الإبحار في الفلسفة بدون بوصلة مفسدة للطفولة المبكرة
د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 53
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ننطلق من مبدأين اثنين لا يتناطح فيهما عنزان هو وان الغالب يستدرجنا إلى تقليده وإلى قروضه للحاق بركبه في الرقي والتقدم، وهو مطمحنا، ويوحي إلينا بثقافته ونفوذه أن التقدم رهين بالعلوم والمعارف وأن تراثنا من المخطوطات زاخر بما نقلناه من الحضارات السابقة من علوم ومعارف ونحن أحوج ما نكون اليوم لنقل المعارف الجديدة والعلوم والصناعات المستحدثة من الغرب تأسيّا بما فعلنا في السابق ولأنه هو نفسه في حضارته الجديدة أخذ من تراثنا العلمي ونقَله وتقدّم به دون عقدة. وأنه ما أغنانا عن علوم الدين ومخطوطاته الكثيرة الغالبة التي تغص بها المكتبات والتي أصبحت عالة على الاجتهاد والتحرر والتنور بالأفكار الجريئة و الفلسفات الحديثة والأخذ بزمام التفوق.
ومنذ حصولنا على الاستقلال قبل ٦٠ عاما والذين استلموا مقاليد السلطة يُبدون ويعيدون في البرامج والإصلاحات التربوية والتعليمية. وتفاحة الخلاف بينهم وبين معارضيهم من ذوي التكوين الديني الأصيل أمران، علوم الدين والعربية. ويستعين بعضهم على بعض، كلّ بروافد تدعم رؤيته وموقفه. ولكن ليس كمن رافده التأثير الأجنبي (دعم، هبات، قروض) والفرنسي بالذات (متعاونون وأفضليات اقتصادية) كمن رافده انتماؤه القومي العربي للدين والإسلام على محدوديته وضعفه بالمقابل.
وممن انتصبوا على كرسي المسؤولية في التربية والثقافة والتعليم نذكر مواقف لبعضهم مشهورة.
إدريس قيقة الذي واجه منتقديه بمجلس الأمة في موضوع إقرار التعريب بأنه يريد أن تكون خطواته مدروسة فأخذ نفسه بمعية ثلة من الأساتذة بالجامعة التونسية لزيارة جامعة دمشق المعروفة بتعريبها للعلوم فكانت النتيجة أن عددا لا بأس به من أقطاب هذه الجامعة سارروا زملاءهم التونسيين ليحذّروهم عاقبة التسرّع وعدم التورّط بإدراج التعريب الممنهج الذي هم أنفسهم نادمون عليه قبل أوانه وهم بصدد مراجعته. ولما سئل عمن تكون هذه الثلة إذا لم يكن من بينها الأساتذة المنادون بالتعريب ولم تكن كلها من الفرانكوفونيين كما هو الواضح. فتحفّظ عن الإجابة (وقد سجلنا هذا في مداخلاتنا النيابية المنشورة).
محمد مزالي الذي بادرني بعد تهنئته بمنصب المنسق للحكومة بالتوصية أن لا أعرض في المستقبل للتعريب لأن خصومه - حسب قوله - بانتظاره من هذه الزاوية للتأثير على بورقيبة بالحذر منه لأن فرنسا لا ترضى عليه إذا كان جادا في طريقه للتضييق على لغتها. فما كان منه بعد أيام إلا أن أقر الزيادة في ساعات العربية مقابل دعم التفقد لصالح الفرنسية!
ومشهور أنه من أبرز بنود الاتفاقيات بين تونس وفرنسا ٣ جوان عام 55 التي فجرت الخلاف بين المؤيدين لها والمعارضين في الحزب التوصية بعدم اعتبار اللغة الفرنسية لغة أجنبية!
أحمد خالد الذي نشر ألف نسخة (رقم قياسي!) من كتابه عن أحكام المعلمين والمتعلمين للقابسي القيرواني، لا لشيء إلا الترويج لانتقاده مؤلفَه بالتزمّت والتعصّب وأن كتابه لم يعد يصلح للعصر لأنه لا يراعي التعايش بين الأديان ولا مشاركة المسلمين غيرهم في العطل والأعياد دون تحيز، وتحذيره الآباء من تسليم أبنائهم لتربيتهم قبل البلوغ إلى غير مأمون في عقيدته وسلوكه، وأنه ليس للحاكم أن يتولى تربيتهم دونهم لأن التعليم فرض عين على الأولياء.
محمد الشرفي، الذي سخّر ديوانه لعدد من اليساريين المتطفلين عل علوم الدين لحجب الآيات في المدارس التي فيها تكفير وتفسيق وقتال للمشركين والكفار ودعاء على المغضوب عليهم والضالين!
ميشال فوكو الفيلسوف الفرنسي المستضاف من حكومة الاستقلال والذي جعل تونس بشذوذه المعروف مضحكة شعوب العالم. له تاريخ أظلم خلال السنتين ٦٢ وما بعدها فى جوار الولي الصالح سيدي بوسعيد ثم يكرم من طرف بورقيبة على معرفته بأفعاله الشنيعة بأطفال بورقيبة وتلاميذه بل ضحاياه بالحشد الذين كانت تجمعه له الدولة لتلبية شهواته في حصانة استعمارية بصفته أستاذ كرسي الفلسفة بجامعتنا التونسية في أول سنوات إنشائها على انقاض الجامعة الزيتونية الدفينة..
ونحن نسمع في هذه الأيام نتيجة جيلين أو أكثر من التربية الاستقلالية على محبة الأجنبي، وهو مرض ثقافي، من يمضي إلى أبعد في الدعوة إلى النسج في تعليم الأطفال الصغار الفلسفة حتى لا يبقى لهم يقين يلقّنونه تلقينا من آبائهم إلا استخدموا الشك الديكارتي للنجاة بأنفسهم من الغرق في المسلمات الدينية التي تفضي إلى التعصب. فالفلسفة أولى من الدين بالتدريس، وأن تكون مادة يفتح عليها طفلنا عينه وسمعه وفمه كاللمجة يشاركها مع غيره أسرة بشرية واحدة لمقاومة نزوع التطرف السليقي فيه من بيئته الأصلية!
بهذا المنطق نحشد الأذهان تأسيا طبعا لا بقرآن وسنة ولا بعلماء تونسيين أعلام بل بأستاذ فلسفة أمريكي لا نعرف له أصلا ولا فصلا ولا ملة إلا اكتشافه أن الفلسفة انقلبت رأسا على عقب في العقود الأخيرة لتكون بمتناول الأطفال من أصغر سن على القراءة والكتابة لنخدم في الأخير جهود مقاومة الإرهاب والمقصود الإسلام لأنه المرادف الأصح للكلمة في مصطلح الغربيين.
فهو إنتاج أمريكي ومن يتجرأ على نعته بالاعتداء على الطفولة، على البراءة على الفطرة كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة...". قال ابن عبد البَرّ : وهذا الحديث صريح في أن كل مولود يولد مسلماً، فإذا كان أبواه غير مسلمين، فإن أطاعهما فيما يدعوانه إليه من يهودية أو نصرانية أو مجوسية خرج عن الفطرة إلى ما يدعوانه إليه ويربيانه عليه، وإن هداه الله إلى الإسلام، فهو مسلم باقٍ على الفطرة التي فطره الله عليها.
وللترغيب في التقليد بالفكرة التي اخترعها لنا هذا الأمريكاني ونأخذ بها حتى إن نكن في آخرة قائمة الدول الخمس والسبعين التي طبقتها في مناهجها التربوية من الصغر. ونرى بعد جيل أو جيلين من نحن من القوم لغة ودينا أم صبَغتنا الفلسفة المبكرة إلى أعوان مقاومة الإسلام ولغته العربية من باب سقوط النهي عنا أو معاقبتنا إذا ناقشنا في عدم ضرورة التمسك بلغة معينة ورثناها ولم تعُد تُنافس فُصحاها على النت اللغات الحية ودين اعتنقناه قبل البلوغ دون اختيار؟
ولو كان الأمر يقتصر على تربية معينة يعطيها من أراد لأبنائه لهان الاختلاف بين بعضنا البعض، ولكن تعمّد أقلية تجد نفسها مسنودة من الخارج لأسباب إيديولوجية أو سياسية فتتزعم التجديد والإصلاح تحت مسميات شعاراتية كالاستعمار أو المدنية لتحقّق لنفسها الغلبة النخبوية بمقابل الشعبية الغوغائية الغالبة ديموغرافيا. فهنا يكمن الإشكال بين حرية الفرد وأنانية الأقلية لكسر عصاة الأغلبية إذا كانت لُحمتها الدين والعصبية.
تونس ، في ٢٢ شعبان ١٤٤٦ هـ ٢١ فيفري ٢٠٢٥ م
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: