أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1086
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعد لأي وتكتّم صدر مشروع "دستور الجمهورية الجديدة" في الرائد الرسمي وقد حملت فصوله السبعة التي تعرضت للإسلام موقفا لا علميا لمسألة العلاقة بين الدولة والدين قام على الخلط بين المفاهيم وحشر بعضها في بعضها الآخر ليصل محرّر الدستور إلى فهم مسبق صاغه في الفصول المذكورة التي تجعل من تونس بلدا بلا خصوصيّة أو تاريخ متفرد بل جزءا من أمة تحكمها شريعة الفقهاء تحت مسمى المقاصد.
المقاصد
جاء في الفصل الخامس: "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية" ولي على ما ورد في هذا الفصل جملة من الاعتراضات كالتالي:
1) قوله بأن تونس جزء من الأمة الإسلامية قول مبهم ومخاتل قُصد به التعمية، ذلك أن تونس مغايرة للأمة الإسلامية فالذي يجمع بين التونسيّين أرض وتاريخ وآمال مستقبليّة أما ما يجمع بين المسلمين فانتماء عقدي متطاير وغير ثابت يمتدّ من جاكرتا إلى مضيق جبل طارق وقد يتجاوزهما ويحوي قوميات لا عدّ لها ولا حصر وثقافات لا جامع بينها ولغات متغايرة، الانتماء إلى تونس له تبعات وحقوق وواجبات يمكن تلمّسها على أرض الواقع ويضبطها القانون أمّا الانتماء إلى الأمة الإسلاميّة فهو خلو من ذلك، ترى ما الذي يجمع التونسي بالباكستاني سوى رابطة مهلهلة لا تمنع حربا ولا تقيم صداقة أو توطدها.
2) أرجع الفقهاء المقاصد الشرعية الضرورية: "إلى خمسة أشياء الدين والنفس والعقل والعرض والمال وقد شرع الإسلام لكلّ واحد من هذه الخمسة أحكاما تكفل إيجاده وتكوينه وأحكاما تكفل حفظه وصيانته وبهذين النوعين من الأحكام حقّق للناس ضرورياتهم"(1) وبَيِّنٌ أن وضع الدين على رأس الضروريات ومعاقبة المرتد بالقتل إنما حدثت في مبتدأ بناء الدولة وقت أن كانت طريّة العود فتشدّد المشرع في كل خروج عنها إنما القصد منه المحافظة على الدولة الوليدة لذا عُدّت الردّة أيامها خروجا من الدين الذي هو خروج عن الدولة في نفس الوقت، ولأن الدين اليوم لم يعد يمثل مقوّما من مقوّمات الدولة لم يجد الإسلاميون بُدًّا من ربط الردّة بخيانة الوطن حتى يبقى حكم التكفير قائما وحتى يتمكنوا من استعماله للقضاء على كل نفس حرّ وكل معارض لهم وهو ما حصل ويحصل، قال عبد القادر عودة: "وتعاقب الشريعة على الردّة بالقتل لأنها تقع ضد الدين الإسلامي وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثم عوقب عليه بأشد العقوبات استئصالا للمجرم من المجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية ومنعا للجريمة وزجرا عنها من ناحية أخرى"(2)، والذي يلفت الانتباه في هذا الفصل قوله: "وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف" حيث ذهب البعض إلى القول بأن هذا الفصل يمنع استعمال الدين على كل الأطراف السياسية ويحصره في الدولة وحدها، غير أن المسألة يجب أن ينظر إليها من جهة أخرى لأن تكليف الدولة بأن تعمل على تحقيق المقاصد الشرعية يعني أن محرّر الدستور كفّر المجتمع التونسي أو هو في أفضل الأحوال وصفه بالعصيان وعلى الدولة أن تمارس سلطتها حتى يصبح مجتمعا مسلما تتحقق فيه المقاصد المذكورة ترجمة لما جاء عن عثمان بن عفان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وهو ما يمثل انحرافا بالدور الأساسي للدولة من محافظة على الوحدة البلاد واستقرارها إلى دولة دينية لا همّ لها سوى متابعة مواطنيها في لباسهم ومأكلهم كما يحدث لدى طالبان وإيران، وقد تفطن الفقهاء القدامى إلى خطورة التطبيق الحرفي للحدود التي هي مربط الفرس في تطبيق الشريعة أو تحقيق المقاصد الشرعية لأن الخطاب فيها واحد وإن تعدّدت الألسنة فأوجدوا لها شروطا يستحيل توفرها للحدّ من استعمالها، من ذلك أنهم اشترطوا في الزنا أربعة شهود ذكور يعاينون الفعلة معاينة المرود في المكحلة وأن تكون شهادتهم في مجلس واحد وإن تخلّف أحدهم عوقبوا على الشهادة زورا لذا لم يطبق هذا الحدّ طوال التاريخ الإسلامي إلا مرات قليلة وبالإقرار وكذا في القتل وفي غيرها من الجرائم فهل ستعمل دولتنا على الانضباط لهذا الفقه وتلتفت عن القوانين الجاري بها العمل؟، ويبدو أن محرّر الفصل الخامس لم ينتبه إلى أن هذا الفصل يفسد على الرئيس حملته التي قامت على القضاء على الفساد المتمثل أساسا في الإثراء غير المشروع وسرقة الأموال العمومية لأن من شروط إقامة الحدّ في السرقة أن لا تكون للسارق في المسروق شبهة ملك وهو ما يعني أن سارق أموال الدولة لا يعاقب شرعا لعدم توفر الشرط المذكور لأن له في أموال الدولة شبهة ملك ولا يمكن أن يحدّ سارق نفسه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نلاحظ أن محرّر الدستور تصرّف في المقاصد الضرورية بالحذف والإضافة فأخّر الدين وحذف العقل وأضاف الحرية أي أنه أباح لنفسه التصرّف فيها وقدّم مقاصده في ثوب المقاصد الشرعية والحال أن وصفها الدقيق هو المقاصد السعيديّة فمن يضمن لنا أنه لن يتصرف مجددا فيها وفي غيرها بهدف إدامة ملكه والقضاء على معارضيه، إنّ إضافته مقصد الحرية كما نفهمها نحن وكما هي دارجة في خطابنا المتداول لا علاقة لها بالشرع، وردت مشتقات حرّر في القرآن خمس مرات في تحرير رقبة وفي مقابل الاسترقاق مرتين ولم يستخدم مصطلح الحرية لدى الفقهاء إلا مقابل الاستعباد، أما ما نجده اليوم لدى الحركات الإسلامية من استعمال لمصطلح الحرية كما نفهمها اليوم وبما تحمل من معان حقوقية وسياسية واجتماعية فهو من باب التحيّل حيث ينحرفون بالمصطلحات عن معانيها الحقيقيّة إلى أخرى بغاية تحقيق مكاسب سياسية من ذلك أن الغنوشي كتب كتابا سماه "الحريات العامة في الدولة الإسلاميّة" تحدث فيه عن الدستور والمعارضة والمجالس النيابية والحريات وغيرها ولكنه في نهاية الأمر يربط كل ذلك بضرورة إقامة دولة الخلافة التي هي: "الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيد الإسلامية تبقى هدفا لجهاد الأمة لا يحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه بل ينبغي السعي إليه بتدرّج عبر أشكال مرنة من الوحدة"(3) والغريب في أمر محرّر الدستور أنه ألغى مقصد المحافظة على العقل وهو مقصد جليل يقول عبد الوهاب خلاف: "وشرع لحفظ العقل تحريم الخمر وكلّ مسكر وعقاب من يشربها أو يتناول أي مخدر"(4) وقد رتّب الشارع على ذلك مباحث أتى عليها عبد القادر عودة في تشريعه الجنائي حيث خصّص الكتاب الثالث من تشريعه الجنائي لشرب الخمر وأحكامه(5) فهل يعني هذا أن قيس سعيد ألغى مبحث تحريم الخمر وأننا سنشاهد بعد المصادقة على دستوره رفعا للتضييقات التي يتفنن حكامنا في ابتكارها أيام الجمعة وفي رمضان وفي غيرهما، والمستفاد ممّا ذكر أن محرّر الدستور لا يسير على خط منهجي واحد فتجده يخلط بين الأشياء فتارة يلغي وأخرى يضيف وثالثة يحوّر دون رابط ودون هدف محدّد أو وضوح في الرؤية.
تونس والأمة الإسلامية
جاء في الفصل الرابع: "تونس دولة موحّدة ولا يجوز وضع أي تشريع يمسّ بوحدتها" إلا أن محرّر الدستور سرعان ما نكص على عقبيه وفتح الأبواب مشرعة لاستهداف وحدة البلاد حيث ورد في الفصل الخامس القول بأن تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة وفي الفصل السادس تصبح تونس جزء من الأمة العربيّة وهو كلام كان من الممكن قبوله لو وُضع في التوطئة وصفا لوضع ثقافي وحضاري، أما أن تصبح تونس جزء من الأمتين المذكورتين ويوضع ذلك في فصلين في الدستور الذي يحدّد القواعد الأساسية لتشكيل الدولة ويحدّد الخطوط الكبرى لسيرها فليس إلا تمحّلا في غير محلّه وقيدا للحكم من التصرف وفق ما تقتضي المصلحة، رغم أن الانتماء إلى العروبة لم يكن مُدسترا سابقا إلا أنه أقام الدنيا ولم يقعدها لمّا خطب الزعيم بورقيبة في أريحا فاتهم بالخيانة والعمالة وقوطعت تونس بسبب ذلك، أما الانتماء إلى الأمة الإسلامية فقد أوجد الطالبان العرب الذين ارتكبوا من المجازر في أوطانهم ما يشيب له الأقرع كما أدّى الشعور بهذا الانتماء إلى السماح لبعض الدول وتحت غطاء ديني أن تؤسّس حركات سياسيّة مهّدت لظهور إرهاب تعاني منها مختلف الدول التي تنتمي لهذه الدائرة وامتدّ لغيرها، فتونس وإن تكلم أغلب شعبها اللغة العربية وإن دان أغلبها بالإسلام فإن ذلك يجب أن لا يخرج عن الإطار الحضاري الثقافي وأن لا يصبح محدّدا في سياسات الدولة ومن الخسران والبوار أن تدستر العلاقات بأمّتين لا وجود لهما إلا في سياسات بعض التنظيمات الأمميّة عرقا أو دينا.
الترشح للرئاسة
ورد في الفصل 89 أن: "الترشح لرئاسة الجمهورية حق لكل تونسي...." وهو ما يعني إقصاء النساء من الترشح لهذا المنصب واستنقاصا لهن وتراجعا عن المكاسب التي تحققت في دولة الاستقلال فإغفال ذكر المرأة مقصود في هذه الحالة لأن مبحث ترشح المرأة لبعض المناصب في الدولة مُختلف فيه لدى الفقهاء ويذهب أغلبهم إلى منع المرأة من الوصول إلى تولي الولايات العامة وزارة وقضاء، ويبدو أن محرّر الدستور اختار الاستئناس بالفصل 31 من دستور حزب التحرير الذي جاء فيه: "يشترط في الخليفة حتى تنعقد له الخلافة سبعة شروط وهي أن يكون رجلا..." فاعتمد شرطه بشكل متخف يوحي بنسيان التنصيص على المرأة وما هو كذلك، في الفصل 88 اشترط في الترشح للرئاسة الإسلام الذي نجده في الدساتير التي عرفها الوطن مثيرا بذلك إشكالا معرفيا وسياسيا ففي دستور 1959 وهو دستور الاستقلال كان هذا الشرط مساويا لشرط الوطنية لأن الحركة الوطنيّة قامت في جزء منها على التمسك بالدين فالمتجنس حكم الناس بكفره ورفضوا دفنه في مقابرهم كما أن وقودها كانوا من أبناء جامع الزيتونة لكل هذا لم يكن مستغربا أن يشترط الإسلام، أما اليوم فإن الإبقاء على هذا الشرط أصبح شكليا ومن نوع الأخذ بالخاطر وتوهّما بمنع مصادمة الشعور الجمعي إن حذف، أركان الإسلام كما وردت عن الرسول (ص) قال: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" فكيف لنا أن نتثبت من إسلام هذا أو ذاك حتى يتمّ التصريح بصحّة ترشحه لمنصب الرئاسة؟ وما العلاقة بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالوظائف التي على رئيس الدولة الوفاء بها؟ هل نطالب المترشح بالاستظهار بشهادة إسلام مسلمة له من مفتي الجمهورية كما هو حال الراغبين في الزواج علما بأن المفتي كان من بين أعضاء اللجنة التي تبت في صحة الترشحات ولكن وقع الاستغناء عنه؟ ثم أي إسلام يقصد محرّر الدستور هل هو إسلام حزب التحرير أو إسلام الوهابية أو إسلام الشيعة المؤمنة بولاية الفقيه في قم أو تلك الموجودة في النجف أو إسلام الأباضية أو إسلام الغنوشي أو إسلام عماد الحمامي؟، في تقديري أن الإبقاء على هذا الشرط:
* ينقض مفهوم الوطنية من أساسه لأن الأوطان تُبنى على المساواة في الحقوق والواجبات بين الجميع ولا التفات لأسباب الاختلاف الطبيعية أو الوراثية من نوع اللون أو اللغة أو الجهة أو الدين أو الجنس فالمواطن مطالب بالدفاع عن وطنه سواء كان مسلما أو غيره ذكرا أو أنثى.
* ويبقي مفهوم الأغلبية والأقلية دارجا في الخطاب فالأغلبية مسلمون والأقلية ملحدون أو أباضية أو يهود... وهو ما يديم إمكانية استغلال هذا الشرخ من قبل الأعداء والخصوم بالنفخ فيه واستعماله لزعزعة الاستقرار كما حدث لدينا في أحداث سنة 2011 لمّا استُغِلّت الأقلية الدينية النهضوية من قبل قوى أجنبية لتخريب البلاد وتدميرها، فمنعا للشر قبل وقوعه تخلصت الدول المدنية من هذا الشرط إعلاء منها لقيمة الوطنية التي هي الجامع الأصلي والرابط الأساسي بين أبناء الوطن الواحد.
والذي نخلص إليه أن الدولة التي وردت في هذا الدستور هي دولة دينية بامتياز حيث تنحصر مهمتها في تطبيق مقاصد الشريعة التي تتناول حتى أخصّ الخصوصيّات البشرية لأن أحكام الشرع كما فصلها الفقهاء لم تترك شاردة ولا واردة إلا ولها فيها حكم، فالمحافظة على الدين ستؤدي حتما إلى منع الإبداع وحرية الفكر والمحافظة على النسل ستفتح الباب على مصراعيه للزواج بثانية وثالثة ورابعة وإلغاء مجلة الأحوال الشخصية والمحافظة على الأموال لن يفلت منها أصحاب الأموال والبنوك من الدعوة إلى تمويل صناديق الزكاة أما الحريات فحدث ولا حرج لأنها ستنظبط للآداب العامة الواردة في الفصل 55 تمهيدا لتنقيب النسوة ومنع السباحة في الشواطئ وغير ذلك، فهل كتب علينا أن لا نجد مخلصا من معضلة خلط الدين بالسياسة وخلط الدين بالدولة؟.
----------
الهوامش
1) "علم أصول الفقه" عبد الوهاب خلاف، دار القلم الكويت، الطبعة العاشرة 1972، ص200.
2) "التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي" عبد القادر عودة، دار إحياء التراث العربي، ط4 بيروت 1987، ج1 ص661 و662.
3) "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى ص155.
4) علم أصول الفقه لخلاف ص201.
5) التشريع الجنائي لعودة ج2 صص 496-513.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: