عندما بدأ التخطيط للانقلاب العسكري على الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، كان هناك مخطط الشيطنة عبر وسائل الإعلام، وذهب القوم بعيدا عندما نشروا وأذاعوا أن الحكم الإخواني باع مثلث ماسبيرو لدولة قطر!
ولأننا كنا أمام رعونة مكشوفة، فقد قالوا إن من باع هذه المنطقة من تراب الوطن هو المهندس خيرت الشاطر، وأنه تقاضى ثمن الأرض، مع وعد بتسليمها بعد سنوات من توقيع العقد!
يومئذ استمر الإخوان، حكما وتنظيما، في حالة تجاهل الرد على هذه الادعاءات، وهو حق يكفله القانون منذ أن عرفت مصر قوانين النشر، ويرتب القانون عقوبة على عدم الرد، كما أنه يكفل محاكمة هؤلاء بتهمة نشر أخبار كاذبة، وهو الاتهام الذي يستخدم "عمال على بطال" في السنوات العشر الأخيرة!
والحال كذلك، فقد أخذت على عاتقي تفنيد هذه الدعاية السوداء، فإذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا؛ فما هي صفة خيرت الشاطر ليبيع مثلث ماسبيرو؟ وإذا كان قد انتزع صفته بذراعه، فما الذي يدفع القطريين للشراء من غير مختص، ولا يطلبون في الحال الأرض التي دفعوا ثمنها عدا ونقدا؟ بيد أننا كنا في "مولد وصاحبه غائب"!
وكان حديث البيع هنا يستهدف الرئيس محمد مرسي في مقتل؛ وذلك لحساسية المصريين تجاه عملية بيع الأرض، والتفريط في أصول البلد، ومن هناك كان تأليف عملية البيع التي من شأنها أن تضر بسمعة الرئيس، كما تضر بسمعة جماعته، ناهيك عن الإضرار بالدولة القطرية، التي تستغل علاقتها بالرئيس وحاجة مصر للأموال في شراء الأراضي المصرية، لا تنسى أن الإمارات كانت تقف غير بعيد من الأمر، ومن مطار القاهرة كانت الوفود لا تتوقف من السفر إلى هناك، ممن كانوا يغدون خماصا ويعودون بطانا!
ولم يكن يخفى على أحد أن حديث بيع أراض مصرية لكائن من كان، إنما يمثل ضربة مميتة لمن يوجه إليه الاتهام، وحساسية المصريين من تملك الأجانب للعقارات في مصر لا تزال مستقرة في النفوس، وإن خفّت حدتها، لأن القانون الذي أباح ذلك لم تتم إساءة استخدامه، فقد تعامل مع الضرورة بقدرها، وإذا كان هناك من تملكوا الوحدات السكنية، فهم من القادمين من العراق، وسوريا، وإذا كانت هناك شركات مشتركة تم تخصيص أراض لها للزراعة، فلم يصل الأمر إلى مستوى الهيمنة والاستحواذ الذي يُمنح للإمارات، تسديدا لفاتورة لا ناقة للمصريين فيها ولا جمل!
الغاوي ينقط بطاقيته:
فالإمارات، ومع بالغ احترامي للجميع، هي من وقفت وراء الانقلاب العسكري، ومن ثم ما كان يجوز أن تكون وقفتها معه وتمويلها لأنشطته، من قصور وجسور ونحو ذلك، دينا على المصريين يُسترد، فالغاوي ينقط بطاقيته. وقد رأوا في تمكين المصريين من اختيار حاكمهم ومساءلته خطرا عليهم، لا سيما وأن هناك تهديدا من تصدير الثورة إلى الخليج، الأمر الذي كان يُقلق دول مجلس التعاون الخليجي، نفس القلق الذي عاشته عواصم عربية أخرى، عدا قطر والكويت!
بيد أن الإمارات تعاملت مع ما دفع على أنها ديون، وعدم قدرة السلطة على تسديدها على أنها فرصة، ليمكنها أن تستحوذ على الكثير من مقدرات مصر، وفي صفقات الغاطس فيها أكثر من الظاهر، لا سيما مع قبول السلطة القائمة بالحرام الوطني، ومصدر حساسية المصريين.
ويحتوي أرشيفي الصحفي على تحقيق، في بداية عملي بالصحافة ونُشر في عام 1988، عن السماح للأجانب بتملك العقارات في مصر، وكانت الحكومة في ذلك الوقت تفكر بين الحين والآخر بصوت مسموع في إقرار تشريع يبيح ذلك، وفي كل مرة فإن المعارضة في البرلمان وصحافتها تقف ضد هذا الاتجاه!
والثقافة الشعبية المصرية ترى في بيع التراب الوطني جريمة، ولو للاستثمار، وعبّر عنها المسلسل الإذاعي القديم "عواد باع أرضه"، حتى صار كل بائع للأرض هو "عواد" الذي يستحق زفّة كتلك التي جرت لعواد في المسلسل من الصِبية وهم يهتفون "عواد باع أرضه"!
مكالمة خيري رمضان:
ومن الواضح أن أهل الحكم يدركون حساسية الموقف، لذا فقد بدأ التمهيد لصفقة رأس الحكمة، وكانت البداية من خلال تسريب لمكالمة هاتفية بين خيري رمضان والاقتصادي هاني توفيق، حيث أخبر خيري هاني بأن مسؤولا كبيرا، هو الرجل الثاني في مصر، أخبره بأن هناك صفقة استثمارية كبيرة ستدر على مصر 35 مليار دولار في الحال، ستكون سببا في تعويمها!
عندئذ قلت إن أول الرقص حنجلة، وأن هذا التسريب ليس تسريبا بالمعنى المتعارف عليه، فقد كانت مكالمة مفتعلة، بدا فيها خيري رمضان فنانا يفتقد للموهبة، فهل يعتقد فعلا أن الهواتف ليست تحت المراقبة في مصر؟ ثم ما هي الصفة لهاني توفيق التي تجعل خيري رمضان حريصا على أن ينقل لمسامعه مثل هذا المشروع؟!
ولأنها مكالمة جس نبض للرأي العام المصري، فإنهم أطلقوا لجانهم الالكترونية لترد على من يكتبون عن هذه المكالمة بأنهم إخوان فبركوا هذا الكلام، ليسيئوا للدولة المصرية، قبل أن تمهد للصفقة بعض الأبواق الإعلامية المعتمدة!
ثم كان التمهيد من خلال التبشير بعاجل، عن بيان لرئيس الحكومة بعد قليل، ليستمر "القليل" هذا لساعتين بعدها ظهر رئيس الحكومة ليتحدث عن صفقة استثمارية كبرى سيتم توقيعها في الغد، دون أن يحدد ملامحها، أو يذكر تفاصيل عنها، لأنهم هنا دخلوا في مجال "التشويق"، باعتبارهم يصنعون قواعد المجد!
وفي اليوم التالي كان الإعلان عن الصفقة فإذا هي تمكين شركة إماراتية تحمل اسم رأس الحكمة، ومنحها أراضي في موقع استراتيجي ومن أفضل المواقع، لإقامة مشروعات ضخمة، بدون تفاصيل كافية، وبدون نشر بنود الاتفاق على الرأي العام، فقط ردود مقتضبة على القول ببيع الأرض بأنها ليست بيعا، إذا ماذا؟ حق انتقاع؟ لا رد ولا صد؟!
فنحن في دوامة كلام يفتقد للدقة العلمية، عن أن هذه المشروعات ستضمن فتح مجالات لعمل آلاف المصريين، والبعض قال ملايين المصريين، وأن المشروع سيدر عائدا كبيرا على مصر، دون أن نعرف تحديدا كم ألفا، أو كم مليونا، من فرص العمل التي سيوفرها المشروع، وكم هي الأرباح المتوقعة على وجه الدقة بعيدا عن لغة سيدر عائدا بالملايين؟! فهل هناك دراسات جدوى، أم أنها لم توضع بعد؟!
مولد وصاحبه غائب:
والذي يجعل قبيلة من الفئران تلعب في صدورنا، أن الأبواق الإعلامية كانت مستعدة لتحويل الأمر إلى مولود، وبأنه انتصار لمصر، وها هو الذهب، والدولار، والدينار الكويتي، ينخفض بمجرد التوقيع، وها هو الاقتصاد المصري ينتعش، وها هم القوم وقد أحرزوا هدفا بعد هدف ظهور حقول الغاز، وانتهى الحال إلى قطع التيار الكهربائي لساعتين في اليوم، بعد الإعلان المبكر في 2018 بأنهم حققوا الاكتفاء الذاتي منه، مع التذكير مسكونا بالتحقير: هل نسيتم الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي فيما مضى (يقصدون عام الرئيس محمد مرسي)؟!
لدى القوم سوابق لا تبعث على الثقة، ومن أول المؤتمر الاقتصادي الذي قالوا إنه نجح في ضخ المليارات في الاقتصاد الوطني، وأن مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة سيكون سببا في ارتفاع عائدات القناة إلى 100 مليار دولار، وأن القناة الجديدة سددت ما أُنفق عليها، لنكتشف أننا أمام عمليات احتيال كبيرة تقوم بها سلطة مسؤولة للأسف!
ومن جديد يبدأ التبشير بالرخاء، عن طريق حديث الذهب والدولار (غير المتواجد في السوق)، دون أن يمتد التأثير إلى السلع الغذائية، وإلى البيضة، والبصلة، وكيلو السكر.
كم من الوقت يكفي ليكتشف السذج في بلادي أنهم اشتروا الترام.. أكثر من مرة؟!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: