عبد العزيز كحيل - الجزائر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 411
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هذا سبب ونتيجة للنزعة الشمولية الفوقية الإقصائية التي تميّز مجتمعات العالم الثالث، ومنها المجتمعات العربية، ويبدو أنها نزعة ما زال عمرها طويلا جدا لأن النخب بحد ذاتها انصهرت فيها وتأقلمت معها وتبنتها إلى حد بعيد باستثناء أقلية تسبح ضد التيار وتغرد خارج السرب.
إن الإنسان – خاصة إن كان مثقفا وصحاب قضي، حاملا لهموم أمته – ليُصاب بأنواع من الخيبات وهو يتابع أحوال المجتمعات المتقدمة وهي تطرح جميع القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية للنقاش، الجرائد تفتح أعمدتها لجميع الآراء، الفضائيات تستقبل أصحاب الآراء المختلفة إلى حد التضاد، الإذاعات تفعل نفس الشيء على مدار الساعة، قادة الرأي والسياسيون من جميع الاتجاهات يتدخلون ويُسألون ويُحرَجون ولا يتحرجون...هكذا هي حياتهم: كل شيء يطاله النقاش والأخذ والرد، الحوار يصاحب كل المبادرات السياسية وغيرها، فلا تأخذ طريقها إلى التجسيد إلا بعد الخضوع للتحليل والغربلة والأخذ والرد، فيتكوّن رأي عام يشمل الأغلبية يمرر القوانين والقرارت الكبرى فتصبح ملكا له، يدافع عنها بكل اطمئنان وإيمان وقوة فينشأ عن ذلك استقرار المؤسسات وقراراتها، وبالتالي استقرار المجتمع وتفرغه لقضايا النمو والرقي.
فما الحال في مجتمعاتنا؟ اللغة الرسمية الأولى فيها هي لغة الخشب، وثابتها الأكبر تغييب الحوار لصالح قرارات الحاكم والنخبة الحاكمة وتجييش وسائل الإعلام والاتصال لتغييب الرأي الآخر لأن القرار الفوقي هو بالضرورة الأسلم والأعلم والأحكم، أما الأصوات المخالفة فهي بالضرورة أصوات نشاز (ولو كان أصحابها هم أغلبية المجتمع) تعمل ضد مصلحة الوطن بل ولصالح أجندة خارجية.
هذه مأساة العالم الثالث الأولى، إنها أم المصائب وأم المشكلات...وخذوا هذه الأمثلة:
- الأمازيغية: قضية مصيرية كهذه تمس ثوابت الأمة تُفرض بقرار رئاسي ، لم تناقش لا شعبيا ولا حتى في البرلمان، لذلك بقيت وستبقى محل تجاذب يسيء إلى اللحمة الوطنية، ولو طرحت للنقاش لتقاربت الرؤى وتوارت الانفعالات إلى حد كبير.
- البرلمان: في العالم الثالث تجده يحمل اسم "السلطة التشريعية" لكنه في الواقع مجرد غرفة تسجيل، يتلخص دور أعضائه في مباركة مشاريع الحكومة، أو لعن الظلام من طرف "المعارضة"...أما النقاش العميق والكلام بالحجة والأرقام فهو منعدم تقريبا.
- كارثة الجامعة: من المتفق عليه في العالم كله أن الجامعة هي صانعة النخبة لأن الطلبة هم من سيكونون قادة ومنظرين ومسيرين على مستوى المجتمع في كل مجالاته، لكنها تخلت عن هذه المهمة تماما لصالح الاهتمام بالمأكل والمأوى، وخلت قاعة الدرس من مسايرة الأحداث فضلا عن دفعها والتأثير فيها، فتولت الإدارة تسيير شؤون المجتمع تسييرا فوقيا لا مكان فيه للفكر والتجديد والإحكام، لأن الإدارة تعمل بالقرارت وليس بالتفكير والحوار ومبدأ التدافع المجتمعي الذي يُبرز الأحسن والأكفأ سواء على مستوى الخيارات أو الأشخاص.
- البيت: هو في الحقيقة منبت الداء ومروّج الاستبداد وعدو الحوار والنقاش، لا يعلو فيه في الغالب إلا صوت واحد – إما صوت الزوج أو الزوجة – يخرّج أبناء درجوا على الأوامر الفوقية وقانون المتغلب، فأنى لهم ان يؤمنوا بالحوار مع الأصدقاء أو البائعين أو المخالفين؟ خاصة وأن المدرسة لا تتبع إلا منهج التلقين ولا تترك مكانا لتبادل الآراء وبنائها على الإقناع، مهما كانت المادة وكان التخصص العلمي.
إن الغرب لم يتفوق علينا بالتقدم المادي فحسب بل بدأ بإنشاء أجواء الحياة الأسرية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس سليمة، فأحسن تسيير الاختلافات بين جميع المكونات، ونجح في إرساء قواعد التعايش السلمي بين النخب والشرائح المختلفة، بينما ما زلنا مع الصوت الأوحد والرأي الأوحد والفهم الأوحد، وكل ما سواه فهو مشاغبة أو مؤمرة أو عمل تخريبي يهدد الدولة ومؤسساتها ووحدتها الوطنية.
ولا حلّ لنا إلا تغيير طريقة تأسيس الأسرة وتوجيه المدرسة وتسيير الدولة في كل المجالات على أساس جديد هو الثقة بالآراء والنقاش والحوار، ولو كان هذا تقليدا للغرب لكان محمودا لكنه في الحقيقة منهج إسلامي تعلمناه من القرآن والسنة، فالله تعالى – وهو رب العالمين الذي لا يسأل عما يفعل – يحاور الملائكة ويحاور الشيطان ذاته، والرسول صلى الله عليه وسلم بنى المجتمع الأول على التفاعل بين أفراده بناء على النقاش والإقناع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: