نفحات ودروس قرآنية (7) ابن عباس ونماذج من العطاءات القرآنية للأمة 7
ثمان آيات في سورة النساء ....
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4350
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قال ابن القيم – رحمه الله – في حقيقة الشكر في العبودية : " هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا وعلى قلبه شُهودا ومحبة , وعلى جوارحه انقيادا وطاعة " .
*************
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعــد :
وأما الآية الثامنة والأخيرة : من تلك الآيات الثمانية التي قال عنها ابن عباس رضي الله عنهما : " هن لامة محمد صلى الله عليه وسلم خير مما طلعت عليه الشمس أو غرت "، فهي قول الله تعالى : {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } ( النساء : 147 )، وهي آية خبرية، تعمر قلوب المؤمنين بالأمل والرجاء والطمأنينة والطمع في مغفرة الله ورحمته ورضوانه، حين يخبرهم أنه لا يفعل بعذاب عباده شيئا إن شكروا له وآمنوا به، والمعنى : " ما يفعل الله بعذابكم إن أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله، فإن الله سبحانه غني عمَّن سواه، وإنما يعذب العباد بذنوبهم، وكان الله شاكرًا لعباده على طاعتهم له، عليمًا بكل شيء " ( التفسير الميسر )،
وبتدقيق النظر في مضمون هذه الآية نجد أنها ترسخ قاعدة مؤداها : أن الله تعالى لا يعذب المؤمنين الشاكرين "، وأن الأمن من عذاب الله تعالى مرهون بالشكر والإيمان، أما الذين لم يشكروا ويؤمنوا، فعذابهم تأديب لهم، لا يعود على الله بشيء.
نظرة عامة حول الآية وسياقها :
- لقد جاءت الآية التي نحن بصددها في سياق قوله تعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً{145} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً{146} مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً{147} لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً{148}( النساء : 145 – 148 )، وهكذا نجد أن السياق السابق مباشرة للآية يتحدث عن المنافقين ومصيرهم ومآلهم يوم القيامة، فيقرر مجموعة من الحقائق بشأنهم، من حيث :
- كونهم في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة، أي في أسفل منازلها وأسوئها على الإطلاق،
- أنه ليس ثمة نصير لهم، ولا مانعا لهم من عذاب الله تعالى، أو من يدفع عنهم هذا المصير المحتم،
- أن السبيل الوحيد أمامهم لتجنب هذا المصير المحتوم والسيء هو :
أولا : أن يتوبوا من النفاق ويرجعوا إلى الله تعالى بتحقيق الايمان،
وثانيا : أن يصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم وأعمالهم ظاهرا وباطنا، ووالوا عباده المؤمنين،
وثالثا : أن يعتصموا بالله تعالى، وأن يتمسكوا بدينه سبحانه فلا ينفكوا عنه،
ورابعا : أن يخلصوا دينهم وأعمالهم لله تعالى،
- ولتأكيد تلك المعاني وترسيخها جاءت الآية التي نحن بصددها، لتبين لهم أن الله تعالى لا يناله من عذابهم شيئا إن شكروا لله وآمنوا به،
أقوال بعض المفسرين في الآية :
- قال " القرطبي " في قوله تعالى : { ما يفعل الله بعذابكم ..} أن هذا : " .. اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ لِلْمُنَافِقِينَ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي عَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، فَنَبَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الشَّاكِرَ الْمُؤْمِنَ، وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ عِبَادَهُ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِهِ، وَتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ : " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ لَهُ، وَثَلَاثٌ مِنْ كن فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ، فَالْأَرْبَعُ اللَّاتِي لَهُ : فَالشُّكْرُ وَالْإِيمَانُ وَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ }، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، وقال تعالى : { قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ }، وَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي عَلَيْهِ : فَالْمَكْرُ وَالْبَغْيُ وَالنَّكْثُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ }، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ }، وَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ }"،
- وقوله تعالى : { وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً }، أَيْ يَشْكُرُ عِبَادَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَمَعْنَى (يَشْكُرُهُمْ) يُثِيب ُهُمْ، فَيَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَذَلِكَ شُكْرٌ مِنْهُ عَلَى عِبَادَتِهِ (1)،
- يقول " الشعراوي " (2) : " ...في هذه الآية يتحدث الحق تعالى عن فكرة العذاب نفسها، ليجليها فيقول : {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} وهذا استفهام، والاستفهام أصلاً سؤال من سائل يتطلب جواباً من مجيب، وسبحانه وتعالى يريد أن يعرض قضية موثوقا بها فهو لا يأتي بها خبراً، فهو القادر على أن يقول : أنا لا أفعل بعذابي لكم، ولا أحقق لذاتي من ورائه شيئا، فلا استجلب به لي نفعا، ولا أدفع به عني ضراً، لكنه هنا لا يأتي بهذه القضية كخبر من عنده، بل يجعل المنافقين يقولونها، ليكون الحكم قد صدر منه هو، وإذا كان الله يقول : {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} فهذا خطاب لجماعة كانت ستتعذب، وكانت فيهم محادة لله، ورضي الله شهادتهم، فكأن هذه لفتة على أن العاصي يستحق العذاب بنص الآية : {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ}، ومستعد لهذا العذاب لأنه محاد لله، ولكن الله يقبل منه ومن أمثاله أن يشهدوا، وهذا دليل على أن الإيمان الفطري في النفس البشرية، فإذا ما حزبها واشتد عليها الأمر لم تجد إلا منطق الإيمان، ويوضح الحق للمنافقين : ماذا أفعل أنا بعذابكم؟ فلن يجدوا سببا خاصا بالله ليعذبهم، فكأن الفطرة الطبيعية قد استيقظت فيهم ؛ لأنهم سيديرون المسألة في نفوسهم، وعلى مستوانا نحن البشر نرى أن الذي يدفع الإنسان ليعذب إنسانا آخر إنما يحدث ذلك ليشفي غيظ قلبه، أو ليثأر منه ؛ لأنه قد آلمه فيريد أن يرد هذا الإيلام، أو ليمنع ضرره عنه، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون في أي موقع من هذه المواقع، فإذا أدار المنافقون هذه المسألة فطريا بدون إيمان فلن يكون جوابهم إلا الآتي : لن يفعل الله بعذابنا شيئا، إن شكرنا وآمنا، ونستخلص من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يريد عرض قضية يثبت فيها الحكم من الخصم نفسه، يلقيها على هيئة سؤال، وكان من الممكن أن يجري هذه المسألة خبرا، إلا أن الخبر هو شهادة من الله لنفسه، أما السؤال فستكون إجابته اقرارا من المقابل، وهذا يعمي أنهم كانوا عاصين ومخالفين، وكأنه سبحانه قد ائتمنهم على هذا الجواب ؛ لأن الجواب أمر فطري لا مندوحة عنه، وحين يدير الكافر رأسه ليظن بالله ما لا يليق، فلن يجد مثل هذا الظن أبدا، {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً}، وإن لم يشكروا ولم يؤمنوا فما الذي يناله الحق من عذابهم؟ ونعلم أن عظمة الحق أنه لا يوجد شي من طاعة يعود إلى الله بنفع، ولا يوجد شيء من معصية يعود إلى الله بالضرر، ولكنه يعتبر النفع والضرر عائدين على خلق الله لا على الله سبحانه، وسبحانه يريدنا طائعين حتى نحقق السلامة في المجتمع، سلامة البشر بعضهم من بعض، إذن فالمسألة التي يريدها الحق، لا يريدها لنفسه، فهو قبل أن يخلق الخلق موجود وبكل صفات الكمال له، وبصفات الكمال أوجد الخلق، وإيجاد الخلق لن يزيد معه شيئا، ولذلك قال في الحديث القدسي : " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئا إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر. ." ( صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد )، إذن فالطاعة بالنسبة لله والمعصية بالنسبة لله، إنما لشيء يعود على خلق الله، ولننظر إلى الرحمة من الحق سبحانه وتعالى الذي خلق خلقاً ثم حمى الخلق من الخلق، واعتبر سبحانه أن من يحسن معاملة المخلوق مثله فهو طائع لله، ويحبه الله لأنه أحسن إلى صنعة الله، {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}، فإن تشكروا وتؤمنوا فلن يفعل الله بعذابكم شيئا. . أي فقد أبعدتم أنفسكم عن استحقاق العذاب "،
أما عن قول الله تعالى : { وكان الله شاكرا عليما }، يقول " الشعراوي " أيضا (3) : " ....إن الإنسان حين يضع كل المسائل في ضوء منهج الله، فالله شاكر وعليم ؛ لأن الله يرضى عن العبد الذي يسير على منهجه، وعندما يرضى الرب عن العبد فهو يعطي له زيادة، فالله شاكر بمعنى أن البشر إن أحسنوا استقبال النعمة بوضع كل نعمة في مجالها فلا تتعدى نعمة جادة، على نعمة هازلة، ولا نعمة هازلة على نعمة جادة، فالله يرضى عن العباد، ومعنى رضاء الله أن يعطي البشر أشياء ليست من الضرورات فقط ولكن ما فوق ذلك، فسبحانه يعطي الضرورات للكل حتى الكافر، ويعطي سبحانه ما فوق الضرورات وهي أشياء تسعد البشر،إذن فمعنى أن الله شاكر. . أي أن سبحانه وتعالى راض، ويثيب نتيجة لذلك ويعطي الإنسان من جنس الأشياء ويسمو عطاؤه، مصداقا لقوله الحق : {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ( إبراهيم : 7 )، فالشكر هنا موجه من العبد للرب، والزيادة من الرب إلى العبد،
- يقول " ابن كثير " في تفسيره لهذه الآية : " ....ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ غِنَاهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذِّبُ الْعِبَادَ بِذُنُوبِهِمْ، فَقَالَ : {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أَيْ: أَصْلَحْتُمِ الْعَمَلَ وَآمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} أَيْ : مَنْ شَكَرَ شَكَرَ لَهُ وَمَنْ آمَنَ قَلْبُهُ بِهِ عَلِمَهُ، وَجَازَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الجَزَاءِ " (4)
- وبالنظر إلى هذه الآية نجد أننا أمام ثلاثة مصطلحات قرآنية هامة وهي حسب ترتيبها كما جاءت في الآية : العذاب، الشكر، الايمان، ولعل من المناسب أن نشير إلى معاني تلك المصطلحات على سبيل الايجاز :
أما عن مفهوم العذاب :
فالعذاب لغة : هو المنع، وسمّي العقاب عذابا لأنّه يمنع صاحبه من اقتراف المحرّمات، ومنه الماء العذب لأنّه حُبِس في الوعاء حتّى يصفُو ويفارقه ما خالطه (5)،
قال الشعراوي : " العذاب هو إيلام من يتألم "، وقال في موضع آخر : و «العذاب» هو إيلام الحس، إذا أحببت أن تديم ألمه، فأبق فيه آلة الإحساس بالألم (6)،
- هذا ولقد وردت مادة ( عذب ) في القرآن الكريم كـ ( اسم ) في أكثر من ثلاثمائة موضع، منها قوله تعالى : { فذوقوا العذاب } (آل عمران : 106) ؛ ووردت كـ ( فعل ) في ستة وعشرين موضًعا، منها قوله تعالى : { يعذب من يشاء } (المائدة :40) ؛ ووردت كـ ( اسم فاعل ) في ثمانية مواضع، منها قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (الإسراء : 14) . (7)
وأما عن مفهوم الشكر :
فــ " الشكر " في معاجم اللغة مصدر شكر يشكر، وهو مأخوذ من مادّة (ش ك ر) الّتي تدلّ على " الثّناء على الإنسان بمعروف يوليكه "، ويقال : إنّ حقيقة الشّكر الرّضا باليسير، ومن ذلك فرس شكور إذا كفاه لسمنه العلف القليل " (8)،
وقال " الرّاغب " : الشّكر تصوّر النّعمة وإظهارها، وقيل : هو مقلوب عن الكشر أي الكشف : ويضادّه الكفر الّذي هو نسيان النّعمة وسترها، وقيل أصله من عين شكرى أي ممتلئة، فالشّكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه (9)،
وقال " ابن منظور " في ( لسان العرب ) : " الشّكر، عرفان الإحسان ونشره، وهو مأخوذ من قولك : شكرت الإبل تشكر إذا أصابت مرعى فسمنت عليه، والشّكران خلاف النكران، والشّكر من الله : المجازاة والثّناء الجميل، ويقال : شكره وشكر له يشكر شكرا وشكورا وشكرانا، ويقال أيضا : شكرت الله، وشكرت لله، وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله، ورجل شكور : كثير الشّكر، وهو الّذي يجتهد في شكر ربّه بطاعته وأدائه ما وظّف عليه من عبادته (10)،
وقال " الكفويّ " في ( الكليات ) : الشّكر كلّ ما هو جزاء للنّعمة عرفا، وقال أيضا : أصل الشّكر : تصوّر النّعمة وإظهارها، والشّكر من العبد : عرفان الإحسان، ومن الله المجازاة والثّناء الجميل (11)،
وقال " المناويّ " في ( التوقيف على مهمات التعاريف ) : الشّكر شكران : الأوّل شكر باللّسان وهو الثّناء على المنعم، والآخر : شكر بجميع الجوارح، وهو مكافأة النّعمة بقدر الاستحقاق، والشّكور الباذل وسعه في أداء الشّكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا (12)،
وقال العلامة " ابن القيّم " : " الشّكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبّة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة، وقيل : حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع (13)،
قال الشعراوي : " الشكر: هو إسداء ثناء إلى المنعم ممن نالته نعمتهُ " (14)
وأما عن مفهوم الايمان :
فالإيمان لغة : التصديق، وشرعا هو : " قول وعمل : قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح "، هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة: أنه قول وعمل ـ فالقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نية وإخلاص، وعمل الجوارح ـ أي الأعضاء ـ كالصلاة والحج والجهاد، والفرق بين أقوال القلب وأعماله: أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها ويعتقدها وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله وهي محبة الخير وإرادته الجازمة وكراهية الشر والعزم على تركه، وأعمال القلب تنشأ عنها أعمال الجوارح وأقوال اللسان، ومن ثم صارت أقوال اللسان وأعمال الجوارح من الإيمان " (15)،
قال " الشعراوي " : وما الإيمان؟ إنه اليقين بأن الله واحد (16)
ولماذا وضع الحق الشكر مع الإيمان؟
يقول " الشعراوي " (17) : " لكن ما الذي يسبق الآخر، الشكر أو الإيمان؟ إن الإيمان بالذات جاء بعد الانتفاع بالنعمة، فعندما جاء الإنسان إلى الكون وجد الكون منظما، ولم يقل له أحد أي شيء عن أي دين أو خالق، ألا تهفو نفس هذا الإنسان إلى الاستشراف إلى معرفة من صنع له هذا الكون؟
وعندما يأتي رسول، فالرسول يقول للإنسان : أنت تبحث عن القوة التي صنعت لك كل هذا الكون الذي يحيط بك، إن اسمها الله، ومطلوبها أن تسير على هذا المنهج، هنا يكون الإيمان قد وقع موقعه من النعمة، فالشكر يكون أولاً، وبعد ذلك يوجد الإيمان، فالشكر عرفان إجمالي، والإيمان عرفان تفصيلي، والشكر متعلق بالنعمة، والإيمان متعلق بالذات التي وهبت النعمة.
وختاما : فلقد عشنا من خلال حلقات هذه السلسلة مع نموذج من نماذج العطاءات القرآنية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الأمة التي فضلها الله تعالى على سائر الأمم، وكيف أن هذا النموذج تجسد في ثماني آيات في سورة واحدة من سور القرآن الكريم هي سورة النساء، تلك الآيات التي قال عنها حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنها خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس أو غربت،
ولا أستطيع أن أنهي الكلام عن هذه الآيات الثمانية دون الإشارة إلى أن هذا الرأي حول تلك الآيات لم يكن وقفا على الصحابي الجليل، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تربى في حجر النبوة، ونهل من علم النبي وبيانه، عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، بل إن ثمة صحابي جليل آخر يشاركه نفس الرأي وإن لم يكن مطابقا لقول ابن عباس تماما فيما يتعلق بعدد الآيات،
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، قول الله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة .....الآية }، وقوله عز وجل : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه .....الآية }، وقوله سبحانه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ....الآية } وقوله جل جلاله : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك .......}، وقوله سبحانه : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً }، وفي رواية : " خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً : {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}، وقوله : {وإن تك حسنة يضاعفها }، وقوله : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وقوله : {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}، وقوله : {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً} ( رواه ابن جرير )،
ومن الروايتين المذكورتين عن ابن مسعود نجد أن ثمة آيتين لم تردا عند ابن عباس رضي الله عنه، وهما :
- قول الله تعالى : { ......وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ( النساء : 64 )، ولو أن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم باقتراف السيئات, جاؤوك -أيها الرسول- في حياتك تائبين سائلين الله أن يغفر لهم ذنوبهم, واستغفرت لهم, لوجدوا الله توابًا رحيمًا، ( التفسير الميسر )،
- وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ( النساء : 152 )، أي : والذين صَدَّقوا بوحدانية الله, وأقرُّوا بنبوَّة رسله أجمعين, ولم يفرقوا بين أحد منهم, وعملوا بشريعة الله, أولئك سوف يعطيهم جزاءهم وثوابهم على إيمانهم به وبرسله. وكان الله غفورًا رحيمًا ( التفسير الميسر )،
هذا وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين،
*************
الهوامش والاحالات :
===========
(1) - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، ( ت : 671 هـ) : " الجامع لأحكام القرآن "، تحقيق : هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1423 هـ/ 2003 م، ج5، ص : 426،
(2) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج5، ص : 2754 - 2757،
(3) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج5، ص : 2755،
(4) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم "، تحقيق : سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ / 2000م، ج2، ص : 442،
(5) - عبد الحليم توميات : " تفسير سورة البقرة (12) الكفر: معانيه وأسبابه "، المصدر : http://www.http.nebrasselhaq.com/
(6) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج4، ص : 2126، ج8، ص : 4605،
(7) – " العقاب - العذاب - الرجز - النكال في القرآن "، المصدر : http://islamqt.com/ar/show-article.php?aid=348
(8) - أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا : " معجم مقاييس اللغة "، دار الكتب العلمية، ط3، بيروت، 2012م، ج3، ص : 208،
(9) - أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهانى : " المفردات في غريب القرآن "، مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطقى الباز، ص : 265
(10) - محمد بن مكرم بن على جمال الدين ابن منظور الأنصاري ( ت : 711هـ ) : " لسان العرب "، دار صادر، بيروت، ط3، 1414 هـ، مادة " شكر "،
(11) - أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ت1094 هـ ) : " الكليات معجم المصطلحات والفروق اللغوية "، تحقيق : عدنان درويش، ومحمد المصري، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، الطبعة الثانية 1413هـ -1992م، ص : 523،
(12) - عبد الرؤوف محمد المناوي : " التوقيف على مهمات التعاريف"، ط1، دار الكتب العلمية، 2011هـ، ص ص : 206 – 207،
(13) - محمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية : " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين "، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393 هـ - 1973م، ج3، ص : 344،
(14) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج5، ص : 2753،
(15) - يوسف بن عبد الله الأحمد : " مسائل الإيمان وضوابط التكفير " إضافات الكاتب على شرح العقيدة الطحاوية "، المصدر : www.islamlight.net/alahmad/books/alahmad-07.doc
(16) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج5، ص : 2753،
(17) - " نفس المرجع السابق "، ج5، ص : 2755،
*************************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: