د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 396
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة
هذا العمل هو فصل مستل ومترجم من الجزء الثاني الصفحة 33 من كتاب موسوعة تاريخ العرب (Geschechte der Araber: Prof. Dr. Luther Ratmann Teil 2, S, 329, Berlin 1975 ) (7 أجزاء) قمنا بترجمته حرفياً دون إضافة أو نقصان. وأهمية العمل أنه صادر عن جامعة ألمانية رصينة، بالاعتماد على حقائق مادية بحتة.
نأمل أن يكون هذا الجزء، يلبي رغبة القراء في معرفة معلومات حيادية عن الحركة الوهابية.
لم تكن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في أواسط القرن الثامن عشر في شبه الجزيرة العربية تنطوي على تغيرات جوهرية عما كانت عليه في عهد الرسول محمد(ص)، ومع أن موقعهم يشهد، منذ أكثر من ألف عام بوصفه يقع على محيط وتخوم الانقلابات السياسية الهائلة، ومع ذلك فإن جموداً واضحاً كان قد لحق بالتطورات الاجتماعية.
وكما ذكرنا في الماضي، فإن الرعاة البدو من سكان واحات نجد وعسير واليمن وعمان، كانوا يعملون بأعداد محدودة في الزراعة كأساس للحياة الاجتماعية، كما أن العلاقات العشائرية البطريركية تعني إلى حد بعيد، وقبل كل شيء: علاقات إقطاعية متخلفة تعيق بشكل حاسم عملية التشكل الاجتماعي والنزاعات الإقطاعية الدموية التي لا نهاية لها ويشارك فيها البدو الرحل أو المقيمون، والصراعات المريرة بين العديد من الأمراء والإقطاعيين الصغار في المدن والتجمعات السكانية، وكذلك في غزوات النهب التي يقوم بها البدو إلى المناطق الأكثر تحضراً، لا سيما إلى مناطق شمال شبه الجزيرة العربية وتخريب قنوات الري وبساتين النخيل.
وقد ألحق الإقطاع وفوضى العلاقات القبائلية أفدح الأضرار بتجارة القوافل مع سورية والعراق وسهلت نفاذ قوى غريبة إلى شبه الجزيرة. وهكذا ففي القرن السادس عشر أخضع العثمانيون الحجاز والعسير، والإنكليز والبرتغاليون السواحل الشرقية. وقام الفرس في القرن الثامن عشر باحتلال الإحساء وعمان والبحرين، ولكن أواسط شبه الجزيرة كانت في منأى عن هذه الأحداث. ولم يكن إلا بإمكان دولة ذات نظام مركزي إزاحة الفوضى السائدة في شبه الجزيرة العربية وذلك من أجل خلق سوق موحدة وطرد كافة الغزاة الأجانب.
في هذه الظروف نهضت في أواسط الجزيرة العربية حركة تمتلك القوة من أجل توحيد القبائل العربية المتنافسة وأمراء الإقطاع وبناء تلك الدولة المركزية المنشودة وإخراجها إلى حيز الوجود، ألا وهي الحركة الوهابية.
وجدت الحركة الوهابية التي تحمل الكثير من جوانب حركات المرابطين والموحدين في شمال أفريقيا، ووجدت في مؤسسها بشخص الفقيه المسلم محمد عبد الوهاب الذي أعطى الحركة اسمه. وقد ولد محمد عبد الوهاب في العينية بنجد عام 1703، وهو ينحدر من عائلة علامة التابعة لتميم، وقد تعرف في سفراته إلى سورية والعراق على أفكار المصلح الإسلامي أبن تيمية 1265 ـ 1328 وهو أحد الحنابلة المتشددين، الذي تعرض بسبب صرامته وتزمته للملاحقة من السلطات الحاكمة.
وقد بدأ محمد عبد الوهاب في منطقة حريملة عام 1740 في ترويج أراء أبن تيمية التي ترتكز في جوهرها على مبدأ التوحيد(وحدانية الله). وأدانة كافة أشكال التقديس والغموض والأسرار والدروشة(أعمال الدراويش)، وحرم تناول التبغ والقهوة، ثم أنه خاض نضالاً مريراً ضد البدع التي دخلت إلى الإسلام بعد وفاة الرسول محمد(ص) و"لوثته". وطالب محمد عبد الوهاب من مواطني بلاده العودة إلى الأصول في الإسلام، وفي كان عضاته يعبر عن كراهيته لكافة أشكال الكفر ويستوي في أحكامه تلك المتصلة منها بالشيعة (الفرس)، أو بالسنة المشوهين في السلطة العثمانية والباشوية. وقد نادى مواطني بلاده لخوض الحرب المقدسة ضد هؤلاء.
وهاجم محمد عبد الوهاب في مواعظه المتزمتة، التخاذل والليونة في الدين وكذلك الرفاهية في الثروة، بل وطالب ذلك أمراء الإقطاع الذين أستاؤا من طلباته تلك، باستثناء أمير داريا محمد أبن سعود (المتوفي عام 1765) الذي أدرك فوراً الفائدة من المواعظ الوهابية في النضال من أجل وحدة القبائل العربية في شبه الجزيرة، والتزمت في التعاليم الوهابية التي كانت مناسبة تماماً لنمط معيشة سكان البراري في شبه الجزيرة، وهكذا كانت تلك الأقطار مناسبة تماماً لمساعيهم وتدينهم، كما وفر النداء " الحرب المقدسة " الأساس الأيديولوجي لإقامة دولة مركزية قوية في شبه الجزيرة وطرد الغرباء الدخلاء.
عقد محمد بن السعود اتفاقية مع محمد بن عبد الوهاب عام 1744، قدم من خلالها السيف والدرع لمؤسس الوهابية. وعندما توفي أبن السعود القائد العسكري للحركة، كانت العينية وحريملة والرياض تحت سيطرة الوهابيين. وخلفه ولده عبد العزيز 1765ـ 1803 الذي قام حتى حلول عام 1786 باحتلال كامل منطقة نجد، وبذلك أسس الدولة الأولى للعائلة السعودية على أرض شبه الجزيرة العربية. وبعد وفاة محمد عبد الوهاب عام 1787، أتحدت القيمة الاعتبارية للقيادة الدينية والدنيوية للحركة. ولم يكن تأسيس الدولة السعودية ينطوي على تغير للنظام الاجتماعي، كما لم يتضمن تغير للسلطة.
وعلى أية حال لم يكن بإمكان العائلة السعودية أن توحد وتمركز الدولة بشكل دقيق ومنضبط، كما أنهم لم يحوزوا على قوة مركزية فعالة، بل تركوا العديد من أمراء الإقطاع والقبائل يسرحون ويمرحون، يأمرون وينهون، عند تقديمهم الاعتراف بالوهابيين والاعتراف الشكلي بأمير داريا. وقاد هذا التباين المتناقض إلى حركات مستمرة وثورات ومتنافسين في الدولة(التي كانت في طور مشروع دولة) وعرضها للاهتزاز وعجل في سقوطها.
وبعد إخضاع نجد زحف الوهابيون باتجاه ساحل الخليج العربي واحتلوا عام 1793 الإحساء، وبعد عام واحد فقط توسعوا نحو الغرب واتجهوا بقيادة عبد العزيز صوب الحجاز، وحاول شريف مكة، الشريف غالب (1788ـ 1813) الذي كان يمثل المصالح العثمانية على السواحل الغربية، التصدي للوهابيين ولكنه فشل أمام انضباط وحسن تنظيم محاربي الوهابيين، كما أن حكام الطائف وعسير كانوا قد أنظموا إلى أبن السعود.
وفي عام 1804 أحتل الوهابيون المدينة، ولكنهم طردوا منها بعد وقت قصير من احتلالهم لها، وفي عام 1806 نهبوا مكة، وقاموا بتنظيف الكعبة حيث أبعدوا عنها الكنوز، ومنعوا دخول القوافل التركية للحجاج من دخول المدينة المقدسة، وألغوا اللقب الذي منحه السلطان العثماني" خادم الحرمين " ويقصد بالحرمين الشريفين مكة والمدينة. وبدأ الوهابيون بعد وفاة الأمير عبد العزيز توسعهم باتجاه الشرق، فاحتلوا عام 1803 البحرين والكويت وتمركزوا على ساحل القراصنة، كما احتلوا أيضاً وسط عمان. وهاجموا مسقط عام 1804 التي كان سلطانها الحاكم تحت الحماية البريطانية، والذي لاقى مصرعه أثناء القتال، وواصل ولده سعيد المقاومة بدعم من شركة الهند الشرقية Company East Indian وبدأ بمهاجمة الوهابيين باستخدام أسطولها في الخليج العربي.
وفي هذا الوقت، كانت سلطة الوهابيين قد اشتدت وشملت كافة أرجاء شبه الجزيرة العربية تقريباً، فشملت في الغرب: الحجاز والمناطق الساحلية من عسير واليمن، ووسط شبه الجزيرة ونجد وشمر، وفي الشرق، الإحساء، الكويت، البحرين، وجزء من عمان، بينما كانت العديد من الحملات في العراق وسورية قد فشلت.
وقد أقلق توسع سلطة الوهابيين ونفوذهم الباب العالي، ولكنهم كانوا مشغولين عسكرياً في مناطق البلقان، فصدرت الأوامر من والي بغداد ودمشق بالتحرك، ولكن تحركاتهم اقتصرت على فعاليات دفاعية، وأخيراً طلب السلطان محمود الثاني عام 1811 من نائب الملك في مصر محمد علي التحرك لضرب الوهابيين. وكان وقع هذا الطلب على محمد علي مناسباً لما في نفسه، إذ كان يرى في الوهابيين منافسين أقوياء له في الولايات العربية للإمبراطورية العثمانية، وعدا عن ذلك، فقد كان الوهابيون يضايقون مواكب الحجاج إلى مكة والمدينة فتسببوا بأضرار مهمة للتجارة المصرية.
وهكذا نزل في ينبع في تشرين الثاني / 1811 جيش مصري قوي (10 ألاف رجل) بقيادة طوسون، أبن محمد علي الذي لم يكن قد بلغ سن الرشد. فواجه المصريون حرارة الجو وندرة الماء والأمراض، وكذلك المقاومة الباسلة للوهابيين الذين تمكنوا عام 1812 أن يضربوا المصريين المتفوقين تسليحاً بالقرب من المدينة، وإفشال التعرض المصري، ولكن طوسون تمكن من القيام بهجوم واحتلال المدينة، في نهاية نفس السنة بعد أن تلقى الإمدادات من مصر من ضمنها قدرات لمواجهة ظروف الحجاز.
وفي مطلع 1813 سقطت مكة، ثم الطائف وجدة، وفي أيلول نزل محمد علي بنفسه مع قوات جديدة في جدة، وحاول جاهداً في أن يكسب قبائل بدوية أخرى إلى جانبه، وفي هذا الظرف المعقدة جداً بالنسبة للوهابيين، توفي الأمير سعود فأستلم القيادة خليفته ولده عبد الله، وتركزت القوات في الشمال، بينما كان أخوه فيصل بالقرب من تربة يسيطر على الاتصالات بين نجد واليمن، وأخيراً خاض في كانون الثاني / 1815 قتالاً عنيفاً بالقرب من باسال حيث لقي هزيمة قاسية على يد القوات المصرية بقيادة محمد علي وسقطت تربة وبيشة بأيدي المصريين.
وفي الشمال، أرغم طوسون، عبد الله على عقد اتفاقية سلام تأمنت بموجبها الحجاز لمصر، وقبل فيها عبد الله مرغماً التبعية للسلطان العثماني والانسحاب من المكامن الغنية بالقرب من مكة وتأمين الطرق إلى المدن المقدسة، وأنسحب المصريون، ولكنهم تركوا العديد من المعسكرات ورائهم، وعندما أمتنع عبد الله عن تنفيذ شروط اتفاقية السلام، ظهرت عام 1816 القوات المصرية من جديد بقيادة إبراهيم (أحد أبناء محمد علي) الذي كان برفقة خبراء عسكريون فرنسيون، في نجد والقصيم، وفي عام 1817 سقطت راس، بريدة، وعنيزة بيد المصريين.
وأباد المصريون ودمروا وهم في طريقهم إلى داريا، برون التي هي بستان نخيل ومقر سكن الوهابيين، وبعد حصار دام عدة أشهر لداريا، أحتلها إبراهيم في أيلول/1818. وقد ساوى إبراهيم عاصمة الوهابيين بالأرض، أما الأمير عبد الله فقد نقل إلى أستامبول، قطع رأسه هناك في كانون الأول من نفس العام.
وهكذا فقد تم إسقاط الدولة الأولى للسعوديين التي كانت تحت الراية الوهابية بالقوة المسلحة العنيفة، وتم القضاء عليها في وقت قصير. ولكن السعوديون لم يتنازلوا عن هدف إقامة سيادتهم وإقامة دولة مركزية صارمة وقوية. وكان التفوق العسكري لنائب الملك في مصر بالإضافة مقاومة أمراء الإقطاع المنافسين من قبائل البدو، الأسباب الرئيسية لهزيمتهم.