عبد العزيز كحيل - الجزائر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 37
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لماذا قالوا من قديم: "عبادة الجاهل مسخرة للشيطان"؟ لأن المؤمن إذا انغلق في دائرة التديّن العاطفي كان كمن أشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" أي هو تديّن على مستوى القلب مقطوع عن العقل والفهم والوعي، يستغرق في العبادات الفردية ويكثر من النوافل لكنه لا سهم له في أي فعل اجتماعي أو نشاط ينفع الأمة، يعرف كل شيء عن الصلاة والصيام والحج والعمرة ومخارج الحروف عند قراءة القرآن ولا يعرف شيئا عن التحديات التي تواجه الإسلام ولا المكر الذي يُحاك لأهله، فرض الكفاية عنده هو صلاة الجنازة أما الفروض الاجتماعية كتحصيل العلم وتسيير المرافق وسدّ مختلف الثغور فهو عنده من الترف العقلي وسقط المتاع...وهكذا يصبح الدين مخدرا مساحته هي الحفظ الآلي والتباهي به إلى جانب غياب تام للفهم والعمل.
على سبيل المثال أين القرآن في علاقاتنا الأسرية والاجتماعية والسياسية؟ أين حكم القرآن إذا خرجنا من فضاء العبادات الفردية؟ لابد أن نقول ونكرر بكل قوة ووضوح أن القرآن لم ينزل لأجل المسابقات ولا للرقية ولا للتباهي بالأصوات ومخارج الحروف بل القرآن أنزل للحكم بين الناس، قال تعالى "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ"، فأين القرآن في حياتنا اليوم؟ بل أنزل ليكون منهجا للحياة كل الحياة: الروحية الفكرية والعملية، ودليلا واجب الاتباع يهدي للتي هي أقوم في مجالات التربية والسياسة والمال والفن والعلاقات الخارجية، أما التباهي بامتلاء المساجد بالناس في رمضان والغفلة عن هجرهم لها بعد العيد مع تكرار نفس السيناريو كل سنة فهو مجرد رد فعل عاطفي يهيل التراب على المشكلات فيجعلها تتفاقم ولا يحل منها قليلا ولا كثيرا، ونبقى أمام نفس المقدمات ونفس النتائج نراوح مكاننا ونحن فرحون مسرورون بتديّن شكلي يحمل في طياته تبعيضا مسيئا لدين الله.
الإقبال على المساجد والنوافل وأفعال الخير في رمضان أمر نفرح به لكن لا يجوز أن نضيع البوصلة فتعمّق هذه الأعمال المتاهة وتزيدنا شرودا، لماذا؟ لأنها – بكل موضوعية وبعيدا عن العواطف الجارفة – زخرفة وتحرك على مستوى الهوامش ورضا بالتدين البليد وشرود عن مقاصد رسالة الإسلام...هل هذا التدين يغيّر التاريخ ويؤثر في الأحداث ويعيد الأمة إلى المنهج الرباني ومركز الشهود على الناس؟ هل يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين؟ ها هي غزة تفضح التدين العاطفي وتبين حقيقة التدين عند جمهرة المسلمين: الجوع والعرى والموت هناك وتكرار العمرة والحج هنا...ومازال كثير من المسلمين- وفيهم خطباء ودعاة وطلبة علم - يتفاخرون بأكبر مسجد هنا وأطول مئذنة هناك ويتناقلون أخبارا مفادها ان في دولة تشاد مليون حافظ للقرآن، وكان ينبغي الفرح بهذا العدد لو أخرج البلاد من الفقر والتخلف والمرض والحروب الأهلية، أما وهي واحدة من أفقر دول العالم تعيش على مساعدات الدول "الكافرة" وتنشط بها الإرساليات المسيحية تُطعم وتعالج وتحفر الآبار فهذه مأساة تدعو إلى الخجل والبكاء لا إلى التباهي.
ومما زاد من وقع مأساتنا اغترار كثير منا بمزاعم "أهل السنة والجماعة" و"السلف الصالح" – وهم أوضح نموذج عن التديّن العاطفي البارد الساكن - وبثقافة السلبية التي ينشرونها حتى جاء طوفان الأقصى فأزال أقنعة التسنن الزائف كما أزال عن الوجوه الكالحة آثار التجميل وظهر الرجال والأدعياء على حقيقتهم، وينبغي لكل مسلم أن يعتبر بهذا فيترك دعاة التدين "المحايد" ويتبع موكب الدعاة الربانيين الذين يحسنون العبادة في محراب الحياة والتدافع السنني والجهاد بكل أنواعه كما يحسنونها في محراب الصلاة والتبتل والترتيل.
إن التدين العاطفي يقيم معارك طاحنة حول مسائل فرعية خفيفة الوزن في ميزان الشرع لكنه يتلاءم بأريحية كبيرة مع مجتمع "مسلم" أكثر أهله لا يصلون، لا يزكون أموالهم، يصومون تقليدا، أغلب أبنائهم يتعاطون المهلوسات والمخدرات، الأغلبية الساحقة من نسائهم متبرجات، الخمور تسيل مدرارا في بلادهم، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، إذاعاتهم وشاشاتهم كلها غناء ورقص وضحك وسخرية طول اليوم، معاملاتهم ربا و رشوة، يتفرجون على أطفال غزة يموتون جوعا ويشغلون الناس بالعمرة ، التراويح ، الأصوات الحسنة، الحزب الراتب، المسح على الجوارب، قراءة القرآن جماعة...أليست هذه جريمة في حق الإسلام؟
التدين العاطفي يتضايق من هذا الكلام القاسي الذي يشرّح واقنا الديني بلا قفازات، ولا يحب سماعه ويفضل الأحلام والأماني والأوهام باسم التفاؤل، لكن الإسلام يفرض علينا إحياء التدين الواعي البصير كما بلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: