القلقُ لغة هو الإنزعاج (لسان العرب 5/313)، وهو في كافة مشتقاته يدل على الحركة والإضطراب وعدم الثبات، فهو مادة بغيضة إبتداءً، لا يطلبها المرء ولا يسعى اليها، بل هي تسعى اليه، تُزعِجه عن أمنِه وراحَته، إلى حِراكٍ نفسيٍّ غير مُحبَّب.
والقلق ظاهرةٌ إنسانية تواتي المرء وتُعايشه بعض الأحيان، تطولُ وتقصُر حسب ما تقرّره نفسه من أهمية الموقف وحساسيته وعجلته. وهي ظاهرة يفترق بها الإنسان عن سائر الكائنات، من حيث إرتباطها بالعقل وبالنفسِ والضميرِ جميعاً. القلق على الولد، وعلى الصحة، وعلى المال، وعلى الوظيفة، وعلى من يحب، وعلى الشأن العام، والأهم على العلاقة بالله سبحانه، كلها موضوعات القلق في حياة الإنسان العاديّ، تتناوب بينها حسب ما يعتريه من أحداث.
والقلق، كبقية الظواهر الإنسانية النفسية، له جانبان، إيجابيّ وسلبيّ، فهو يقترن بالتفاعل العقليّ بين الأحداث، وتقييم ثم تقديم الأولويات، ورصد القدرات المتاحة، واستنفار الهمة المستقبلية، والتركيز في الأداء، وغير ذلك الكثير مما ينشأ عن القلق من الناحية الإيجابية التي تَستوفِز الهمة، إن لم تصل الحال بهذه الظاهرة إلى الدرجة المرضية التي ينشأ عنها الجانب السلبيّ لها.
أما عن الجانب السلبيّ، فهو أن يستحوذ القلق على المرء حتى يَمنعه من تلك الأمور التي ذكرنا من قبل، فينتج عنه تعتيم الرؤية لما يقع من أحداث، وضعف القدرة على ترتيب الأولويات، وعدم تقدير الإمكانات النتيحة، مما يؤدى إلى تثبيط الهمّة وخفض درجة التركيز والإستعداد.
ومع العلم بأن درجة القلق تتوقف في غالبها على أهمية الموضوع، إلا إنها قد تتفاوت بين الناس حسب البناء النفسيّ المختص بكلٍ منهم، فمنهم من تنخفض عنده حتى لا يكاد يعتريه قلق على أمرٍ من الأمور، ومنهم من تراه يعيش في حالة قلق مستمر، في كلّ شأنٍ يعتريه، صغر أو كبر. وبين هاتين النهايتين الغائيتين، يقف الإنسان السويّ، يعتريه القلق حيناً، فييستفز فيه الإيجابيات التي ذكرنا، لكن لا يستبدّ به حتى يلقيه في غيابات اليأس ومهالك الإحباط.
القلق الإنسانيّ نتيجة طبيعيّة لإنعدام القدرة الإنسانية على استشفاف الغيب، ولضعفها عن الإستدلال بما هو كائنٌ على ما قد يمكن أن يكون، وفرز الإحتمالات المختلفة التي يمكن أن يُفرزها موقف من المواقف. وكلما ضَعفت قُدرة المرء على الإستنباط، كلما ارتفعت درجة قلقه في مواجهة المواقف الغامضة، إذ هو من باب الخوف من المجهول، الذي هو طبيعة ثانية في الإنسان.
كما أنّ القلق هو دليل عدم الحسم والتمييز بين ما هو أهم، أو أصح أو أفضل للمرء، فلو علم المرء ذلك، ما كان قلق في نفسه حتى وإن وقع الأسوأ، كما يقال "وقوع البلاء أهون من إنتظاره". وهذا الجهل بما فيه الأفضل للإنسان هو من ظواهر ضعفه ومعالم جهله.
ومن هنا فإن الله سبحانه، خالق الناس، قد عالج هذه الظاهرة كأفضل ما يكون العلاج، لا بأن أمر بعدمها، فهذا أمرٌ بمستحيل، ولكنه سبحانه وجّه إلى وسائل ضبطها لإستفادة منها.
ومن هذه الوسائل الإيمان بالقضاء والقدر، إذ يعالج هذا الإيمان دور المجهول في انبعاث القلق، فيصبح حقيقة غير مجهول، بل هو معلوم مكتوب، واقع بهيئته لا محالة، فما قيمة القلق إذن. وهو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث "رفعت الأقلام وجفّت الصحف"، إذ قد قرر حقيقة، وأفاد بعجز الإنسان أن ينفع نفسه أو غيره أو يضرهما، إلا كما هو مكتوب (لا أقول بما هو مكتوب)، لكنه لم يصرّح بتحريم القلق، إذ هذا كما قلنا تكليفٌ بما لا يطاق، ولكنه هدى إلى طمأنة النفس والتخفيف من روعها، حتى ينجلي ما هو واقعٌ.
وإذا تأملنا آيات سورة يوسف " قَالُوا۟ تَٱللَّهِ تَفْتَؤُا۟ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَـٰلِكِينَ ﴿85﴾ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُوا۟ بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿86﴾ يَـٰبَنِىَّ ٱذْهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَا۟يْـَٔسُوا۟ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ لَا يَا۟يْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ ﴿87﴾"، وجدنا الكثير من العبر المستفادة في هذا الأمر الذي نحن بصدده. فإن الآيات تعكس بلا شك نوع من الحسّ القَلِقْ عند سيدنا يعقوب عليه السلام، فهو لا يفتأ يذكر يوسف، وهو لم يصبه اليأس، وما كان له أن يصيبه، وإنعدام الأمل في أمرٍ يُنهى حالة القلق عند المرء بشأنه، فيعقوب عليه السلام كان في حالة من القلقِ على ابنيه، لكن كان لديه الأمل الحزين المُمِضّ، وهو دائم التذكر، ودائم الحسرة، ودائم الأمل الراجي، ودائم خيبة الأمل، سنين عددا. فهو القلق إذن، لكنه قلقٌ منضبط بضوابط الشرع، فيه حَثٌ على المثابرة، وإدامة البحث وعدم اليأس من حسن العاقبة، والأمل في الله والتصديق بقضائه والرضا به. وهو كلّ ما هو إيجابيّ في هذه العملية النفسية المعقدة، التي لا معين عليها أفضل من طلب عون الله سبحانه.
الإسلام لا يُبدّل الفِطر الإنسانية، ولكنه يَضبُطُها، ويعيدها إلى ما كانت عليه أصلاً، إن صَفَتْ العقيدة وصَحّ الفهم في نفس المسلم. وهو لا ينزع من النفس جبلتها، بل يهذبها ويوجّهها إلى الأفضل، ويعينها على أن تتحمل حياة الكَبَدْ التي خلق الإنسان فيها "لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ " البلد4. أليس القَلق من الكَبَدْ؟ بلى، هو والله مما جعل الله تلك النفس الإنسانية تعاني وتُقاوم، تصرَعه تاَرة، وتنهزِم له أخرى.
والإستغفارُ هو أفضلُ وسيلة لتصفية النفس، وتخلية القلب، وإزالة الهمّ والحزن، فالقلق يزول بإستغفار الله عما كان، وعما هو كائنٌ، ويفتح باب الإمداد من الله "فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا ﴿10﴾ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـٰرًۭا ﴿12﴾"نوح.
تبقى نصيحة لصاحب القلق المُمِضّ، أن "ضع القلق على الورق". عليك أن تكتب ما يُقلقك، بغاية التفصيل، وتتبع مفرداته، وتحصى أجزاءه، فإن حديث النفس خدّاع، يهيئُ للمرء أمراً صغيراً وكأنه عظيم، فلا تقنع به، وضع ما يجرى في ذهنك على ورقة، فكأنك بذلك تخلى عقلك مما فيه، وتُشْرْك عينك فيما أنت فيه، فيقل الضغط على النفس وتأخذ المشكلة حجمها الطبيعي بإذن الله.
ثم يبقى المسلم القوىّ أحبُّ إلى الله، والقوة هي شيمة تظهر في كلّ موضع، تهزم القلق، وتبعث على الطمأنينة، فما أحسن أن يتخلق بها المسلم في وجه عثرات الدنيا وهمومها وصعابها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: