لا بشائر لتغير سياسي حقيقي في تونس، والطريق مفتوحة للرئيس الحاليّ ليستمر في منصبه وبوسائله التي ابتدعها على قياسه. هذا استنتاج سابق لأوانه، ولكنا نجمع معطيات تؤكده.
فالرئيس ما زال يوزع شهادات الإخلاص للوطن طبقًا لمقاييسه ولا يرى غيره مؤهلًا للقيادة، وإذ نفقد الأمل في التغيير في منصب الرئيس نفقد بالضرورة الأمل في تغيير حقيقي في بقية مجالات الحياة، خاصة في تحسن الوضع الاقتصادي المنهار.
غني عن القول إننا ودعنا الزمن الذي يتحرك فيه شارع مقفر ضد السلطة، فهذا الشارع وبحسب استطلاعات ثقة، يُمارس أقصى درجات الشماتة في النخب السياسية التي سرقت جهده وعبثت بدمه وتركته في العراء. ونرى سببين رئيسيين لاستمرار الوضع السياسي على ما هو عليه ما لم يحدث تغيير من الخارج، السبب الأول عجز النخب والثاني انغلاق الرئيس دون كل حوار.
عجز النخب عضوي
البيانات السياسية التي تنهمر في الساحة، والمبادرات التي تعلن عن نواياها وخططها أو مقترحاتها لا تزال تمارس خديعة الناس، كأن لم تتعرض إلى السحل السياسي من قبل انقلاب 25 يوليو/تموز، مع تكالب على إعلان الترشح للمنصب دون قاعدة من جمهور أو برنامج واضح يمكنه أن يؤلف جمهورًا.
منطلق كل المبادرات التخلي عن دستور 2014 والبناء على ما قام به الانقلاب من تغيير دستوري، أي في الجوهر الاعتراف بالانقلاب بصفته عملًا مقبولًا يمكن تعديله بعد القبول بأثره، وعدم العودة إلى دستور 2014 يعني ضمنًا رفض التعامل مع القوى السياسية التي كانت سببًا في بلورته وفرضه لمدة من الزمن، ونعني حزب النهضة.
كل المبادرين واقفون رغم السحل السياسي الجماعي عند نقطة أن دستور 2014 هو دستور الخوانجية، متناسين المعارك القانونية التي جرت حوله وانتهت بفرضه بالإجماع. إن كل عودة إليه تعني رصيدًا أخلاقيًا وسياسيًا لحزب النهضة وشيخها السجين الذي وقف في الساعة الأولى للانقلاب أمام الدبابة مطالبًا بالحفاظ عليه.
هذا التخلي هو استمرار للقول إن عشرية الحريات (التي وصفت بالسواد) هي عشرية حزب النهضة التي حكمت وحدها وخربت البلاد حتى كان انقلاب التصحيح، وللمتابع أن يرى عمق التناقض في هذا القول، فإعلان الترشح مبني على جملة تصحح خطأ الانقلاب، لكن بالقفز فوق الانقلاب بدستوره وإلغاء الدستور الشرعي. فهي بمثابة انقلاب على انقلاب.
فضلًا عن ذلك فإن الجمل الخجول التي بدأت تتسرب عن تقييم ما قبل الانقلاب مرابطة عن مطالبة حزب النهضة وحده دون غيره بنقد الذاتي لأنه وحده المسؤول عما جرى بما في ذلك التمهيد للانقلاب، وهي لا تتغافل فقط عن دور النقابة وبقية الفاعلين الذين طالبوا بالانقلاب وزينوا للمنقلب تطبيق الفصل 80 من دستور 2014 وكانوا أعوانه حتى طردهم من حماه، بل إنها ترى النقابة فاعلًا مركزيًا في ما بعد الانقلاب وتنسق معها لتجاوز الانقلاب بقانون الانقلاب.
الانقلاب يعرف ونحن نعرف أن المعارضة التي تنوي الترشح ضده ضعيفة ومشتتة وهو يستهين بها، بل يسخر منها بجمل صارت من قاموسه، ونقطة ضعفها التي لا علاج لها هي موقفها غير الأخلاقي من حزب النهضة.
الجميع يعرف الأسماء المنافسة ولا يمكن بحال قبول اتهامها بالخيانة والارتماء في حضن الأجنبي، لكن ضعفها الفادح يغري بها كل منقلب. وهي تعرف ضعفها وتخفيه وتعمل على علاجه بغير الدواء المناسب، إنها تتمسح بأعتاب حزب النهضة ذي الجمهور الثابت لا لتبلور معه حلًا سياسيًا فعالًا، بل لتستعير جمهوره في صندوق انتخابي، ثم تركن الحزب وجمهوره في مستودع الخردة والانقلاب يعرف ذلك ويستفيد منه.
الرئيس لا يتزحزح
السبب الثاني لانغلاق الأفق السياسي في تونس هو أن الرئيس لا يناور مع المعارضة من أجل حلول وسطى، بل يحتقرها ويمضي مصرًا على سلامة خياراته السياسية والتنظيمية والاقتصادية بكل ما تنتجه من آثار كارثية يراها الجميع ويعيشها.
إنه يرى نفسه فائزًا في الاستحقاق الانتخابي، لذلك لا يشغل نفسه بتلك المناورات التي تسبق غالبًا المواعيد الانتخابية في الديمقراطيات، كأن يقسم السلطة مع المعارضة، فيوكل إليها إدارة الحكومة مقابل بقائه في منصب الرئيس. إنه بعيد جدًا عن هذا المنطق رغم ما حصن به نفسه من قوانين في منصبه.
هل هو الخوف من الهزيمة إذا اقتسم السلطة ودخل معارك سلطة برأسين ولو بدستوره المفصل على قياسه؟ يوجد في موقفه الحاليّ من خوفه الكثير ويوجد من ثقته في من دعمه من الخارج أكثر، وهذا الخارج يراه ما زال صالحًا للاستعمال في مرحلة قادمة، لقد أعدم تجربة ديمقراطية مخيفة للجوار العربي وللغرب المعادي لكل ديمقراطية في خارج حدوده، فهذا الغرب لا ينشغل بأحوال الشعوب إلا إذا وصله منها خطر وهذا الخطر حتى الآن تحت السيطرة.
بإمكان الرئيس الحاليّ (يقول الغرب) أن يواصل الإجهاز على التجربة، وسيرته في مجال الحريات واضحة وتبشر الغرب بسلام دائم، وقد شاهدناه يناور بابتزازه لمزيد من كسر التجربة وسيمنحه مما منح الانقلاب المصري بمجرد أن يرتب أمر انتصاره بصندوق انتخابي، ولو كانت علامات التزييف فيه واضحة وضوح الشمس، لذلك صرح وهو يزور ضريح بورقيبة أن اللحظة هي للبقاء أو للفناء وهو فيما فهمنا بقاءه بالقوة ولو كان الثمن إفناء خصومه، وخصومه لا يساوون عند الغرب خردلة.
والحل؟
نرى كل مشاركة في مواعيد انتخابية طبقًا لدستور الانقلاب تشريعًا للانقلاب وترسيخ قدميه لفترة رئاسية ثانية وثالثة، ومناورات المشاركة لا تخلو من طمع في مشاركة نسبية برضا الانقلاب، وهي مسكونة دومًا باستباق عودة الإسلاميين الذين لا يموتون ولا يتخلون.
إن النوايا والخطط التي رأيناها لحظة إسناد الانقلاب يوم حدوثه لا تزال تحرك المعارضة أو بعضها وهي تستعد للمشاركة، وهي في جوهرها مواقف استئصالية لا تتخيل تونس وفيها تيار إسلامي، فضلًا عن أن يشارك في السلطة.
إن المشاركة مهما كانت نيتها طيبة لن تفوز ولو تراصت صفوفها خلف شخصية واحدة، بينما المقاطعة تنتج عزل الانقلاب شعبيًا ودوليًا وتتركه في مواجهة الشارع، أما سبب هذا اليأس من الفوز فسببه عندنا، فهو فضلًا عن السببين السابقين أن الشارع فقد الثقة تمامًا في كل الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة التي ظهرت قبل الانقلاب وأثرت ولو بدرجات متفاوتة في إدارة المرحلة السابقة على الانقلاب.
إنها شخصيات محروقة والناس مجوا سماعها، خاصة تحت تأثير الطرق الإعلامي الموجه، ونعرف أن كثيرًا منها شارك في ترذيل نفسه عبر ترذيله للبقية، والناس/الشعب/الجماهير تمارس في هذه اللحظة نوعًا من الشماتة في هذه النخب ولا نظنها غير واعية بشقائها في الطوابير اليومية، لكنها وصلت بفعل هذه النخب إلى مرحلة عليَّ وعلى أعدائي وفي هذا الموقف يربح الانقلاب كل خياراته، أي يمكنه أن يسير في طريق مفتوح إلى سنوات خمسة أخرى ولن تكون كافية لتعي معارضته بؤسها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: