أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 46
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
احتفلت بعض النخب التونسيّة هذه الأيام بمرور 150 سنة على تأسيس الصادقيّة بعقد الندوات وإلقاء المحاضرات التي لم تتخلف عن العادة الوطنية التي برزنا فيها وتجعل من هذا النوع من الاحتفالات مناسبة لإحراق البخور وذكر المكارم والإغضاء عن أي نقد، ممّا يفسد رؤية الأحداث على حقيقتها ولا يمكّن أبناءنا وأحفادنا من الوقائع التي تساعدهم على تقييم أفضل لتاريخنا ولشخوصه.
إنّ تناول الدور الذي لعبته المدرسة الصادقيّة كمؤسّسة تعليم عصري في الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي في تونس لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال مراحل تاريخيّة ثلاثة تغيّر فيها الدور الذي أدّته المدرسة من مرحلة إلى أخرى وهي التالية:
1) مرحلة التأسيس من سنة 1875 إلى دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1881 أي مدّة ستّ سنوات منها سنتان بإشراف مباشر من مؤسّسها خير الدين باشا.
2) من سنة 1881 إلى الاستقلال وإعفاء مديرها محمد عطية سنة 1955
3) بعد الاستقلال وتوحيد التعليم إلى الآن.
المرحلة الأولى
تأسّست الصادقية سنة 1875 على أيدي الوزير المصلح خير الدين باشا وحملت اسم الباي الذي أنشئت في عهده، وقد كوّن خير الدين لجنة من الذوات لوضع برنامجها الدراسي والإداري متركبّة من الشيوخ بيرم الخامس وأحمد ابن الخوجة ومحمد الطاهر النيفر وعمر بن الشيخ وأحمد الورتاني ومصطفى رضوان والباش كاتب محمد العزيز بوعتور وجميعهم درسوا في الزيتونة بجانب محمد العربي زروق الذي درس في المدرسة الحربيّة في باردو وقد ترأس هذه اللجنة خير الدين باشا والهدف من هذا التأسيس كما جاء في منتخبات الرائد: "أعددنا المدرسة الصادقيّة لترشيح الوطنيّين للخدمة بجميع إدارات مملكتنا ولمباشرة الصناعات الكبرى الحرّة ونصبنا بها دروسا ابتدائيّة وثانويّة ونهائيّة من معلمين مسلمين وأوروبيّين تزاولها التلامذة بالمدرسة المذكورة"(1) وهو نفس المعنى الذي ذكره محمد السويسي بشيء من التفصيل قال: "لتخرج لتونس موظفين أكفاء مكونين تكوينا عصريا يرتجى منهم أن يمكّنوا البلاد من تخليص ماليتها من قبضة الدول الأجنبيّة المشاركة في اللجنة المالية الدوليّة وتخليص سياستها من التبعيّة لإحدى تلك الدول التي أصبحت تعلن عن مطامحها دون احتشام"(2) هذا الهدف الذي قصد به المحافظة على استقلال البلاد وسيادة قرارها وضع له خير الدين برنامجا دراسيّا فبجانب العلوم اللغويّة والدينيّة يتعلم التلامذة اللغات الأجنبيّة كالإيطاليّة والتركيّة والفرنسيّة والعلوم العقليّة وعلوم الهيئة والبيطرة وغير ذلك، واللافت للنظر في الإعلان عن تأسيسها أنّ التعليم فيها مجاني وخصّصت فيه نسبة لسكان الحاضرة ونسبة لسكان الآفاق مع توفير المبيت والأكل لغير القادرين، وحتى يوجد لها خير الدين موارد مالية أوقف عليها ريع أملاك كثيرة، ومن الجدير بالملاحظة أن الفوج الأوّل الذي نجح في امتحانات أجريت بحضور خير الدين وأركان حكمه تقرّر إرساله إلى الخارج فترأس الوفد البشير صفر الذي سافر إلى فرنسا لمواصلة تعلمه في معهد سان لويس وعلي بوشوشة إلى أنجلترا بجانب آخرين يقول الثعالبي: "وفي الوقت الذي تمّ فيه الاحتلال العسكري لبلادنا كان زهاء الإثني عشر تونسيا من المتحصّلين على منح دراسية من المعهد المذكور يواصلون بمعهد القديس لويس بباريس دراستهم المهيّئة للمهن الحرة"(3) غير أنهم بعد أن عادوا في صائفة 1882 إلى تونس واستعدوا للمغادرة لمواصلة دراستهم أعلموا بإلغاء المنحة المسندة إليهم ممّا اضطرهم إلى البقاء في تونس والانخراط في سلك الوظيف وبذلك انتهت المرحلة الأولى التي كانت فيها المدرسة الصادقيّة ذات أفق وطني حداثي.
المرحلة الثانية
وهي المرحلة التي ابتدأت بدخول الاستعمار الفرنسي وشروعه في السيطرة على مختلف المؤسّسات القائمة، فما أن حلّ المقيم العام بول كامبون عضو الأكاديميّة الفرنسية للعلوم إلى تونس يوم 28 فيفري 1882 حتى التفت إلى المدرسة الصادقيّة بنية تغيير مناهجها فزارها يوم 18 أفريل وبعد أيام قليلة زارها الراهب المبشر الكاردينال لافيجري وهو ما يشي بأنّ المدرسة ستشهد تغييرات كثيرة ستنحرف بها عمّا أسّست لأجله وقد ظهر ذلك من خلال:
1) منع وفد الطلبة الذي ترأسه البشير صفر من العودة إلى الخارج بحجّة ضعف الميزانية.
2) طوال هذه الفترة أدارها فرنسيّون باستثناء الفترة الأخيرة التي عيّن فيها محمد عطية أما بالنسبة للأوقاف فقد كلّف المقيم العام جزائريا وكيلا لها مقربا منه هو حسن بن أحمد(4).
3) إنشاء إدارة عامة للتعليم وتكليف المستعرب لويس ماشويل بإدارتها وبتغيير البرامج الدراسية بما يشبه المدارس الفرنسية.
جملة هذه التعييرات التي تمت بتؤدة أدّت إلى مسخ دور المدرسة من أداة للتنوير والاستفادة من مكتسبات العصر إلى مدرسة وظيفتها الأساسيّة تخريج المترجمين الذين تحتاجهم الإدارة الاستعماريّة، يقول الشيخان صالح الشريف (1860-1920) وإسماعيل الصفائحي (1853-1919) في بيان حرّراه سنة 1918 تحت عنوان "بيان توحش فرنسا في القطر التونسي الجزائري والاستنجاد إليه" في حديث لهما عن الاستعمار وجنايته على التعليم واللغة ما يلي: "نزعت إدارة المعارف من يد الأهالي ووضعتها في قبضتها، حذفت من المدارس كلّ لغة أجنبيّة ما عدا الفرنسية، لا ترشح لهم من الفنون الرياضيّة والطبيعيّات وغيرها إلا بمبادئ لا يتمكنون من العمل عليها ولا تدخلهم في زمرة علمائها، أنشأت مكاتب في بعض البلاد التونسيّة ولكن الفائدة منها لا تزيد على تعليم لسان فرنسا وتأريخها بمقدار يخوّلهم الخدمة في مثل توزيع أوراق البريد أو الترجمة عن إفرنسي أو سوق عربات الترامواي... أسقطت اللغة العربية بالمدرسة الصادقيّة -التي وجدتها عند احتلالها القطر زاهرة بآدابها وبكلّ العلوم العصريّة واللغات- من مواد امتحانها... وأضف إلى ذلك منعها تعلّم كلّ اللغات ما عدا لغتها وقضائها على كلّ الفنون ما عدا الدرجة السطحيّة من بعضها، أسندت نظارة جامع الزيتونة الحقيقية إلى فرنسي ولم تزل تتعهّده بقوانين تلحقه على طريقة التدريج بسائر المدارس التي تسير في تعليمها على أسلوب عقيم..."(5)، وفي نفس المعنى يقول الثعالبي: "وعلى هذا الأساس فقد تعرّض التعليم الوطني منذ سنة 1881 إلى أقسى ضروب الاضطهاد... إنّ أوّل عمل قامت به الحكومة هو حذف اللّغات الأجنبيّة من برامج المعهد الصادقي... وأصبح التعليم بذلك المعهد لا يرمي إلى إعداد نخبة مثقّفة للمهن الحرّة كما كان من قبل بل تحوّل إلى آلة لتشويه أفكار الشباب التونسي وانحصر دوره في تكوين مترجمين غير أكفاء لمصالح الشرطة أو موظفين من الدرجة السفلى للإدارات..."(6)، وهو ما ذكره محمد السويسي في كتابه وإن بكثير من التعميم قال: "أمّا السواد الأعظم من خريجي الصادقيّة فكان التعليم الذي تلقوه يؤهّلهم إلى الانخراط في سلك الوظيف العمومي، ذلك الوضع الذي ساد مدّة الخمسين أو الستين سنة الأولى من تاريخ المدرسة"(7) وقد كان من الفروض أن يستثني السويسي من السنوات التي ذكرها الست سنوات الأولى التي نبغ فيها عدد من التلامذة ممّن كان لهم تأثير جلي في الفضاء السياسي والثقافي فيما بعد نتيجة للتكوين المتين الذي تلقوه في الصادقيّة قبل دخول الاستعمار، ومن بين الأسماء التي لا يمكن أن يدرس تاريخ البلاد دون ذكرها الشاذلي خير الله وعلي بوشوشة والمنوبي بوسن ومحمد شنيق والبشير الدنقزلي وعلي الورداني ومحمد الأصرم وحسين المقدم والبشير صفر ومحمد ابن الخوجة وهؤلاء جميعهم مسجّلون في السنة الأولى لافتتاح المدرسة عام 1875 وعلى أكتافهم وأكتاف نظرائهم عرفت بلادنا نهضة أدبيّة وسياسيّة وثقافيّة في بدايات القرن العشرين من خلال إصدار الجرائد كالحاضرة والتونسي والبصيرة وتكوين الجمعيّات كالجمعيّة الخلدونيّة وجمعيّة قدماء المدرسة الصادقيّة وحركة الشباب التونسي التي مثلت النواة الأولى لِما سينشأ فيما بعد من أحزاب سياسيّة، وكأني بالرعيل الأوّل من خريجي الصادقيّة أراد من خلال نشاطه في المجال العام أن يبقي الأهداف التي لأجلها أنشئت المدرسة حيّة رغم الانحراف بها من طرف الإدارة الاستعماريّة.
المرحلة الثالثة
وهي المرحلة التي تلت الاستقلال حيث تمّ توحيد التعليم وتخلّصت المدرسة الصادقيّة من الاشتراطات الاستعمارية وانخرطت في سلك التعليم الوطني التونسي مثلها مثل المئات من مدارس التعليم التابعة لوزارة المعارف أوّلا والتربية والتعليم ثانيا.
وعلى هذا الأساس فإنّ الاحتفال بتأسيس المدرسة الصادقيّة يستلزم التوقّف عند السنوات الستة الأولى قبل دخول الاستعمار، فعمر الصادقيّة في ميزان التاريخ الوطني يقع فيما بين سنتي 1875 و1881 حيث كان الإطار والأهداف والقصد والمناهج جميعها تونسيّة، أمّا ما جاء بعدها من تغييرات فيجب أن يتم إغفاله لأنّ كل إشادة به هي إشادة بفعل استعماري، ولسائل أن يسأل لماذا يقع الاحتفال المعمّم لكلّ مراحلها التاريخية إذن؟ وما السر وراء ذلك؟.
في تقديري أنّ الاهتمام بالصادقيّة بدأ مع الزعيم بورقيبة الذي خصّ مائوية المدرسة باحتفالات كبيرة سنة 1975 من بين أهم ما بقي منها الكتاب المصوّر الفخم لأحمد عبد السلام الذي حفل بجملة من الصور النادرة، هذه العناية من طرف الزعيم تندرج ضمن صوغ صورة الزعيم من خلال الإشادة بكلّ الأمكنة التي مرّ بها أو كان له بها حادثة، والمتأمّل في الأعياد والمناسبات الرسمية في فترة حكمه يلحظ أنّها مرتبطة بحياته وتنقلاته، أمّا القول بأنّ: "هذه المدرسة امتزجت في قلوبهم وأفكارهم (يقصد تلامذتها من قادة الحركة الوطنية) بالآراء التي كان لها أعظم الأثر في سيرتهم وبواسطتهم في تطوّر تونس وفي نظمها الحاضرة وفي تصورنا لمستقبلها"(8) فمردود من أساسه لأنّ الصادقيّة في الفترة الاستعمارية لا علاقة لها بالشأن السياسي المحلي، وإن وجدنا أسماء في قيادة الحركة الوطنية فلا يعود ذلك إلى المدرسة ذاتها بل إلى الروح الوطنيّة العامة التي انتشرت في كامل أرجاء الوطن واتسعت للعسف الاستعماري وهو ما يظهر لدى قيادات درست في معاهد مختلفة كمعهد كارنو الذي درس فيه صالح بن يوسف وأحمد الصافي وحسن قلاتي والصادق المقدم ومحمد بدرة وكذلك المعهد الفني الذي درس فيه الحبيب عاشور والمعهد العلوي حيث درس الهادي شاكر ومدرسة قرية الكلابين في قرقنة التي درس فيها فرحات حشاد.
إن التعميم وخلط المراحل التاريخية بعضها ببعض لا يمكن إلا أن يشوّه معرفتنا بتاريخنا وبشخوصه فالصادقيّة صادقيّتان الأولى يجب أن نحتفل بها وهي التي أسّسها خير الدين وبقيت حيّة إلى سنة 1881 أمّا الصادقيّة الثانية فهي بناية تسير وفق المناهج الاستعمارية لا علاقة لها بالروح الوطنية وإغفالها ضرورة إلا على المؤرّخين.
الهوامش
1) "تونس الشهيدة" عبد العزيز الثعالبي، تعريب حمادي الساحلي ومراجعة محمد العروسي المطوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1984، ص62.
2) "المدرسة الصادقيّة والصادقيّون" أحمد عبد السلام، منشورات بيت الحكمة، تونس 1994، ص27.
3) تونس الشهيدة، ص62.
4) المدرسة الصادقيّة والصادقيّون ص30 .
5) "الشيخان المجاهدان صالح الشريف وإسماعيل الصفائحي" دراسة ونشر أحمد العباسي، الطبعة الأولى 1987، ص121 و122 .
6) تونس الشهيدة، ص64 و70.
7) الصادقيّة والصادقيّون ص49.
8) الصادقيّة والصادقيّون ص96.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: