د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1008
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يبدو لنا من الصعوبة بمكان أن نقيس مدى تقدم أي من المجتمعات القديمة بالمقاييس الراهنة، لا سيما إذا كان الأمر والبحث يتعلق بالموقف الثقافي لمجتمع تمتد جذوره في التاريخ لأكثر من أربعة الآف سنة.
ومن البديهي أن نذكر أن الكثير من الأمم والشعوب لم تكن قد اخترعت الكتابة بعد. وأساساً تمثل هذه المشكلة الصعوبة الرئيسية للمعرفة الدقيقة لأحوال وأوضاع تلك الأمم والشعوب. ويضع الكثير من المؤرخين الأوربيين تلك الأنباء تحت عنوان " أنباء تاريخية" بوصفها غير مؤكدة تماماً، وباعتبار أن ليس هناك أثر مادي موثوق يعتمد عليه في تثبيت دقة المعلومات التي يحصل عليها الآثاريون وعلماء الحفريات لتصل بعدها إلى المؤرخين. فليس هناك وسائل طباعية أو كتابية، وكذلك لم يكن فن الرسم قد تقدم بدرجة يمنحنا دلالات مؤكدة. نعم هناك بعض المنحوتات والنقوش والرسوم الجدارية، على جدران الكهوف غالباً، ولكن بما لا يكفي لأن نقف على مفردات الأوضاع السياسية والاجتماعية في أزمان ما قبل التاريخ، لذلك فإن التفاوت في تقدير الحقب والأحداث لدى المؤرخين تتراوح في معظم الحالات بمئات السنين.
وبنفس الدرجة من الوثوق يمكننا الانطلاق من حقيقة أن لغات الشعوب(بوصفها أداة الثقافة والحضارة) وثقافتها، إنما كانت نتاج تطور اجتماعي/ اقتصادي طويل الأمد، فاللغات التي نعرفها اليوم ومنها اللغة العربية، إنما هي حصيلة لتطور أستغرق مئات من السنين، اندثرت وتلاشت في غضونها لهجات ومفردات وخطوط، وتطورت خطوط وانبثق عن هذا التطور خطوط جديدة، فنحن نسمع عن لهجات عرب الجنوب وعرب الشمال، والخط النبطي ولهجة عرب الحيرة، والعربية الآرامية...الخ إلى أن نزول القرآن باللغة العربية الأقرب إلى جميع اللهجات وهي لهجة عرب وسط شبه الجزيرة العربية، الأمر الذي ساعد على توحيد وتثبيت لهجة ومفردات اللغة العربية بصورة مبكرة.
ولكي نزيل أي اثر للدهشة والاستغراب، نقول أن هذا التبلور اللغوي والثقافي الذي شهدته اللغة والثقافة العربية في القرون الأخيرة قبل الميلاد وفي مطلع القرون الميلادية، لم تشهده الأمم الأوربية حتى العريقة منها، كالشعب الألماني قبل عام 1517 إلا أبان حركة الإصلاح اللوثرية والتي قادها القس الألماني مارتن لوثر داخل الكنيسة الكاثوليكية، قادت في تطورها إلى حركة ليبرالية عامة في الفكر والمجتمع الأوربي وإلى إصلاح الكنيسة الكاثوليكية نفسها إضافة إلى انبثاق الكنيسة والمذهب البروتستانتي.
وكان مارتن لوثر قد ترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية، الأمر الذي ساهم بتثبيت مفردات اللغة الألمانية وتوحيد لهجاتها المتفاوتة إلى حد بعيد، ولم تشهد لغات أمم أوربية أخرى تثبيت مفرداتها إلا بعد حلول عصر النهضة (الرينسانز Renaissance) عندما نهضت الثقافة والفكر في حركة قادت إلى تطورات هامة.
وإذا شئنا أن نبحث في الوضع الثقافي لمنطقة وسط شبه الجزيرة العربية، فلابد لنا أن نبحثها في ظل الظروف والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرضناها في الجزء الأول من مبحثنا هذا، وفي مباحث هذا الفصل. فازدهار الثقافة هي في الواقع على علاقة جدلية وثيقة بالتقدم الاقتصادي / الاجتماعي والسياسي الذي يحرزه أي شعب من الشعوب ليشكل بمجموعه نسيجاً حضارياً متكاملاً، يشير إلى مدى التقدم الذي أحرزته هذه الأمة أو تلك من الأمم.
وبادئ ذي بدء، لابد لنا أن نشير إلى حقيقة مؤكدة، وهي أن تخلف وسائط المواصلات، كانت تفرض صعوبة التنقل بين الأرجاء العربية شمالاً حتى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. ولكن لا بد من الإقرار بنفس الوقت أيضاً، أن الصلات والعلاقات لم تكن منقطعة قط بين الأقوام العربية، بل أن القبائل العربية لم تكن تكف عن التجوال في أرجاء المساحة العربية الشاسعة الممتدة من جنوب شبه الجزيرة العربية حتى أقاصي البادية السورية الممتدة إلى سفوح جبال الأناضول.
وبهذا المعنى، فإن تراث وتاريخ الثقافة العربية لم تكن منقطعة الأوصال، وحتى في عصور الجاهلية ما قبل الإسلام، كانت الأحداث التاريخية والأخبار تتنقل بين المجتمعات العربية بأساليب وإن كانت بدائية، إلا أنها كانت تحقق قدراً من وحدة النسيج الثقافي، والدليل على ذلك هو ذيوع أنباء الحروب والمدن والدول والحضارات البائدة، بالإضافة على الكثير من الأساطير والملاحم والحكايات التي تؤلف بمجموعها مفردات وتفاصيل الموقف الثقافي، فما هي ابرز تلك المفردات : ـ
* مثلت قصص التاريخ التي استلمها الخلف من السلف قصص شعوب ومدن ودول سادت ثم بادت، مثلت الإرث الثقافي الذي توارثته الأجيال، ومنها قصص الدول التي قامت في جنوب شبه الجزيرة قبل الإسلام بأكثر من عشرين قرناً، ووصف قد ينطوي على بعض المبالغة لقصور الملوك والملكات، وكذلك أنباء الدول التي نهضت في بلاد الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل، لذلك فإننا نلاحظ أخبار ملوك مصر والأحداث التي جرت هناك من مجاعات وأزمات سياسية تتناقلها الحكايات. ثم لا ينبغي أن ننسى أن هذه الأمصار كانت على علاقة وثيقة بينها، تجارية في المقام الأول، ثم ثقافية وإنسانية بصفة عامة.
* مثلت قصص الأنبياء والمرسلين والرجال الصالحين والملوك العظام والفرسان الشجعان أمثولات تروى وتحكى وتتناقلها الأجيال، تتشابه بما لعبته الأساطير الإغريقية في الأدب اليوناني أو الأوربي بصفة عامة. وربما أضافت الأساطير والخرافات الكثير قبل أن تثبتها الكتب السماوية في صورتها النهائية، ولكنها في مجموعها كانت ترمي إلى الخير وإلى أهداف شريفة.
* تمنح تجارب وعبر الشعوب، والحكمة والأمثال، وما هي إلا خلاصة للخبرة والدروس المستفادة التي أمتلكها أي شعب من الشعوب في التعامل مع المحن والنكبات وعبر التجارب المختلفة، المريرة منها والسعيدة. ترى كم من العبر وردت إلينا عن إهمال أهل اليمن صيانة سد مأرب حتى قرضته الفئران وعم الخراب ؟ وليس من الضرورة هنا أن تكون الفئران قد قرضت السد حقاً، ولكن العبرة هي في سوء عواقب الإهمال والفساد في الدول والمجتمعات.
* لا سبيل للشك، أن حركة الشعر كانت حتى أمد غير معروف درة الفنون والآداب العربية، والواقع أن حركة الشعر والأدب كانت نشيطة في جميع الأصقاع العربية، وقد ورثوا الرؤية الفنية لأسلافهم سواء إن أدركوا ذلك أم لم يدركوه. وكذلك نلاحظ الأبعاد الفنية في الأدب العربي(الشعر بخاصة)، متواصلة سواء في العراق والشام أو في وادي النيل، فالشعر والملاحم الشعرية هي من نتاج نفس الإنسان الذي يحيا ذات الظروف المناخية والبيئية والنفسية مما يمنح الأدب والشعر طبيعته وملامحه، ولكن البواعث Motivation أو الموضوعات التي يتناولها الشعر والأدب هي في تغير دائم بتغير الظروف والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
* كان للأديان السماوية (اليهودية ـ المسيحية) أثر مهم في تطوير الثقافة العربية، رغم أن للديانتين لم تنتشرا على نطاق شعبي واسع، ولذلك أسبابه أيضاً. فبالإضافة إلى أن البلاد العربية كانت موطن انبعاث تلك الديانات السماوية، فإنها انتشرت في أرجاء المشرق العربي بدرجات متفاوتة، فقد جاء اليهود إلى شبه الجزيرة العربية من فلسطين فراراً من السبي البابلي والحروب الآشورية، وكانت اليهودية على اتصال وثيق بالفلسفة الرومانية ـ اليونانية، ومنها تسرب الكثير إلى الثقافة اليهودية ومنها على البلاد العربية وشبه الجزيرة. وانتشرت المسيحية كذلك في بلاد العرب، في الشام والعراق ومصر، وكذلك في جنوب شبه الجزيرة نجران، وكانت هناك ثلاث مدارس لاهوتية متأثرة بالفلسفة اليونانية، أشهرها مدرسة الإسكندرية التي تأسست في بداية القرن الثالث الميلادي، ومدرسة إنطاكية 270، ومدرسة نصيبين 297 في بلاد الشام، وكانت هذه المدارس تعلم اللغات أيضا، وقد مر علينا أن مدينة الحيرة العربية كانت مركزاً ثقافياً مهماً من مراكز المسيحية النسطورية.
* مثلت التجارة وسائر العلاقات الخارجية مع أمم الجوار أحدى وسائل انتقال سواء بين العرب أنفسهم في شتى أصقاعهم، أو بين العرب والأجانب. وقد مر علينا في الجزء في كتابنا هذه، كيف تعلم عرب الجنوب اليمنيون صناعة مادة السمنت من العرب الكنعانيون في بلاد الشام وبواسطته شيدوا سد مأرب الذي يعد أحد المآثر الحضارية والعمرانية العربية الهامة. وكذلك كان العرب يتبادلون التجارب مع الأمم الأخرى عبر التجارة خلاصة التجارب والخبرات في شتى مجالات الحياة.
* لابد من الإشارة أيضاً إلى الكثير من المعوقات في انتشار الثقافة، التي تتمثل بصفة رئيسية بتخلف وسائط نقل الثقافة، فرغم أن علماء الاثاريات أوصلوا لنا الكثير من الآثار المكتوبة باللغة المسمارية والبابلية والهيروغليفية وغيرها، إلا أننا لا يمكننا اعتبار أساليب الحفر في الطين أو الخشب والأحجار والكتابة الشاقة على أوراق البردي وحتى على القماش والجلود، أساليب نقل للثقافة، بقدر ما مثلت أداة حفظ، أكثر مما هي أساليب لنشر الثقافة على مستوى واسع النطاق.
* أثر الإسلام تأثيراً عميقاً في تغير كنهة الأشياء وقيمتها، وكذلك في القيم الأخلاقية ومقومات الحياة، فقد كان للإسلام موقفاً جديداً من المرأة ومن الأسرة ومن الإرث والتعاملات والعبادات والرؤية إلى الحياة والمستقبل، فقد مثل الإسلام باختصار انقلابا فكرياً وثقافياً شاملاً، وأنتزعهم من الإطار الثقافي الوثني ذو الأفق الفكري الضيق، ووضعهم في الإطار الفكري الثقافي الإسلامي الذي شجع الثقافة والعلم والتعليم مفتتحاً القرآن بآية :" أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " 5-1 ـ سورة العلق).
الإسلام كان يعتمد الثقافة والعلم والتعلم سبيلاً لمكافحة الجهل والتخلف، وبالتالي كان يهيأ المناخ الملائم لاقتحام الفكر الوثني المتخلف، لذلك كانت القيادة الإسلامية تقبل أن تطلق سراح أسير الحرب مقابل أن يعلم القراءة والكتابة لعدد من الناس. وكان المتعلمون يعتبرون من علية القوم في المجتمع الإسلامي.
ومع أن عرب الحجاز كانوا يعيشون حياة البدو، ولم وتكن لديهم حكومة منظمة(وقد مر ذكر ذلك) ولكن مع وجود تقاليد لها قوة القانون العرفي. وللقبائل تقاليدها في إقامة العدل سواء حيال شخص معين، أو زعماء القبائل، أو حتى لقبيلة لأسرها إذا أدينت بعدوان، أو ما شابه ذلك.
ومع أن هذه الأنظمة هي عرفية متعارفة (أي أنها غير مكتوبة) إلا أنها كانت دقيقة وتكاد تفي بالحاجة(وهي حاجة بسيطة)،. وكان العرب يتنادون إلى عقد أحلاف واتفاقيات. والقانون الإسلامي تعرض للقانون الجاهلي العرفي، فأقر بعضاً منه وعدل البعض وألغى البعض. فأقر القسامة(قضية الدعوة على القتل) وعدل بعضاً منه وعدل بعضها(الحج والزواج والطلاق والمهر والخلع والإيلاء) وألغى نظام التبني، كما ألغى بعض أنظمة البيع والتجارة، وحرم الربا (الربح على رأس المال).
* قاد التطور اللاحق إلى حركة فكرية وثقافية إسلامية واسعة النطاق والمحتوى، كان بعضها ديني تشريعي ويدخل في الجو الثقافي لتفسير القرآن والحديث، وبعضها الآخر سياسي/ اقتصادي مما يتصل بإدارة الدولة ونظامها المالي والقضائي، وبعض آخر ذو طابع سياسي/ اجتماعي فيما يتصل بعناصر الدولة القومية وتياراتها السياسية، ولكن تلك التطورات كانت ثماراً لحركة وإرهاصات استغرقت فترة ليست قصيرة، برز فيها فقهاء وعلماء وفلاسفة في أواخر العهد الأموي ومطلع العصر العباسي وسنتطرق إلى ذلك في مباحث خاصة تفصيلاً.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: