أذكر حواراً جرى بيني وبين جمال سلطان، في عام 2004، قبل أن ينحرف به شيطانه فيلقي به في أحضان أموال الخليج غير مأسوفٍ عليه، عن السبب في الكوارث التي تلحق بالمسلمين اليوم، وما سبيل الخروج منها. وكان رأي الرجل أن أمريكا، الشيطان الأكبر، هي التي يجب أن تتركز عليها الجهود لرفع سطوتها عن الشرق. قلت للرجل ساعتها أنّ هذا غير صحيح بإطلاق، بل يجب التركيز على الإطاحة بنظام مبارك، وببقية الأنظمة العلمانية المرتدة العميلة، الحاكمة في بلاد المسلمين قاطبة، قبل أن نتحدث عن أمريكا ودورها في عالمنا الإسلاميّ.
إن الأسباب التي أودت بالمسلمين اليوم إلى ما هم فيه من انحطاط وقهر وعبودية للغرب، كثيرة متعددة، غير محصورة في سبب واحدٍ، بل هي أسباب يأخذ بعضها برقاب بعضٍ ويلعب بعضها دور السبب تارة ودور النتيجة تارة. وقد تناولت هذه الأسباب بشكلٍ متناثرٍ في عدد من الكتب التي أصدرتها منذ السبعينيات، سواءً عقدية أو اجتماعية أو سياسية أو غير ذلك من أسباب انحطاط الأمم. ولابد لنا اليوم، في إبّان ذلك التراجع التاريخيّ الهائل الذي تمر به أمتنا، أن نعيد النظر في تلك الأسباب، ودواعيها ونتائجها، ونحرّر مناطات التخلف والانهزام والضعف، حتى نبني رؤية صحيحة للحاضر، الذي يقوم على ماضٍ أليمٍ حسيرٍ، فيه من الآفات ما فيه.
إن الدور الإمريكيّ خاصة، والغربيّ عامة، في انحطاط المسلمين وخسارتهم لا يمكن تجاهله بحال، لكنه نتيجة قبل أن يكون سبباً في هذا الوضع القائم. ومحاولة عكس ذلك الأمر إنما هي تبرئة للذات وهروب من المسؤولية، وتعليق لأخطائنا على شماعات الآخرين.
نحن المسؤولون عن انحطاطنا وتخلفنا وهواننا على الناس، لا غيرنا.
لن أحاول استقصاء تلك الأسباب كلها في هذا الموضع، ولا موضعها في سلسلة السببية، بين سبب ونتيجة، لكن لا بأس هنا من أنْ نشير إلى الأهم والأكثر تأثيراً لنبدأ حواراً حول "ما بعد نكسة 30 يونية. ولا أدرى والله ما بين المسلمين وبين شهر يونية هذا!
سببان، هما الأصل فيما نحن فيه اليوم، سبب يتعلق بالعقيدة، وسبب يتعلق بالضعف البشريّ.
فالسبب العقدي جاء من إثر الانحرافات البدعية التي حملتها الفرق المُتشعبة خلال التاريخ الإسلاميّ، كالتصوف والإرجاء، اللذين كانا بحق أسوأ أثراً على إقامة الدين من غيرهما من البدع كالاعتزال والخروج. وليس هنا محلُ الاستطراد في تفصيل هذا المعنى، لكن الأساس هو أنّ هاتين البدعتين تتعلقان بأنظمة الحكم ودورها في إقامة الدين على الجملة.
أما السبب الذي يتعلق بالضعف البشريّ فهو ما يدفع تلك الفئة الخائنة الوضيعة، بمساعدة من وقعوا في الخلط البدعيّ العقدي السابق ذكره، أن تتحكم في أقدار الناس، وأن تصل إلى سدة الحكم، فتبيع بلادها وشعوبها لتمسك بزمان الحكم وتسيطر على مقدرات البلاد، وإن كانت مستعبدة من الغير، ذليلة له، تابعة وضيعة.
وهذا السبب الأخير هو ما يشير اليه المتحدثون بأنه "سياسيّ". والسياسة، يعلم الله، بهذا المعنى، ما هي إلا خراجُ خَبَثٍ في النفس وخِسةٌ في الخلق وإجرام في الطبع، لا غير.
إن هؤلاء الحكام، الذين تولوا الشيطان، في كلّ حكومات بلادنا بلا استثناء، بعد تاريخٍ طويل من الخيانات المستمرة، والعمالة الوضيعة، هم "حصان طروادة" الذي تسرب منه العدو الغربيّ إلى بلادنا، ليدمّرها ثقافياً وخلقياً واقتصادياً، ويستعبدها استعباداً عسكرياً بعد أن استعبدها فكرياً.
هؤلاء الحكام هم السبب الحادث فيما فيه المسلمون اليوم من هوانٍ وانحطاط وتخلف. هم أصل البلاء، ومحور الكارثة في حياة المسلمين اليوم. ومعهم من تابعهم من أمثالهم من سحرة الأنظمة والعملاء في قطاعات الأمة، ومن ورائهم عامة بلهاءٌ تائهون مستعبدون متخلفون خلقياً ومرتدون ديناً.
"رفع الغمة عن الأمة" إذن، يكون بإحياء السُنّية الحقة في فِطر المسلمين، قولاً وعملاً، ثم باستئصال هذه الأنظمة اللعينة، التي هي اليد القذرة للاستعمار الغربيّ، تحت رِداءات مَفضوحة، سواء متخفية تحت أزياء العسكر، أو تحت جلابيب الخليج وغتراته، التي تخفي تحتها كلّ خبيث مِثليّ لعينٍ، يريد هدم الدين والقضاء على الإسلام للبقاء في الحكم، لعنهم الله جميهاً.
وقد رأينا كيف أن محاولة هذا الأمر، أمر استئصال الأنظمة اللعينة، فيما أسموه "الربيع العربيّ!"، قد باءت بفشلٍ ساحقٍ ماحقٍ، إذ لم تعتبر البعد العقديّ الذي ذكرنا، فأسندت هذا الدور لمن هم سببٌ أصيلٌ في الانحطاط والهوان والتدهور.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: