لعل القارئ المتابع لمقالاتنا يعلم إننا، يشهد الله، لا نصدُر في رؤيتنا التى ندوّنها، من رَغبة في الالتواء بباطلٍ لنظهر أنه حقٌ، لكن من رغبة في إثبات حقٍ نَعلمُ أن ما عَداه باطلٌ، أو مُتشابه. كما لا نصدر من إرادة الضرر أو التشنيع على أحدٍ، لكن من باب إظهار عوار من خرج على السنة كائنا من كان اسمه أو مكانته. وهو ما نريد أن يستصحبه قراؤنا الأحباء مع كلّ كلمة يطالعونها علي صفحاتنا هذه.
ومقالنا اليوم هو عن الحركة الدعوية في المفهوم السنيّ، كما نراها. إذ هي ليست مجرد حركة يُقصد بها مجرد إثبات الوجود، أو تكثير الصفوف، كما لا يُقصد بها ابتداءً إصلاح الأحوال الإجتماعية أو الشؤون الإنسانية بعَامة، وإن كانت الحركة تضمّ كلّ هذه الأهداف تحت جناحيها، لكن القصد الأساسيّ من الحركة، والذي إن تعارض مع أيّ من الأهداف السابقة الذكر وجب تقديمه عليها، هو الجهاد في سبيل الله عن طريق إيصال كلمة التوحيد إلى الناس، صفية نقية خالصة، ثمّ مواجهة الباطل من حيث بطلانه شرعاً أولاً ووضعاً ثانياً، ثم في سبيل تحقيق دولة "لا إله إلا الله"، بكل الوسائل التي يتيحها الشرع الحنيف، بشروطه وضوابطه، بهذا الترتيب.
وقد وجدنا أنّ الكثير من الحركات الإسلامية، كالسلفيين ومن لفّ لفهم ممن ولغ في العمل الديموقراطيّ بعد أن حرّمه، قد فشلت في تمييز هذا الهدف الأسمى، وتحريره مما يشوبه على أرض الواقع العمليّ، حين انفتحت لها أبواب العمل فجأة، فراحت تخبُط يميناً ويساراً، وتطرق أبواباً كانت ترى إغلاقها واجبٌ فرض، بل راحت تتوغل فيما وراء هذه الأبواب المحرّمة، حتى شاركت فيها قوى العلمانية والليبرالية، وهي تقف على أرضية شركية علمانية لاتزال. فأقامت الأحزاب أو كادت، وخاضت الإنتخابات، ودخلت البرلمانات، وهي تعلم أنّ الدستور لا يزال علمانيّ كما كان، لم يتبدّل.
وأتي غالب هذه الحركات، التي خَاضت كالذي خاضوا في الديموقراطية، بأعذارٍ منها أنّ الفرصة اليوم أصبحت متاحة، أكبر بكثيرٍمن ذى قبل، لإمكانية التغيير، أو إنّه لا مانع اليوم من الخوض في العملية السياسية لأسبابٍ منها أنّ من المسلمين من يحكم اليوم بالفعل، أو أنّه لا يمكن إيصال الدعوة أو إصلاح الأحوال إلا بالتوغل في هذه الأشكال السياسية كالأحزاب وغيرها. وهذا باطلٌ مركّب، كما أنه يعكس خللاً مركباً في الفهم عن الله رسوله.
فأولاً أنّ ما يقال اليوم هو عين ما ادّعته الإخوان من قبل حين شاركت في كافة الأشكال السياسية بنفس العذر وتحت نفس الزعم، وصَدق الإخوانيّ الذي قال عن تلك الإتجاهات المتبدلة "اتركوهم، فسيبدؤون من حيث انتهت الإخوان"، ووالله لا ندرى اليوم فيما كان عتب هؤلاء على الإخوان، وفيم كان رفضهم للبرلمانات!
والثاني، هو أنّ الأمر أمر عقيدة قبل أن يكون أمر وسيلة. وحكم القَصْد هو حكم الوسيلة في الإسلام، فما حَرُمَ عقيدة حَرُمت الوسيلة اليه، وليس العكس كما هو ظاهرٌ من فعل الجماعات المُبَدّلة، أنّ ما أتيحت وسيلته، حلّ فعله!! وهو مقتضى ما يفعلون اليوم، فقد فُتّحت باب الأحزاب، فإذا بهم يترامون اليها ترامى الفَراش على النّار. بل قد احتجّ أحدهم بأنّ هذا التبديل من باب تغيّر الفتوى بتغيير المناطات، كما في الفقه الشافعيّ القديم والجديد، وواحسرتاه، فهؤلاء نعلم عنهم الصدق قبل التبديل، ولكن فاتَ عليهم أنّ الأمر أمرٌ يتعلق بالعقيدة، إذ إنشاء هذه الأحزاب تحت مظلة العلمانية الدستورية ليست وسيلة، بل هي أمرٌ يتعلق مباشرة بالعقيدة كما كانت بالنسبة لهم من قبل أنّ تفتّح لهم أبوب الأحزاب. وحتى من اشتبه عليه الأمر، فجعلها من الأعمال غير العقدية. فإن تحجّج بأنها عملٌ مجردٌ لا اعتقاد فيه، فيوصّف بناءً على نية فاعله، فقد دخلت عليه شبهة من شُبه الإرجاء. إذ إن إنشاء هذه التشكيلات المبنية على الشرك، هو شكلٌ من أشكال إقرار مبدئها، ثم الولاء لهذا المبدأ ولاءاً عملياً. وهو ليست عملٌ منعدم التكييف الشرعيّ أصلاً، بل هو مكيّف ابتداءً، إذ الفارق بين العمل المُكيّف ابتداءً وبين غيره، هو أن الأول لا يتم إلا بتمام شروطه، بينما العمل الذي لا تكييف له ابتداءً مثل الوطء، فإنه يتم، سواءً تمت شروطه أم لا. لا يقال هنا أنّ العمل تمّ على خلاف القصد، لأنّه لا إكراه هنا على الدخول فيه، كما أنّ داعي المصلحة لا يبرّر ارتكاب المحرم، بل هو مبرر لدرأ المفسدة لا غير. ومن ثمّ، فهذه المشاركة، باطلةٌ على أيّ تقدير.
والثالث هو أنّ هو أنّ إيصال دعوة الإسلام لا يَستلزم أحزاباً تنشأ من يوم مولدها على قوانين الشرك، وبتصريحٍ منه، ولكن في العمل المدنيّ غير الحزبيّ مجالٌ رحبٌ، يمكن للحركة أن تساهم فيه بالتفاعل معهم وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم مالياً وأسرياً واجتماعياً، وكلّ ما يحلم به ناصرو الأحزاب وداعميها. فالإعتذار أنّ هذا هو الطريق للإصلاح، صرفٌ للجهد عن اتجاهه، وتشتيتٌ لصف الدعوة إلى كلمة السواء، وانحيازٌ لجماعة بدعية أصيلة كالإخوان، التي طالما هاجمها هؤلاء من قبل، قبل أن تصل إلى كرسيّ الحكم، وسبحان مقلب القلوب.
حركتنا إذن، حركة ترى الهدف الأصيل في الدعوة، وهو نشر التوحيد بين الناس عن طريق الدورات والمنتديات والحلقات والمؤتمرات، واستغلال وسائل الإعلام، مع الحرص على أن لا نكون نحن المُستَغَلّون فيها. وإلى جانب ذلك، نحرِص على العمل الاجتماعيّ والتّوعية الأسرية، والمُساعدة الاقتصادية.
ثم ندع الصراع مع العَلمانية، في أرضها وبقوانينها وسُبُلها، لهؤلاء الذين بدّلوا من بعد ما عرفوا، واستقاموا ثم انحرفوا، ولنرَ ماذا تقدم لهم السُّنن الكونية، التي لا تخيب ولا تتبدل. ونقود نحن صراعنا، بطرقنا ووسائلنا، غير منحرفين عن حق ولا متعاونين مع باطلٍ، تحت أيّ عذر من الأعذار، ولا يُملى علينا الظرف الطارئ تغييراً في كليات شرعية سبق أن أصّلناها وحرّرناها، ثم إذا بنا نَزعم أنها من قبيل الاجتهادات الفقهية، لا التأصيلات الشرعية!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: