كلماتي هذه ليست والله إلا حُباً في نُصح الشّباب الحائر، وما شدّدَت النكير إلا على من يستحق أن تهزَه يدّ الرحمة هزاً عنيفاً عسى أن يفيق من غواية هذه الأدوات الزائفة التي تخيل للناس العلم، ولا تُجَسِّده حقيقةً، فإذا هي تعيش عالم التخييل، لا عالم التحقيق والتأصيل، وقديما قيل:
فقسا ليزْدَجِروا ومن يكُ راحماً فليقسُ أحياناً على من يَرحمِ
(1) عن الواقع:
حين نعود إلى تراثنا الإسلاميّ العلميّ، وإلى سيرة سَلفنا السَوابق، وخَلفنا اللواحِق، نجد أنّ سيرة العلماء تكاد تكون واحدة في طريقها إلى الإمامة في العلم، وهي القراءة المتخصصة المتعمقة، التي تحيط بموضوعها إحاطة تامة كلية، والتي لا يراد بها إلا وجه الله، وإرادة العلم. كما نجد هذه السير كلها، تنبئُ عن حَصاد لهذا العلم الذي استقر في عقولهم وقلوبهم، وأصبح بالنسبة لهم كطبيعة ثانية وفطرة ثابتة، ينشؤون منه كتباً ويخرجون أبحاثاً ومراجع، تعيش عليها الأجيال من بعدهم، لقوتها، وصحتها، وما فيها من جَهد وفكر وتعقل.
ثم إذا نظرنا إلى ما نحن فيه اليوم، بعد ثورة الإنترنت، وإحتلال الفيسبوك، نجد أنّ كثيرا من أبناء الجيل الحاليّ، ممن يدّعون طلب العلم، ليسوا إلا مجموعة من الشباب الذي تعرّف على رؤوس موضوعاتٍ شرعية، ثم راح يبحث في مُحرك جوجل عما يجده تحتها، ثم يستعمل القصّ واللزق، ليشكل موضوعاً، غالباً ما يكون هجوماً على آخرين، أو نقلاً لكلمات علماءٍ من هنا وهناك، ليس فيه إبداعٌ أو تجديدٌ أو فكر أو بحثٌ أو أيّ درجة من درجات العلم، إلا الجلوس أمام الكيبورد ليلاً ونهاراً، بحثاً عن مُقبِّلات فكرية، يجادلون فيها، ويتناحرون حولها، ويسمى أحدهم الآخر "شيخنا"، ويُثنون على من يحسبونه موافقاً لقولهم، والذي لا سند له أصلاً إلا مقتطعات من كُتب مصورة، لا يعرفون أولها من آخرها، ويهاجمون من يحسبونه مخالفاً لهم، ويرمونه بالجهل والبدعة، بل وبالكفر أحيانا، ويرجع بعضهم على بعض بالتهنئة لهذا الفتح التكفيريّ المبين!
هؤلاء لا يعرفون كيف يكون تحصيل العلم على الحقيقة. هؤلاء لا يعرفون كيف يتكوّن العقل الفقهيّ، وبماذا يبدأ ثم إلى ماذا ينتهى، ولا بمراحل نضجه وتطوره. هؤلاء لا يعرفون ما هي المسالك التي يَسلكها طالب العلم حقيقة حتى يكون عالماً، أو شيخاً، يؤخذ عنه، ويجوز له أن يقول "أرى كذا" أو أن يتحدث في مسألة عقدية أو سياسية أو غيرها، أو أن يجرى حكما على أحدٍ من العالمين.
وقد صدّق المصطفي صلى الله عليه وسلم في حديثه "سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذّب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة . قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" أحمد، وفي رواية أنس "الفويسق".
المصيبة اليوم أننا أمام جيل كاملٍ، لم يتهيأ له، أو لم يَشُقّ على نفسه، أن يكون فيه من العلماء أو من الشُيوخ الأفاضل أحدٌ، بل نحن أمام جيل من الدرجة الثالثة أو الرابعة، في تحصيل العلم وإمكانية هَضمه، دع عنك الفهم عنه والإستدلال به استدلالاً صحيحاً.
ونحن، فيما قلنا، نتحدث عن العَقل الفقهيّ. أما أصحاب العقل الحِفظيّ، فترى أمثاله كثيرٌ على النّت، ممن يتحدث في الرجال، ويصحّح ويضعف الأحاديث، وينقل الروايات. وهؤلاء، منهم من له بعض الباع، ومنهم من هو نسخة مكرورة من المعروفين في علم الحديث، ولهم جهد مشكور في كثيرٍ من الأحيان ولا شك. إلا أن المصيبة تأتي حين يتصدى أحد هؤلاء للفتوى على أساس ما حصّل من معرفة في ذلك المجال. ساعتها تشتبك الخيوط، وتتداخل الخطوط، ويصبح الأمر أمر خلط وتخبيط، وتخرج الفتاوى العجيبة، يكفُر بها المسلم، ويُسلم الكافر، ويتبدّع السُنيّ ويتسَنّن المبتدع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وطريق العلم، وطلبه، معروفٌ مُوثّق، جرت على سبيله علماء الأولين والآخرين، من السلف والخلف، وهو التحصيل الدؤوب، الذي يبدأ من أوليات العلوم، ثم يغور في أعماقها، ويتبع خيوطها وينسج على منوالها، حتى يتهيأ له منها فهم متكاملٌ، يأخذ بعضه بأطراف بعض، وينسجم مع ما حصّل في بقية العلوم، وما يدلّه عليه العقل الذي نضجت طرقه وتعددت أساليب نظره من كثرة البحث والدرس. أمّا غير هذا، فهو خرطٌ وخبط وعشوائية، وتخبطٌ وإفتراء على الله، وتدليس على العلم، وتدثرٌ بثياب الزور، وإضلال للناس، وعون للشيطان على سدّ الطرق إلى الحق، ثم ما شئت من بلاءات لا حصر لها، كلها ظلماتٌ بعضها فوق بعض، يلقى رويبضة الفيسبوك نفسه بها، لأجل أن يسميه من هم دونه في الحضيض شَيخاً!
كما أن من الأمور التي إختلطت على الناس، وعلى الشباب منهم، وعلى المتدينين منهم خاصة، هو التمييز بين درجات المتحدثين في الدين، أو باسم الدين، أو في شؤون الدين والخلط الذي حدث في نفوس أصحاب هذه الطبقات المختلفة أنفسهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تجد شيخاً طاعناً في السنّ يخطب في الناس، ويثير الحماس، ويستدعى الدمع من العيون، ويثير في الضمائر البلاء المكنون. لكنه عند التحقيق تجد بضاعته في العلم مزجاة، أضاع عمره دون تحصيلٍ إلا من خُطبٍ حفِظها، وكلمات أتقنها، والبلاء كل البلاء حين يرجع اليه الناس بالسؤال، إذ هو بالنسبة لهم القدوة والمثال، فيقع عندها المحظور، ويفتى بلا علم فيما يُعرض عليه من أمور، فيَضِلُّ ويُضِل.
هذه الفتنة، هي الحالقة إن لم يتصدى لها من أهل العلم الحقّ من لديه القدرة، ببيان الصواب لهؤلاء من المغرورين، وإهداء النصح لمن منهم لديه الإخلاص والتقوى وحب الخير. وتوجيه طاقتهم إلى ما يصلحون له، إذ ليس كل شخص قابلا للعلم بصورة متخصّصة، ولذلك أشار القرآن في قوله تعالى "لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، و "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، فهناك أهلُ تخصّصٍ وعلم، وهناك عوامٌ، وهناك متعلمين، ثم هناك متعالمين، ليسوا من أهل العلم، ولا يريدون أن يعترفوا بأنهم من العوام.
(2) عمّا يجب أن يكون:
فإذا قررنا هذا عن الرعيل المخدوع عن نفسه من الشباب المُنتسبِ إلى التيار الإسلاميّ، من مشايخ الفيسبوك "النصف سِوا" كما تقول العامة في مصرنا، فإننا نود أن نلفت نظر شبابنا الواعي منهم إلى تلك المراحل التي تمر بها الشخصية الإسلامية الدعوية في طريقها إلى النضج السويّ، كما مرّ بها الدعاة العلماء المجاهدون على مرّ الزمان. وهذه المراحل هي البناء، ثم الإستواء، ثم العطاء.
وقبل أن نبدأ في تفصيل هذه المراحل، نودّ أنْ نشير إلى أمور هامة، يجب أن يحسب حسابها القاري الواعي المستفيد.
· أولهما أننا لا نتحدث عن الأفذاذ من العلماء، أمثال الإئمة الأربعة، أو ابن تيمية أو السرخسي أو الشاطبيّ، أو ما شئت من أولئك الأعلام المفردة، فإنه ليس مثل أولئك إلا أنفسهم، وهم طبقةٌ خاصة لا يمكن أن يقيس عليها طالب العلم العاديّ نفسه، فيظلم نفسه قبل أن يظلم من يُمَوّه عليهم بعلمٍ غير ناضج.
· وثانيهما، أن ما وضعنا هنا من حدود عمرية زمانية، فإنما هي للإسترشاد، كما تقع في غالب الأحيان، وإلا فإن بعض طلبة العلم، قد يتطلب وعيه واستيعابه في مرحلة البناء ضعف غيره، وهكذا.
· ثالثها، أن هناك فرق شاسعٌ بين من يسعى إلى الشهرة بين الناس بسبب من الأسباب، وبين من طلب العلم والتحقيق، فإنّ الشهرة وترداد الإسم في الإعلام، وظهور الصور في الصحف، لا تمت بصلة لتحصيل العلم ولا لقدر المرء فيه، فهذا وائل غنيم، أو نادر بكار أو ما شئت من تلك الوجوه العلمانية أو الإسلامية، تطالعنا على صفحات النت، وشاشات التلفاز حتى أصابنا الغثيان من رؤيتها، وهي لا تتمتع بأي قدرٍ من العلم. فعلى طالب العلم أن يحدد إبتداءً هدفَ سعيه وغرضَ درسه، إذ شتان بين المسارين، لمن عرف.
المرحلة الأولى من حياة طالب العلم هي مرحلة "البناء". وهذه المرحلة تبدأ من حيث يبدأ الطالب في النظر في كتب العلم، عامة، والإسلاميّ منها خاصة، سواءً بنظرٍ مستقلٍ أو تحت يدِ شيخٍ من الشيوخ المُعتمدين. وفي هذه المَرحلة يكون طالب العلم "مُحصّلاً"، يستمع ولا يتحدث، كأنه اسفنجة تتشرّب بكل ما يتعرض لها من غيوث العلم. وعلى قدر استيعابها، تكون هذه المرحلة مجزية لصاحبها. وهذه المرحلة عادة ما تبدأ بالقراءة المُشتتة المتناثرة، في أرجاء عالم العلم الفسيح، كمن خرج باحثاً عن الماء في رياضٍ تجرى من تحتها الأنهار، لا يكاد يرشف رشفة من جدولٍ صافٍ، إلا سبقته عينه إلى جدول آخر، فيظل متنقلاً بينها، إلى أن يشاء الله له أن يعرف أيها أليق به وأروى لغليله، على ما فيها كلها من فائدة. وساعتها، يجب أن يقف التنقل بين جداول العلم، ويقرر ساعتها إن كان أهلاً للسير في طريق طلب العلم، أم إنه متطفلٌ عليه، ويجب أن يكون المرء صادقاً مع نفسه، حرصاً عليها عند موقفه بين يديّ الله سبحانه، وله سعةً في علوم الدنيا يحسنها وهو عليها مأجور إن شاء الله.
فإن وجد طالب العلم في نفسه القدرة، بدأ الدرس المنهجيّ ليحصّل من كل علمٍ طرفاً يكون له مدخلاً للعلم، حتى إذا تعرف عليها، أو جُلها، معرفة تجعله واعياً بموضوعها وإشكالاتها، وعارفاً بما كُتب فيها، اختار ما يصلح له من جداولها، فيتخصّص في أحدها أو أكثر من ذلك، كلّ حسب قدرته، يقرأ فيه ويتعمق رأسياً، ويتعرّف على أقوال العلماء ومذاهبهم، معرفة دقيقة فاحصة متعمقة، بصبرٍ وجلد، لا بإقتطاع نصوص من هنا وهناك، وقراءة متفرقاتٍ، لاتروى غليلاً ولا تشفي عليلا. وهذه المرحلة عادة ما تستمر بالمرء إلى ما بين الخامسة والثلاثين إلى الأربعين، حين يستوى رجلاً. فإن بلغ أحدٌ هذا العمر دون أن يبدأ أو دون أن يعرف ما يصلح له من تلك العلوم، فغالبا ما يكون عليه إلا أن يقنع من العلم بالمعرفة العامة، ومن التصدى للعامة بالنصح دون الإفتاء، وبالرقائق دون الأحكام، وسيجزيه الله عن ذلك خيراً كثيراً.
كما يجب أن نحذّر من آفات هذه المرحلة، كالخلط في التحصيل، وكصرف الهمة إلى أمور جانبية وإعطاء وزنٍ لما ليس له وزن، أو لما غيره أهم منه، وبكلماتٍ أخر، عدم "ضبط الأولويات في الأوقات" وصرفها فيما هو أقل فائدة، إلا ما كان منها من عوارض الأمور، كالسياسة في وقت الفتن.
والمرحلة الثانية، مرحلة "الإستواء"، وفيها يستوى الطالب على قدميه، وتستوى مقدرته على الكلام المنضبط في العلم، مع استمرارية حاجته للتحصيل، وفي هذه المرحلة عامة، ما يبدأ النتاج العلميّ الناضج، من خطبٍ ومحاضراتٍ وأبحاثٍ أو مؤلفاتٍ، تدل على باع طالب العلم، الذي بدأ الخروج من شرنقة الطلب إلى سماء العطاء والبذل. ويجب على طالب العلم في هذه المرحلة المستوية الطرفين، ألا ينشغل بالناس تماماً عن نفسه، فإنّ طلب العلم لا يزال في مرحلته تلك مطلوباً ليتمّ له إحكام ما حصّل، وسدّ الخلل فيما حقق، وذلك من جراء قراءة المعارضين، والإطلاع على كتابات المناوئين أوالمبتدعين. وهذا يكسبه قدرة على الجدل المحمود، ومرانٌ على تصحيح الإستدلال، وتمحيص جوانب المسائل المعروضة من زواياها المتعددة. وهذه المرحلة تطول من نهاية الأولى إلى الخمسين أو الخامسة والخمسين. فمن وصل تلك السنّ، ولم ينتج ما يبقى من بعده أثراً، فقد أوفى بما عليه في طلب العلم، وعليه بالعبادة واستمرار التحصيل، دون محاولة الإنتاج، إذ سيكون إنتاجه خداجاً قاصراً معيباً مكروراً.
ثم المرحلة الثالثة، وهي مرحلة "العطاء"، وهي ما بعد ذلك إلى ما بقي للعالم أو الداعية من عمر على الأرض، وفيها يكون تمام الشخصية العلمية والدعوية، ويظهر ذلك في الأعمال التي تخرج عن العالم، كتباً أو محاضرات وأبحاث. وإنى والله لا أظنّ أن عالماً حقيقاً بهذه الصفة يمكن أنْ يصل إلى هذه المرحلة، إن مرّ بما قبلها بشكلٍ كامل واستيعاب أصيل، ألّا يكون له نتاجٌ علميّ يُشار له ويحمل عنه، اشتهر أم لم يشتهر، فكم من مؤلفٍ لم يشتهر في حياة واضعه، ثم كان له السبق بين الكتب من بعده. لكن أن يكون هناك من يصف نفسه أو يصفه غيره بالعلم، دون أثر من تدوينٍ فهذا ما لا يراه الكاتب من المُمكنات، فإنه إن قامت القدرة، وهي الأدوات من علم وذكاء، وتوفرت الإرادة، وهي دافعٌ لدى أي عالم، كدافع الأم أن تضع جنينها، فلابد أن يكون هناك نتاجٌ علميّ مدوّن. والتدوين، كما رأينا من أجيال العلماء على مرّ أربعة عشر قرناً، هو الدليل الأصيل والوحيد على القدرة المتمكنة، وما عداه من آثار إن هي إلا من قبيل الشغب على الأصول.
والعالم في هذه المرحلة، معطاءٌ منتجٌ أكثر منه محصلاً، بل إن طبيعة التحصيل في هذه المرحلة تختلف عنها فيما قبلها، إذ تكون كالمسح للمصنفات الحديثة، وما يخرج عن المطابع، يكتفى منها بنظرات عابرة، يعرف بها مقصود الكاتب ومراده ومصادره، إلا أن يكون مصنفاً فريداً في بابه. كما تتميز قدرات العالم في هذه المرحلة بالقدرة على الإستدلال والتحليل وكشف وجهات النظر المتعددة، ورؤية ما لا يراه غيره في أمور الواقع، وتنزيل مناطات الأحكام.
وتتميز عبارات أهل العلم في هذه المرحلة عادة بالقصر والإختصار والدقة، كما يكونوا، في الغالب الأعم، غير منفتحين للجدل أو المهاترة، ومن ثمّ فإن طالب العلم لديهم يجب أن يكون على دراية بكيفية تحصيل الفائدة منهم، وألا يرهقهم من أمرهم عسراً، فيفقد الفائدة من مجالستهم، كما أشار الشاطبيّ في الجزء الرابع من الموافقات.
وإن إعتساف أي من هذه المراحل، ومحاولة تقصيرها أو تجاوزها، لا ينشأ عنه إلا رجل نصف متعلمٍ، مُخَلِّطٍ (بكسر اللام وتشديدها)، فإنّ هذه المراحل المتعاقبة تجرى بلا تكلّفٍ من صاحبها، فتطول أو تقصر دون أن يُخلّ ذلك بموضوعها ومتطلباتها في النفس والعقل والشخصية.
وعلى الله الهداية والتكلان.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: