لعل هذه الجمعة تكون علامة فارقة إن شاء الله في تاريخ صراع الإسلام مع الكفر. لعل الله مُحدثٌ أمراً، رغم ما سنورد من أسباب لا تنبؤ عن ذلك. وقد كتبت من قبل في سبتمبر 2011، مقال بعنوان "تصحيح المسار .. بجمعة أو بغير جمعة"[1]، يرى فيه القارئ تكرار ما يحدث كأن الزمن قد استدار كهيئته يومها، لم يحدث على ساحتها شيئاً.
لا نشك في أنّ الله ناصرٌ عبيده المؤمنين، وأن له سبحانه طُرقا وجُنداً لا نراها، تعمل في عالم الأسباب، فتحقق إرادته الكونية التي لا تتخلف.
لكن أمرَ الأسباب أمرٌ غاية في التعقيد. فإنه لابد من تحقق قدرٍ معين منها قبل أن يتم النصر، وهو ما رأيناه في أحداث غزوة أُحُد، على سبيل المثال. هذا القدر لا نراه مُتحققاً فيما يجرى من أحداث على الساحة المصرية اليوم.
العدو العسكريّ عدوٌ شَرسٌ لاضمير له ولا خلق. وهو حال العسكر في كل زمان. وهم قد امتطوا موجة من البشر المغفلين جهلاً أو إلحاداً أو مصلحة. ثم ساروا في طريقهم لا يلوون على شئ، ليقيموا الحكومة المصطنعة، ويديروا المحادثات مع الخارج المتواطئ.
لن يردع العسكر عن الإستمرار في خطتهم رادعٌ، وإن مَكث المسلمون في الشوارع سنين عدداً. إنّ ما يقلقهم هو أن تتعرض المنشآت الرسمية لحصار أو هجوم، إذ يقلل ذلك من هيبتهم، ويزعزع من سلطتهم. أمّا أن يبقى البشر في الشوارع، فلا عليهم من هذا بالمرة. وهاهم يغلقن الطريق إلى مجلس الوزراء ومدينة افعلام الشيطانيّ وغيرهما من المنشآت العامة.
من هنا أقول أنّ الأخذ بالأسباب في حالة مصر هذه، لا يمكن أن يكون مجرد الحشد والإعتصام. إن شعب مصر المسلم يواجه جيش احتلالٍ عنيف باطشٍ لا همّ له إلا الإبقاء على الفساد ورموزه ونظامه، لهذا بُنيّ ولهذا تَسلّح وعلى هذا تدَرّب.
كلاب العسكر اليوم لا يأبهون لإقتصاد أو سياسة. إنما هي السيطرة على البلاد هي هدفهم المُحدد والوحيد. ولن يسمحوا لأحدٍ أو لشئ أن يقف في وجه هذا الهدف، إذ رقابهم هي الثمن الذي يجب أن يدفعوه ثمن ما فعلوه.
لذلك فإنّه يجب على المهتمين بأمر هذه الأمة، والقائمين على شؤون هذه المُلِمة، أن يبدؤا في التفكير في وسائل بديلة، أو موازية، لمجرد الإعتصام وإقامة المؤتمرات الصحفية والحفلات الغنائية. ذلك لن يأخذنا إلى أيّ مكان قريبٍ من النصر.
لا أريد أن أضع تصوراتٍ للبدائل المطروحة، ولكنني أعلم تماماً أنّه ما من أمر في الدنيا إلا وله نهاية، وأنّ لهذا النهاية بدائل شتى نصل به اليها. هذا قدرٌ يعرفه من خَبَر الدنيا وعرف طرقها وسبلها عقوداً عددا. لكن الأمر يرتكز على قوة تصور طالب الحلّ، أو البديل، وعلى قوة إرادته، ومدى استعداده للتضحية في سبيل هدفه. هذه البدائل يجب أن تكون مطروحة الآن على مائدة المشاورات، بين الأطراف المعنية. وإلا، فإن العسكر المجرم سيكلون الكلّ وجبة واحدة، بمجرد أن يتفرق الجَمعُ وينْفَضّ السامر.
هذه البدائل، يجب أن تكون بالفعل اليوم قيد التنفيذ، إذ واضحٌ أنّ المخرج من هذا المأزق التاريخيّ يكمن في واحدة من التالي:
· أن يحدث انقلاب داخليّ في الجيش من القيادات الوسطي، إن كان منهم مسلماً، وهو ما نشك فيه ابتداءً، لكن لله جنوداً لا نراها.
· البديل السوريّ، وهو ما لا أتمنى أن نلجأ اليه في مصر، فإن الشعب المصريّ غير مؤهلٍ لمواجهاتٍ دموية على الإطلاق، وهو شعبٌ أعزلٌ مسالمٌ، يواجه جيشاً شرساً لا أخلاق له ولا خَلاق، تتوجه كلّ عدته وعتاده لقتل الأبرياء منه. وسنسمع الكثير من أصحاب النوايا الحسنة والمقاصد الشريفة يؤكد على أنّ هذا البديل ممكن، ونقول أنّ الحديث أمرٌ والتحقيق أمرٌ آخر. والشعب المصريّ لم يَعُدّ عُدَّة بعد لمثل هذا البديل، ولعل ما يحث الآن يكون فيه بعض الدروس والعبر لأولئك الذين تربّوا على رفض الجهاد ابتداءً، فيكون هذا االبديل جزءاً من ثقافتهم اليوم، مع الوعي الكامل بما يستدعيه هذا االبديل من استعداد نفسيّ وخلقيّ وتربويّ وإيمانيّ قد يطول سنين عددا.
· أو أن يخرج جمع الناس يَسُدون الطرقات والمنافذ في كلّ محافظة، ثم لا يبرحون أماكنهم ليلاً ولا نهاراً، فيشِّلون الدولة بكاملها. وهذا ما أراه البديل الأمثل، وإن لم أكن أراه حادثاً على الأرض حتى اليوم.
لا نرى في الأفق أية دلائل تدل على إمكانية حدوث أيّ من البدائل الثلاثة. فالجيش مُمْسِكٌ بقبضة حديدية، وبعتاد ماديّ لا يقاومه إلا مسلمً، ومنتسبوه كفارٌ مشركون. والبديل السوريّ كما ذكرنا لا نرى له محلا على أرضنا، في هذه المرحلة. أما خروج الناس بحشدٍ هادفٍ، فهم أقل عدداً يوما بعد يوم، وسينتهى الأمر إلا حفنة من عشرات أو مئات بعد أيامٍ أو أسابيع، يمحقها العسكر في ساعة زمن.
ثم بديلٌ رابعٌ مخيفٌ لكنه محتملٌ، أن يلجأ الإخوان إلى سياستهم المفضلة في التلاعب بالسياسة التي لا يحسنون منها شيئاً، بأن يتفاوضوا مع العسكر، وهو تفاوضٌ لن يأتي إلا بكل شرٍ ماحقٍ للإسلام، لكن الإخوان هم الإخوان، يستخدمون الجموع لحين الوصول إلى غرضهم أيّا كان هذا الغرض، ثم يتركونهم فوضى بلا هدفٍ ولا رؤية. وقد ألمحت صحيفة البي بي سي لشئ من هذا في موقعها اليوم. وقد كتبت في يناير 2012 تحت عنوان "الثورة بين البرلمان والميدان"، قلت في معرض تحذير الإخوان البرلمانيون من الإستمرار في سياساتهم "لكن هؤلاء، مثلهم مثل من قبلهم ممن تُصمّ أذنيه، وتَعمى عينيه ويُغشى على قلبه، بمجرد أن يمسّ كرسى الحكم. لا يشعرون أنهم بالفعل قد بدؤوا رحلة النهاية، كما بدأها يحي سرور وصفوت الشريف من قبل". وسبحان الله، كانت سياساتهم التي لا تتمشى مع الشرع الحنيف، سبباً في سقوطهم بالفعل.
يعلم الله كيف سينتهي هذا المأزق، وكيف سيأتي الله بحلٍّ لهذه الأزمة. لكنّ الدعاء سبيلُ المؤمنين، ولا أجد راحة مثلما أستمع إلى تهجد أئمة الصلاة في رابعة. ولعل الله أن يهيأ للمسلمين، من راء الأسباب، ما تقر به أعين الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، والزوجات اللاتي ثكِلن أزواجهن، والأطفال الذين قتلوا بلا جريرة، إلا دموية كلب العَسكر السيسي، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة. آمين
"وَمَكَرُوا۟ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ" آل عمران 54.