما أنه يصدر عن موقف سياسي يتقاسمه سيادته مع الإخوانجية مبني على تدليس الوقائع والانحراف بالتاريخ إلى تحقيق غايات سياسيّة آنية، والموضوع يدرس من ناحيتين الناحية العلمية المعرفية الواقعية والناحية السياسيّة بما تحمل من تزييف وتحريف وبيان ذلك:
علميّا
لمّا استلم الزعيم بورقيبة الحكم وقرّر إقامة نظام جمهوري حديث على أنقاض الملكية وحّد القضاء والتعليم وألغى الأوقاف فقضى بذلك على المؤسّسات التي يستمد منها النظام الملكي شرعيته ففيما يخصّ التعليم قبل الاستقلال كان ينقسم إلى قسمين:
1) قسم مخصّص للأجانب وللقلّة المحظوظة من التونسيّين قال: "لوي ماشويل أوّل مدير للتعليم بتونس في عهد الحماية إنه توجد بالبلاد سنة 1883 أربع وعشرون مدرسة ومعهدا وإن عشريـن منها يشرف عليها رجال الدين المسيحيّون، أما الأربع الباقية فهي المعهد الصادقي وثلاث مدارس إسرائيليّة حيث عهد بالتدريس فيها إلى معلميـن و أساتذة علمانيّين"(1) أي أن هذا النوع من التعليم ممنوع على التونسيّين المسلمين باستثناء المعهد الصادقي الذي كانت الغاية من تأسيسه في البداية تكوين نخبة عصريّة غير أن انتصاب الحماية قضى على هذه التجربة فتحوّلت الصادقية ممّا أراد وخطّط لها خير الدين إلى مدرسة لتخريج المترجمين الذين تحتاجهم الإدارة الاستعماريّة وهو المعنى الذي تحدّث عنه الشيخ عبد العزيز الثعالبي قال:"وأصبح التعليم بذلك المعهد لا يرمي إلى إعداد نخبة مثقّفة للمهن الحرّة كما كان من قبل، بل تحوَّل إلى آلة لتشويه أفكار الشباب التونسي وانحصر دوره في تكوين مترجمين غير أكفاء لمصالح الشرطة أو موظفين من الدرجة السفلى للإدارات وأصبح تعليم اللغة العـربيّة من مهام المعلمين الفرنسيّين الذين عوَّضوا شيئا فشيئا المدرسين التونسيّين وقد نزل عددهم منذ عشر سنوات (سنة 1910م) إلى سبعة وبلغ الآن ثلاثة فقط"(2) وهو نفس المعنى الذي أعاد صياغته بشكل آخر مخفّف فيما بعد أحمد عبد السلام قال:"أمّا السواد الأعظم من خريجي الصادقية فكان التعليم الذي تلقوه يؤهّلهم إلى الانخراط في سلك الوظيف العمومي"(3)، سنة 1911 لم يتقدم إلى امتحان شهادة ختم الدروس في الصادقية إلا خمسة تلاميذ(4) وهو ما يعني أن أبواب التعليم في المدارس العصرية كانت مغلقة في وجوه أبناء الوطن.
2) القسم الثاني هو التعليم الزيتوني الذي كان حاضرا في كامل أرجاء الوطن حيث بلغ عدد فروعه 29 فرعا سنة 1956 من بينها فرعان في الجزائر(5) وفي سنة 1945 بلغ عدد الطلبة الزيتونيّين في مختلف مراحل التعليم حوالي 9000 طالب(6) ويذكر صاحب المفيد السنوي لسنة 1936 أن عدد المكتبات الـزيتونية بلغ 33 مكتبة في كامل أرجاء الوطن وأن عدد المدارس المخصّصة لسكنى الطلبة وصل إلى حدود 24 مدرسة في العاصمة لوحدها(7) هذا التعليم الذي يلامس الفئات الشعبية ويغطي أرجاء الوطن كان تعليما تقليديّا وغير مستجيب لحاجيات العصر وهو الأمر الذي شعر به الزيتونيّون ونادوا بإصلاحه حيث شهدنا في النصف الأوّل من القرن الماضي مشاريع للإصلاح سنة 1912 وسنة 1924 وسنة 1930 وسنة 1938 ومؤتمر المدرّسين الزيتونيين سنة 1944، وطوال هذه الفترة نشرت كتابات تنادي بالإصلاح بأقلام الخيرة من مثقفي العصر كالشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي ألف كتابا في الموضوع " أليس الصبح بقريب" والشيخ محمد العزيز جعيط بجانب الطلبة الذين حملوا لواء الإصلاح كمحمد الصالح المهيدي أحد أبرز قادة الطلبة المنادين بالإصلاح وناشر "لائحة في إصلاح التعليم بالجامع الأعظم" والشيخ محمد المختار السلامي وغيرهم كثير، فقد كان التعليم الزيتوني مقتصرا على بعض المواد لا غير كالنحو وفقه العبادات والمعاملات وما جاورهما(8)، وبيّن ممّا ذكر أن هذا النوع من التعليم لا يمكن أن يستمرّ وجوده مع مرحلة بناء الدولة الجديدة، لذا تمّ الاستغناء عنه وعوّض بمدرسة الاستقلال التي وُضعت لها البرامج وأعدّ المدرسون والإدارات كل ذلك لبناء الإنسان التونسي وفق منهج تعليمي موحّد يتناول كلّ المواد ومختلف المدارس الفكريّة والأدبيّة والعلميّة، أما بالنسبة للجامعة الزيتونيّة فقد وقع تعويضها بكلية الشريعة وأصول الدين وعيّن الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور عميدا لها وهو الذي وضع لها البرامج والمناهج واختصّت بتدريس العلوم الدينيّة بحيث أصبحت هذه الكلية واحدة من بين كليات الجامعة التونسيّة الوليدة وعوملت كباقي الكليات من مختلف النواحي، والذي يمكن أن نؤكده أن الزعيم بورقيبة كان يحمل كامل التقدير للشيخ الفاضل حيث عيّنه بجانب العمادة مفتيا ومستشارا في محكمة التعقيب وكانت له حرية التصرّف في هذه المجالات خصوصا منها كلية الشريعة، لذا لا يمكن أن نحمل على محمل الجد من يتأسف أو يقول بأن الزعيم ألغى الزيتونة والتعليم الزيتوني، والواقع أنه استجاب لمطلب النخبة في الإصلاح الذي أعلنته وناضلت من أجله منذ بداية القرن الماضي فأصلح الزعيم بورقيبة ما يمكن إصلاحه مع مراعاة الزمن وحيثياته ليصبح لدينا جذر موحّد يتعلّم فيه كل التونسيّين وهو الابتدائي والثانوي ثم التخصّص في الجامعة، الأمر الذي يعني أن القول بأن التعليم الزيتوني ألغي لا يقوم على سند صحيح أو خبر ثابت، أما بالنسبة للجامع فبقي على حاله محلا لأداء العبادات مع الإبقاء على تسييره المتوارث منذ قرون سواء بالنسبة للإمامة أو لغيرها ولا أدلّ على ذلك من أن الرئيس نفسه تحوّل لأداء الصلاة فيه بعد حديثه مع الجزائريتين.
سياسيا
مثّل ظهور حركة الاتجاه الإسلامي في تونس البداية الفعلية لنشر فرية إغلاق جامع الزيتونة وترويجها لأنها تعلم جيّدا أن التعليم العصري سوف يكون مانعا لها من أن تخونج الدولة والمجتمع وهو ما نشاهد آثاره اليوم حيث نجد أن مقاومة حركة النهضة قامت على أكتاف خريجي مدرسة دولة الاستقلال، واللافت للنظر أن قسما كبيرا من شيوخ الزيتونة بجانب من ذكر أعلاه وقف موقف المساند لإصلاحات دولة الاستقلال ولم ينخرط في الكذبة التي تروّج لها حركة النهضة من ذلك الشيوخ محمد الشاذلي النيفر ومحمد العروسي المطوي والحبيب المستاوي ويوسف الرويسي والحبيب الهيلة وحسن قاسم والتهامي نقرة ومحمود كريشان والحبيب نويرة وغيرهم رحمهم الله جميعا، كما أن شيوخ الزيتونة لم يكن لهم أي دور في تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي التي تكنّ لهم عداوة عبّر عنها الغنوشي في قوله: "لم تكن الحركة الإسلاميّة المعاصرة في تونس من ثمار جامع الزيتونة بل لم يكن للجامع دور يذكر في نشأتها كانت الحركة الإسلاميّة إلى حد كبير انعكاسا لأثر الفكر الإصلاحي في المشرق"(9) وفيما ذكر الغنوشي ما يغني عن تأكيد القول بأن حركته لا علاقة لها بتونس فهي نَبْتٌ مستورد من المشرق العربي لأداء مهام لا علاقة لتونس ولا للزيتونة بها، لذا لم يجد المذكور حرجا في نشر الأكاذيب والأراجيف ومن بينها فرية إلغاء التعليم الزيتوني التي لم يتوقف عن ترويجها وأصبحت البند الأوّل في كل خطبه وبياناته وممّا ساعد على ترويجها تبنّي الإخوان المسلمين لها فقد خصّها القرضاوي بالشرح والتفصيل في كتابه "التطرف العلماني في مواجهة الإسلام نموذج تركيا وتونس" نقلا من كتاب لأحد منتسبي الحركة نشره في الخارج قبل سنوات تحت عنوان "تونس الإسلام الجريح"، والمستفاد ممّا ذكر أن فرية إلغاء الزيتونة ليست إلا الوجه الآخر لرفض المدرسة العصريّة وتوحيد التعليم وهو ما حرص الغنوشي على تنفيذه حالما سلّموه حكم البلاد حيث أسّس هيئة علمية للتعليم الزيتوني وسمّاها مشيخة ومكّنها من فتح فروع لها في كامل أرجاء الوطن بهدف معلن هو التعليم الديني تحت ستار الزيتونة وهدف مستتر هو التجنيد لصالح الحركة وما زالت هذه الهيئة التي تشقها خلافات معلنة تمارس أدوارا مشبوهة أقلها تخريب المنظومة التعليميّة بتعدّد المناهج واختلاف الرؤى.
والذي نخلص إليه أن تأسف الرئيس الذي أبداه للجزائريتين عند حديثه عن الزيتونة يخفي موقفا مناهضا لمنجز دولة الاستقلال، ظهر ذلك المرات المتعددة ومن بينها:
* استشهاد الرئيس بمقال للبشير النيفر أحد عتاة الانغلاق في الزيتونة وجدّ احميدة النيفر رئيس جمعية رابطة تونس للثقافة و التعدّد التي ينشط فيها شقيق الرئيس حول فصل الدين عن الحكومة(10).
* إشادة الرئيس بالخضر حسين الذي نشر ردودا على قادة التنوير في العالم العربي كطه حسين في كتابه عن الأدب الجاهلي وعلي عبد الرازق في كتابه عن الخلافة وغيرهما.
* إدراجه مقاصد الإسلام في الفصل الخامس من الدستور التي تمثل دعوة صريحة لتطبيق الشريعة ممثلة في قطع الأعناق والأيدي والأرجل وسمل العيون وغير ذلك ممّا يحفل به التاريخ الإسلامي وكتب الفقه والحديث.
* موقفه الرافض من المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى بحجة أن النصّ صريح في تحديد الأنصبة رغم أن هذا النص لم يتوقّف المسلمون عن تجاوزه وتغييره كلما فرض عليهم التطوّر الحضاري ذلك فالكثير ممّا جاءت به النصوص اقتصر حضوره اليوم على التلاوة في الصلاة دون العمل بمضمونه كضرب رقاب الكفار والإماء والرق وغير ذلك ممّا يصنّف بمقاييس العصر في باب الهمجية والاعتداء على حقوق الإنسان.
فلننتبه لأن معظم النار من مستصغر الشرر.
-------
الهوامش
1) "دراسات في العلاقات الإسلامية المسيحية"، عبد الجليل التميمي، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، زغوان 1996، ص47.
2) "تونس الشهيدة" عبد العزيز الثعالبي، ترجمة حمادي الساحلي، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت 1984، ص70 و71.
3) "المدرسة الصادقية والصادقيون" أحمد عبد السلام، منشورات بيت الحكمة، تونس 1994، ص49.
4) المصدر السابق ص 48.
5) أطروحة الدكتور محمود عبد المولى عـن الجامعة الزيتونية الصادرة بالفرنسية سنة 1971، ص195.
6) أطروحة الدكتور محمود عبد المولى، ص134.
7) "المفيد السنوي"، محمد المقداد الورتتاني، مطبعة الشمال الإفريقي، تونس 1936، ص242 وما بعدها.
8) "ذكريات عصفت بي" الحبيب نويرة، دار سراس للنشر، تونس 1992، ص89.
9) "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس" راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، الطبعة التونسية 2011، ص41.
10) الشارع المغاربي بتاريخ 17 ماي 2022.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: