د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 404
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وهي تلك العناصر التي لا بد لمتخذي القرارات السياسية من اعتبارها وقياس حجم فاعليتها ودورها إزاء القرار السياسي إيجابياً بالمساندة والدعم ودقة قياسها، أو سلبياً بالمعارضة والتنبؤ بردود أفعالها.
ومن المؤكد أن دقة تلك القياسات ودقة التنبؤ بردود الأفعال، إنما تعتمد إلى حد بعيد على صحة المعطيات ونزاهتها وابتعادها عن الحماس والانفعال والهياج أو الغضب وإطلاق أحكام الهوى تلك التي لا تستند إلى الواقع المادي الملموس، فقد يكون ذلك دارجاً أو محتملاً في المراتب الدنيا، ولكن ينبغي أن تبتعد عنه الحلقات المتقدمة في الأجهزة المختصة، أما في الدائرة الأعلى المولجة باتخاذ القرار فالأمر يغدو مجازفة ولا بد من إقصاء العناصر التي تستبعد الأحكام العقلانية المستندة إلى قوانين السياسة، بعيداً عن التهييج والإثارة، فمن الثابت علمياً أن الانفعال والهياج يحجب قدراً ليس بسيطاً من القدرات العقلية، وبالتالي إساءة للاستخدام الأمثل لتك القدرات.
وليس ذلك فحسب، بل وكما سنلاحظ ذلك تفصيلاً في العناصر الرافدة، فدقة المعلومات والمعطيات بين أيدي القيادات وأوساط القرار السياسي أمر في غاية الأهمية لتجنيب القرارات الفشل. وقد يكون قدراً من الحساسية إزاء المعلومات والمعطيات المطروحة ضرورياً لتمييز الدقيقة منها أو تلك المبالغة فيها، أو تلك المدفوعة بنوايا حسنة، لذلك فإن جرداً موضوعياً واقعياً للمعطيات المادية، وكذلك تقدير حسن أداء وكفاءة الأجهزة العاملة أمراً في غاية الأهمية والضرورة.
وتنقسم العناصر المؤثرة إلى مجموعتين من العناصر: لاحظ المخطط رقم 2 رجاءً :
◦ مجموعة العناصر الداخلية.
◦ مجموعة العناصر الخارجية.
مجموعة العناصر الداخلية: وهي تلك العناصر المؤثرة على عملية صنع القرارات السياسية في جانبها الذاتي، وهي تخضع بحدود معينة وبنسب متفاوتة إلى سيطرة الدولة وإلى تقديرها لوزن تلك المؤثرات وكفاءتها.
وأبرز عناصر الموقف الداخلي:
أولاً: العناصر الاقتصادية:
وتلعب هذه العناصر دوراً هاماً في منح العناصر الداخلية الأخرى سمة الاستقرار والثقة وتقليص الحاجة أو الاعتماد على الموارد الخارجية، كما أنها تمنح صانعي القرار المرونة وحرية المناورة والخيارات في المجالين الداخلي والخارجي، والقدرة على الصمود إزاء الضغوط وتحمل الظروف الحرجة والطارئة، كما أنها توفر شروط ضرورية لا بد من وجودها كمستلزمات رئيسية لصانعي القرارات في القدرة على مواجهة الأزمات السياسية ولا سيما تلك التي تنذر بالتصاعد مثل المقاطعة والحصار وصولاً إلى احتمالات الصراع العسكري.
وإذا كان الحديث عن اقتصاد وطني يتطلب الخوض في تفصيلات وجوانب كثيرة، بيد أننا في معرض بحثنا هذا سوف نتطرق إلى الشروط الضرورية التي لا بد منها في الحالات التي ذكرناها، والتي لها تأثيراتها على الأمن القومي والقرار السياسي وأبرزها:
1. حجم الإنتاج الزراعي والصناعي:
وفي مفرداته، بحث وتأمين وتطوير:
◦ الأوضاع الحالية والخطط المستقبلية، آفاق التطور الكمي والنوعي.
◦ نسب تلبيتها للحاجات المحلية.
◦ مساهمتها في الدخل القومي.
2. التجارة الخارجية:
التركيز على الاتجاهات الحيوية ومنها:
◦ المصادر التي تزود البلاد بحاجاتها الرئيسية، ودرجة التثبت من الوفاء بالتزاماتها.
◦ تعدد المصادر لضمان تقليص أخطار المقاطعة الاقتصادية.
◦ بحث تأمين طرق التجارة الرئيسية البرية والبحرية والجوية.
3. التجارة الداخلية:
◦ توفير الحاجات الأساسية في حياة المواطنين وذلك بتأمين خزين استراتيجي من المواد الضرورية لا سيما في الغذاء والمواد الخام.
◦ العمل على تجنب احتمالات التضخم وتقليص نسبها.
◦ توفير الثقة في التعامل التجاري والمصرفي وتشجيع الادخار والاستثمار الداخلي وترشيد الأنفاق في قطاع الحكومة واستهلاك المواطنين.
4. القطاع المصرفي:
توفير احتياطي كاف من العملات الصعبة، وعادة فالدول ترصد كاحتياطي من العملات الصعبة والذهب والمعادن النفيسة، ما يعادل مصروفاتها الخارجية لمدة 6 شهور، أي بنسبة 50% من عموم مصروفاتها الخارجية في العام الواحد. وبالطبع يمكن زيادة هذه النسبة إذا تنبأ صانعو القرار السياسي بحجم الأزمة السياسية وأبعادها واحتمالات تصاعدها والسقف الذي يمكن أن تبلغه. ومما له أهمية خاصة في هذا المجال، تأمين استثمارات الدولة في الخارج إن وجدت، وتصفيتها إذا وجد أنها عرضة للحجز أو المصادرة.
5. تطوير كفاءة البناء الارتكازي:
تطوير كفاءة البناء الارتكازي وهو شأن يعدّ البلاد لتحمل ليس فقط ويلات الحروب والنزاعات المسلحة، بل وكذلك الآثار المدمرة لشتى الظواهر الطبيعية، زلازل، براكين، وسيول وفيضانات، وجرف للتربة، حرائق هائلة. والبنى الارتكازية في هذا الصدد هي: الموانئ، شبكة الطرق البرية، إنتاج الطاقة(الكهرباء والمشتقات النفطية من المصافي)، شبكة السكك الحديدية، الطاقة الاستيعابية للمستشفيات الثابتة والجوالة، شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية... إلخ .
6. التوصل إلى تعبئة بشرية ممتازة للسكان:
* تناسب توزيع القوى العاملة في ميادين النشاط المحرك للاقتصاد الوطني مثل:
الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات والإدارة .. إلخ .
◦ توزيع الملاكات والكوادر العملية المتخصصة على المرافق العلمية والإنتاجية
وفق تخطيط مركزي.
* التوصل إلى توزيع سكاني مدروس على مساحة البلاد بما يتناسب مع معطيات الأمن القومي.(1)
ثانياً : العناصر العسكرية:
وهي تلك العناصر التي تتيح لصانعي القرار السياسي استخدامها بحسب ظروف تعقد الأزمة وتصاعدها مقابل إخفاق الحلول السياسية والمجهودات الدبلوماسية واستبعادها.
فكما ركزنا في المبحث السابق، أن الحرب ليست أول تلك الخيارات، فمن الممكن تدرجاً في الخيارات أن تشتمل على:
◦ استعراض للقوة العسكرية بواسطة وسائل الإعلام، والاستعراضات العسكرية العلنية.
◦ مناورات القوات المسلحة: درجة سعة المناورات، حجم القطعات المشتركة في المناورات، الصنوف المشاركة في المناورات، البرية الجوية، البحرية، موقع إجراء المناورة، قربها من مناطق الحدود، طبيعة المنطقة، جبلية صحراوية، مستنقعات.. إلخ.
◦ التهديد أو التلويح باستخدام القوات المسلحة، وذلك إما بالإعلان الصريح أو التصريح الضمني، بالتلويح بأن الدولة لن تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي حيال تصاعد الأزمة لتصل إلى درجة معينة (س)، تركيز القوات في قواعد الانطلاق، التحشد في مناطق الحدود، إعلان درجة الإنذار (التأهب) درجة آ أو ب أو ج، في صفوف القوات المسلحة، القيام بطلعات طيران بالقرب من مناطق الحدود...إلخ.
◦ استخدام القوات المسلحة لتحقيق أهداف لا تدل على الحرب الشاملة، بل لإثبات مصداقية التهديد، وإظهار العزم على عدم التخلي عن الهدف السياسي، ومنها: التحليقات الجوية فوق أهداف داخل الأجواء الإقليمية لتلك الدولة، أو توغل السفن البحرية في المياه الإقليمية وتفتيش بعض السفن، أو القيام بقصف مدفعي محدود على نقاط غير هامة، أو احتلال نقطة استراتيجية حدودية، والإعلان عن الاستعداد لإجراء المحادثات حولها وسائر النقاط المعلقة...إلخ .
◦ خوض الحرب المحددة أو الشاملة بقصد صيانة الاستقلال السياسي ومكتسباته والسيادة الوطنية التي هي الدعامة الرئيسية من دعامات المصالح الوطنية العليا.
ومن البديهي أن جميع هذه الفعاليات إنما تخضع بصورة مباشرة للتوجيه السياسي من أوساط القرار السياسي التي تنضجها ثم تخضعها إلى التوجيه المباشر من القيادة السياسية للبلاد المخولة دستورياً بذلك.
ومن أجل إبقاء هذه الخيارات متاحة لصانعي القرارات السياسية، فلا بد من:
◦ التوصل إلى كفاءة القوات المسلحة وبدرجة استعداد عالية وبحجم يلبي مستلزمات الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا، قياساً إلى حجم التحديات المطروحة، والمخاطر إزاء المصالح الوطنية العليا.
◦ يلعب الإنتاج العسكري من المعدات والأعتدة الحربية دوراً هاماً في إغناء القرار السياسي ومنحه المزيد من الثقة والقوة والصلابة في مواجهة الموقف وتطورات الأزمة السياسية وفي التخفيف من عبء الموقف الناجم في البحث عن مصادر السلاح التي تخضع صفقاتها بالإضافة إلى كلفتها المالية، تخضع إلى مفردات الموقف السياسي وأحياناً إلى ما يشبه الابتزاز، لذلك فإن إيجاد مصادر بديلة للتسلح أمراً لا غنى عنه في حالة تعارض المصالح السياسية للدولة المزودة للسلاح مع المواقف السياسية للدولة الطالبة للسلاح.
◦ تلعب المنظمات شبه العسكرية(جيش شعبي، مقاومة شعبية، منظمات شبابية...إلخ) دور الرديف للقوات المسلحة النظامية في حماية البلاد سواء من قوى محلية مخربة متواطئة مع العدو، أو من القوات النظامية الهابطة بالمظلات خلف خطوط القتال، أو من عناصره المتسللة، وحماية المرافق الاقتصادية وطرق المواصلات ومحطات توليد الطاقة والسدود والجسور.. إلخ من الأهداف الجوية على سير العمليات الحربية.
◦ لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار في استراتيجية الدفاع، مساحة البلاد وموقع العاصمة التي يفضل أن تكون بعيدة كل البعد عن خطوط القتال باعتبارها المركز السياسي للبلاد ورمز كيانها واستقلالها.
◦ تضم استعدادات الدفاع عن البلاد، إجراءات وتفاصيل يفضل توفرها، فهي على سبيل المثال: سعة المستشفيات ودرجة استعدادها لتلقي أعداد مضاعفة من المصابين، وإعداد مستشفيات متنقلة لذات الغرض، وتأمين مصادر مياه الشرب، فقد يعمد العدو إلى تسميم بعض المصادر أو إفسادها، بإلقاء كميات هائلة من الملح في أعالي الأنهار، أو جثث لحيوانات نافقة، تأمين مصادر احتياطية للطاقة الكهربائية للخدمات الضرورية في المستشفيات والمرافق المختصة بتوفير الغذاء مثل مطاحن الحبوب والمخابز، توفير الملاجئ لحماية السكان المدنيين من الغارات الجوية والأسلحة الكتلوية، الاهتمام بفاعلية وقدرات أجهزة الدفاع المدني في أدائها لمهماتها... إلخ .
ثالثاً: عناصر الوضع السياسي الداخلي:
أو ما يطلق عليه اصطلاحاً بالجبهة الداخلية كدليل على ضرورة تماسكها ومتانتها وأهميتها في سلامة عموم الموقف السياسي للدولة وانعكاساتها على القرار السياسي.
ويتجه القرار السياسي وصانعوه إلى معالجة الأزمة السياسية أو الاقتصادية إذا كانت ذات أثر مباشر بحياة المواطنين، أو تلك التي لها علاقة بدول أخرى مثل أعمال التأميم الوطنية للممتلكات أو الامتيازات الأجنبية، يتجهون بثقة أكبر تبعاً لسلامة الجبهة الداخلية أو بالعكس.
ومن أهم عناصر الوضع الداخلي:
1. متانة بناء المؤسسات الحكومية وسلامة فعالياتها، ولا يتم ذلك إلا ببناء كادر إداري كفء وباعتماد أساليب حديثة في الإدارة، ووضع أسس تطويرها يضمن مواكبتها للتطورات الحديثة في الإدارة وزج أفضل مستلزمات التكنولوجيا في استخدام يحقق نتائج متصاعدة في الأداء، ويرتقي بالعمل وبأساليبه.
2. التوجه نحو عناصر ورموز السياسة الداخلية من أحزاب ومنظمات جماهيرية باتجاه إسهام أكبر قدر من السكان في عملية البناء الاجتماعي وحماية المصالح الوطنية العليا، وتتضاءل التناقضات الداخلية عند تعرض البلاد للمخاطر الخارجية وتتحد الإرادة الوطنية من أجل حماية المقدسات الوطنية المتمثلة بالمصالح الوطنية العليا.
3. التعامل مع عناصر وقوى الضغط المؤثرة سلباً على القرار السياسي، ويتفاوت حجم وتأثير هذه القوى تفاوتاً كبيراً، كماً ونوعاً. فوجود عناصر مسلحة تستخدم العنف المسلح، على سبيل المثال في جزء من البلاد يعد دوراً مضراً ويتيح الفرص لمضاعفات غير محدودة تضعف من متانة الموقف السياسي الداخلي وتصرف جزءاً من اهتمام صانعي القرار السياسي وجهودهم، وتتمثل تلك العناصر أيضاً بوجود ونشاط الأقليات القومية والدينية ودرجة نفوذها السياسي وتأثيراتها في البرلمان، والصحافة وفي سائر أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، أو أحزابها السياسية ودرجة نفوذها المالي والاقتصادي.
وتلعب الأيدي العاملة الأجنبية كذلك دوراً يتفاوت في تأثيراته الايجابية والسلبية، فقد يكون وجودها مفيداً في المساهمة في عمليات البناء الاقتصادي، أو سلبياً بتأثيراتها الثقافية وتقاليدها الأجنبية، أو عندما تعمد حكوماتها بسحبها وإعادتها، أو أنها تعمد إلى الإضرابات والتظاهرات، أو أنها قد تشكل الطابور الخامس لأعداء البلاد.
4. عناصر الأمن الداخلي، تلك التي تمثل سلامة وأمن المجتمع من كل ما يهدد سلامة العمليات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، فلا يمكن تصور مجتمعاً تسوده الفوضى والجريمة وخرق العدالة من أن ينهض بمهماته بكمال، فذلك لا يقتضي تطوير أجهزة قوى الأمن الداخلي فحسب، بل والعمل على اجتثاث ظروف الجريمة وأسبابها.
مجموعة العناصر الخارجية: وهي تلك العناصر المؤثرة على القرار السياسي والتي لا تخضع بصورة مباشرة لسلطات الدولة، أو أنها تفرض أنماطاً وأساليب معينة في التعامل معها، ويعتمد حسن تنفيذ القرارات السياسية إلى حد بعيد على مدى دقة ردود أفعالها ومواقفها الحالية والمستقبلية.
ومن أبرز العناصر الخارجية:
◦ عناصر مسرح السياسة الدولية.
◦ عناصر الرأي العام الدولي.
◦ القانون الدولي.
أ. عناصر مسرح السياسة الدولية:
وهي مجموعة الفعاليات التي تدور على مستوى السياسة الدولية، وهي تمثل مصالح الدول المتماثلة أو المتنافرة، وتمارسها عبر تحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية، وعبر فعالياتها الدبلوماسية في بعثات سياسية دائمة أو مؤقتة، أو في المؤتمرات والمنظمات الدولية.
وفي هذا المجال، فإن الدبلوماسية تعد الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية، وهي لا تعني حصراً عمل السفارات، بل تعني في معناها الشامل، فن التوصل إلى إبرام المعاهدات والاتفاقيات القابلة للتنفيذ في ظل قدر معقول من التكافؤ.
وبالإضافة إلى مساهمة الدبلوماسية الرئيسية في تنفيذ القرار السياسي الخارجي، فإنها تعد(وسنتطرق إلى ذلك بمزيد من التفصيل في بحث العناصر الرافدة) إحدى القنوات المساهمة في رفد القرار السياسي بالمعطيات الضرورية.
وقد قادت تطورات عديدة إلى أن يتميز مسرح العلاقات الدولية بسمات وظواهر عديدة، فهناك التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، أو في المقابل، التناقضات في عالم العلاقات الدولية، وما تشهده بصفة شبه مستمرة من توتر وتدهور في العلاقات الدولية. وتوفر العديد من بؤر التوتر في بقاع شتى من العالم الفرص لتحولها إلى صراعات مسلحة، ولم تفلح الأساليب الدبلوماسية لحد الآن لنزع فتائل الالتهاب في بؤر التوتر تلك، إما بسبب التعقيد الشديد الذي يكتنف تلك البؤر والأزمات، أو بسبب تضارب في المصالح الحيوية للدول العظمى المهيمنة على مسرح العلاقات الدولية. فقد شهد العالم على مدى القرن العشرين تحولات مهمة في موازين القوى، قادت إلى حربين عالميتين، والعديد من الحروب المحلية التي لم تكن أيادي القوى العظمى وأدواتها بعيدة عنها، كما شهد العالم صعود إمبراطوريات وأفول أخرى، اختتمت في نهاية القرن بنهاية القطبية الثنائية، وببروز ما يطلق عليه عصر القطبية المنفردة، وعصر العولمة.
ولابد أن يتأثر القرار السياسي بتلك المصالح المتنافرة، ونادراً ما يلقى موقفاً التأييد المطلق أو الشجب المطلق من جميع الأطراف الدولية على مسرح العلاقات الدولية، وبهذا المعنى، فإن القرارات السياسية لدولة ما(ولا سيما في البلدان النامية)لا بد له أن يأخذ بالحسبان ردود الأفعال المحتملة للدول الكبرى أو أن يمس مصالحها، حتى وإن كان صانعو القرار السياسي لم يقصدوا بالضبط استفزازها أو الإساءة إليها.
وعلى الأغلب، ولا سيما إذا كان ذلك يمس مشكلة سياسية، فإن القرار السياسي سيجد مؤيديه في الساحة الدولية، كما سيجد معارضيه وخصومه، أو أطرافاً تجد في التزام الحياد تحقيق لمصالحها، وفي هذا الإطار فإن الاحتمالات التي تواجه صانعو القرار:
1. دائرة القوى المؤيدة المحتملة(أصدقاء مساندين ـ أصدقاء مشاركين، مؤيدين مادياً ـ مؤيدين معنوياً ـ مؤيدين لفظياً)
2. دائرة القوى المعارضة المحتملة(معارضين في الموقف العلني، خصوم مؤيدين للعدو، خصوم مشاركين للعدو).
3. دائرة القوى المحايدة المحتملة.
بيد أن الفعاليات السياسية والدبلوماسية قادرة على تقليص دوائر المعارضين إلى محايدين، والقوى والأطراف المحايدة إلى قوى صديقة مؤيدة، والعمل في الساحة الدولية بما يمنح القرار السياسي المزيد من احتمالات وفرص النجاح.
ومن البديهي، ويبدو ذلك واضحاً وجلياً، أهمية مسرح العلاقات الدولية واعتبار اتجاهات القوى على نجاح القرار السياسي أو فشله، فتأييد المجتمع الدولي لا يقتصر مزاياه على الدعم الأخلاقي أو المعنوي، فذلك له أهميته أيضاً، بل وينطوي كذلك على الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري، بتقديم التسهيلات بصفة عامة، لا سيما في المواصلات وتقديم القروض والمعدات، أو بالعكس في حجب هذه التسهيلات.
ب: عناصر الرأي العام الدولي:
وهي تلك العناصر التي تعكس اتجاهات ووجهات النظر في القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما تمتلك الإمكانيات في التأثير على وجهات نظر السكان.
ومن أبرز تلك العناصر، الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات التي لها اهتمامات دولية والتي تتمتع أبحاثها ونشاطاتها بتقدير واحترام الأوساط الدولية، وأيضاً الصحافة لا سيما تلك التي تتمتع بتأثير واسع على أذهان القراء وقناعتهم، وكذلك وكالات الأنباء المشهورة الواسعة الانتشار والإذاعات ومحطات التلفزة والفضائيات.
ويتأثر صانعو القرار السياسي بالرأي العام الدولي حيال أي مشكلة سياسية في العالم لما لتلك الأجهزة من تأثير على وعي الناس وبلورة اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، فلا تستطيع حكومة ما أن تتخذ قراراً يتعارض بصورة جوهرية ومطلقة ما هو مدان أخلاقياً وسياسياً في أذهان مواطنيها، وفي مثل هذه الحالات يصح اعتباره إحدى المؤثرات على القرار السياسي وصانعيه.
وغني عن القول أن آراء وأحكام قوى الرأي العام الدولي ليست على الدوام محكمة ودقيقة، كما أنها ليست مستوية، وقد يحدث أن تضلل قطاعات واسعة من الناس بالدعايات التي تبثها بعض قوى الرأي العام التي تناصب قضية معينة العداء، فالإعلام الوطني في هذه الحالة يبذل ما في وسعه لتصحيح الحقائق وإبرازها بما يخدم القرار السياسي وأغراضه.
وتنحاز أجهزة الإعلام وسائر القوى المؤثرة على الرأي العام بدرجة كبيرة إلى الاتجاه السائد في بلادها، فالصحافة في البلدان الرأسمالية الكبرى تعكس على الأغلب مصالح تلك البلدان، فلا يمكن على سبيل المثال توقع تأييدها البلدان النامية ومساعيها في السيطرة على ثرواتها الطبيعية وتأميم ممتلكات الدول الأجنبية فيها، غير أن ذلك لا يعني أن عملاً دؤوباً لا يحقق نتائج إيجابية ويكسب احترام الفئات المنصفة العادلة وأن يحقق اعترافاً بالأمر الواقع وبشرعية القرار السياسي الوطني.
فعلى سبيل المثال: اعتبرت أجهزة الإعلام في الدول الأوربية لا سيما بريطانيا وفرنسا(حتى تلك التي تتسم بالرزانة) خطوة مصر الوطنية والزعيم الوطني والقومي جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس عملاً من أعمال القرصنة، ولم يكن بمقدور الدعاية الوطنية المصرية آنذاك الرد بنفس مستوى القوة والانتشار، ولكن وبمرور الزمن تراجعت تلك الأجهزة عن مواقفها، بل رأى العديد منها في أوقات لاحقة، أن عملية تأميم قناة السويس كانت عملاً وطنياً لا بد منه لتمويل برامج وخطط التنمية وبناء سد أسوان العالي على أعالي نهر النيل، وإنتاج الطاقة الكهربائية للصناعة الناهضة وأحداث ثورة في الاقتصاد الوطني المصري.
ج: القانون الدولي:
ونقصد به في معرض بحثنا هذا، القوة المادية والمعنوية التي تمتلكها مؤسسات القانون الدولي المولجة بتنظيم العلاقات بين الدول والأفراد. ولا بد لصانعي القرار السياسي من مراعاة القانون الدولي والحرص أن لا تمثل قراراتها خرقاً فاضحاً الذي قد ينتقل تأثيره من الطور الأخلاقي وهو ما عليه الحال في الأغلب، وتأثيراته الدعائية(لاحظ تأثيرات وعلاقة ذلك بالرأي العام العالمي)إلى طور تتخذ فيه المؤسسات الدولية العقوبات مثل الإدانة والمقاطعة السياسية والاقتصادية، وفي هذه الحالة فإنه يلحق دون ريب الأضرار البالغة بهدف القرار السياسي.
وتعتبر محكمة العدل الدولية أهم مركز من مراكز القانون الدولي، ولكن محكمة العدل الدولية لها نقاط الضعف وأهمها، أنها لا تعالج إلا تلك القضايا التي تحصل فيها على موافقة الدولة المعنية بالمشكلة، وبعد صدور قرارات المحكمة تحال للتنفيذ عن طريق مجلس الأمن. بحكم طبيعة المحكمة وطبيعة عملها، فإن المحكمة بعيدة نسبياً عن أجواء الأزمة وتفاعلاتها، ولكن محكمة العدل الدولية التابعة إلى الأمم المتحدة تعالج القضايا الناجمة عن ترسيم الحدود، أو قضايا ممتلكات الدول، والحقوق، وتحكم المحكمة في القضايا التي تحال إليها ولكن اختصاصات فضها تنتقل إلى منظمة الأمم المتحدة والتي لا تغيب القوانين الدولية عن ظروف معالجتها للأزمة.(2)
ومجلس الأمن، هو المؤسسة الأكثر تماساً بالمشكلات الدولية والأكثر فاعلية، وفي حالات ليست شائعة، تتجاوز قرارات مجلس الأمن إطارها الأدبي والأخلاقي بقرارات مثل الإدانة أو بالتوصيات أو المناشدة بضبط النفس وحل المشكلات الدولية من خلال المفاوضات، وتقترح رعايتها لها، وقد تتجاوز هذه الإجراءات(التوصيات والمناشدة) إلى إرسال قوات عسكرية تؤلفها من بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مهمات مختلفة، كالفصل بين القوات المتحاربة، أو لضبط مخالفات التجاوز على الحدود الدولية، أو لمراقبة تنفيذ الهدنة ومساعدة الحكومات الشرعية بإعادة النظام. بيد أن ذلك كله يبقى في إطار موافقة الأطراف المتنازعة على قبول مساعي الأمم المتحدة ومجلس الأمن وأنها تتأثر إلى حد بعيد بإرادة ورغبات الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
فالقوات الدولية بهذا المعنى هي قوات تتمتع بقوة الشرعية الدولية وشرعية القوانين الدولية بالدرجة الأولى أكثر من قوتها كقوات محاربة تعتمد على القوة النارية لأسلحتها، لذلك فهي غير مزودة بالأسلحة الثقيلة أو الهجومية وليس من مهماتها التخطيط والدخول في المعارك، ويلاحظ حتى في استخدام القانون الدولي للسلاح، فإن الطابع الأدبي والأخلاقي هو الغالب السائد أكثر من الجوانب الأخرى.
وبرغم أن مؤسسات القانون الدولي لا تمتلك أن تكون حاسمة في إطار القانون الدولي، بيد أن ذلك لا ينبغي أن يدعو إلى الاستخفاف بها، فإن خروق متواصلة ومتعددة من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى الإدانة والاستهجان والاشمئزاز وإلى عزل تلك الدولة الذي قد يصل إلى حد طردها من الأمم المتحدة وحرمانها من هذا المحفل الدولي الممتاز، وإثارة الشكوك في شرعية وجود هذه الدولة وفي جدوى التعاون الدولي معها واحتمال حرمانها من مزايا العمل في إطاره ذي المنافع على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والفنية والثقافية والإنسانية، كما جرى مع دولة جنوب أفريقيا وروديسيا التي أدى تعاظم الإدانة الدولية لها، إلى إنهاء حكم الأقلية العنصرية البيضاء فيها، وقيام جمهورية زمبابوي المستقلة، وكذلك إنهاء حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: