أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8462
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحوار الإسلامي المسيحي
خصّص الحمامي الفصل الرابع ممّا سوّد للحديث عـن الحوار الإسلامي المسيحي باعتباره مجالا من المجالات التي تظهر فيها مساهمة الفكر الإسلامي في تونس وفق ما يرى، ودون الدخول في التفاصيل ومناقشة الجزئيات نقول إن الحوار بين الأديان ممتنع امتناعا مطلقا لأسباب متعدّدة هي التالية:
1) الأديان أنساق فكرية وعقدية منغلقة على نفسها غير قابلة للانفتاح لأنها:"وضع إلاهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصّلاح في الحال وفي المآل وهذا يشمل العقائد والأعمال ويُطلق على كلّ ملة كلّ نبي"(55)، فإمّا أن يؤمن بها الإنسان ككلّ متكامل أو أن يرفضها ككلّ متكامل وكلّ محاولة لمناقشة فكرة أو محاورة عقيدة أو تغيير في ترتيب الأولويات تؤدي إلى سقوط البناء ككلّ، فالإيمان بنبوّة محمد (ص) يستلـزم أداء الصلاة وفق ما أمر، والاعتقاد في نبوّة موسى لدى اليهود يستلزم إنكار نبوة من جاء بعده... لهذا السبب بالذات ينأى دعاة الحوار بين الأديان بأنفسهم عـن مناقشة عقائد الآخرين رغم أن كلّ واحد منهم يُضمر صدق عقيدته وكذب ما عداها.
2) تشترك الأديان جميعها باستثناء اليهودية في السعي إلى الانتشار والتبشير والدعـوة والهيمنة وجمع المؤمنين، ومجال حركتها الإنسان أينما وُجد وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدّ اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من العقيدة، ومن الغباء أن يتصوَّر المرء أن مجرَّد حوار مع رجل ديـن سيمنعه من محاولة اختراق عقائد الآخرين وتسفيهها والتبشير بما يؤمن به، أثناء إعداده أطروحته عـن التبشير المسيحي قال الأستاذ بلقاسم الحناشي إنه:"قد أغلقت مراكز التبشير أبواب مكتباتها أمامي بتعلة غياب المسؤولين وحُفاظ المكتبات، وطلب مني المراسلة لتمكيني من الوثائق المسموح بها. وبمراسلتي الأب ميشال للون المسؤول عـن العلاقات الإسلامية المسيحية بشمال إفريقيا (أحد أكبر الناشطين في الحوار الإسلامي المسيحي وله علاقات متطورة مع جماعة منوبة ومؤسّس جماعة الصداقة الإسلامية المسيحية !!!)، وجهني إلى مكتبة الآباء البيض بتونس أو بمراسلة دور التبشير بالمغرب وهؤلاء أيضا وضعوا في طريقي حواجز ومتاهات كخلوِّ مكتباتهم من الوثائق التي تهمّ بحثي"(56).
3) الحوار يقتضي أن تكون هناك أرضية موضوعية يقف عليها المتحاورون وضمنها يتناقشون ونقصد بالموضوعية كلّ ما هو غير ذاتي وله في الواقع وجود يُحتكم إليه ويكون قابلا للأخذ والردّ والقبول والرفض والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان أمّا العقيدة فهي انتماء ذاتي مرتبط بالروح والوجدان والتربية والتاريخ، فهل من المعقول أن يناقش مسلم مسيحيا حول ذات الله وصفاته؟ وأن يلتقي مسيحي بيهودي حول نبوة عيسى عليه السلام؟.
ليست الدعـوة إلى الحوار بين الأديان إلا وسيلة من الوسائل التي تستهدف خدمة أغراض أخرى غير التي صُرِّح بها ودُعِيَ إليها، ففي ستينات القرن الماضي وإبّان الحرب الباردة دعا جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إلى تجميع الأديان في "معبد التفاهم" الذي عقد مؤتمره الأوّل في الهند في 22 أكتوبر 1968 وموضوعه "مغـزى الديـن في العالم الحديث" وعقد مؤتمـره الثاني في جنيف في 31 مارس 1970 وموضوعه "المتطلبات العملية للسلام العالمي"(57)، في نفس الفترة نشط محمد الطالبي وتلميذه عبد المجيد الشرفي ومركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الإعداد لعقد ملتقيات إسلامية مسيحية "خارج اختصاصه وبمساعدات مالية خارجية" كما يقول الطالبي(58)، عُـقِـد أوّلها سنة 1974 وكان موضوعه "الضمير المسيحي والضمير الإسلامي في مواجهتهما لتحديات النمو" والثاني سنة 1979 وموضوعه "معاني الوحي والتنزيل ومستوياتها" والثالث سنة 1982 وموضوعه "حقوق الإنسان" والرابع سنة 1986 وموضوعه "الحياة الـروحية مطلب يقتضي العصر تحقيقه"، ألا يوحي تشابه المواضيع وانسلال بعضها من بعض على وحدة في المصدر؟.
في دراسة لعبد المجيد الشرفي عـن التبشير المسيحي في تونس في القرن التاسع عشر نشرها في حوليات الجامعة التونسية سنة 1971، وفي إطار إشادته بالحوار الإسلامي المسيحي ذكر أن الأب روبير كاسبار من الداعين إلى هذا الحوار وقد نشر في ذلك مقالات استشهد بواحد منها، كما ساهم الأب في الملتقى الإسلامي المسيحي الذي التأم بقرطاج سنة 1997، هذا الأب الداعية إلى الحوار أشرف على لقاء عُقد في المهدية بتاريخ 20 جوان 1980 موضوعه التيارات الفكرية الإسلامية، ومن سوء حظه أن حضر اللقاء الأستاذ بلقاسم الحناشي الذي كان يعدّ في ذلك الوقت أطروحته عـن التبشير فنقل لنا بعض ما يُرَوِّجُ له هذا القس قال:"ويعتقد هذا الأخير أن مظاهر التجديد في العالم الإسلامي محتشمة وأن الحركات الإصلاحية بداية من الحركة الوهابية وحركة الأفغاني وعبده إلى مجيء الثورة الإيرانية كلها سلفية فاشلة أي محافظة وجامدة ... يجب التجديد في الإسلام ذاته، ولا يكون تجديدا إلا بالأخذ عـن أوروبا والتخلي عـن كلّ ما يعرقل الاقتصاد كالصلاة والصوم... ولتأخذ المرأة مكانتها في المجتمع... وليكن رجال الإصلاح كبعض التونسيين الذين فهموا المسيحية أكثر من المسيحيين أنفسهم وتطبعوا بتعاليمها ممّا يؤهلهم إلى التجديد..."(59). فإلى من يشير الأب؟، ومن هم هؤلاء التونسيين الذين يعيشون بيننا وتطبعوا بتعاليم المسيحية ممّا أهلهم للتجديد؟، وهل يقصد بكلامه أولئك الذين دأبوا على التشكيك في الصلاة وفي الصوم وفي الاجتهاد وفي القرآن وفي السنة...؟، ألا تمثل كتابات الشرفي وآمال القرامي ورجاء بـن سلامة والمنصف بـن عبد الجليل والمبروك الشيباني المنصوري ونائلة السليني وغيرهم استجابة لما يدعو إليه الأب؟ ألم يكن محمد الطالبي أستاذهم الذي تكوَّنوا على يديه وخبرهم عـن قرب على حق لمّا تحدث عـن ختم النبوة فقال إنها تعني من بين ما تعني لدى البعض:"أن نغلق الجوامع، أن لا نتعلم القرآن ونهمل العبادات، ترى ما الذي يبقى: أناس يقولون لدينا كتاب جيد عتيق صنعه في مراحل تاريخية سابقة واحد اسمه محمد يقول عنه المستشرقون إنه مهووس مصاب بالذهول أو الصرع لا فرق، إن سمَّينا هذا إسلاما فلا فرق بينه وبين الإلحاد، هنالك مدرسة تتجه هذه الوجهة مقرّها في منوبة وقاسمها المشترك نزع القداسة عـن القرآن"(60).
من بين الأغراض التي يمكن أن يخدمها الحوار بين الأديان السعي إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية خصوصا في البلاد التي تشهد تنوعا دينيا كمصر ولبنان وغيرهما وذلك بالاتفاق على وضع ضوابط تحمي الممارسات الدينية وتمنع تهجين عقائد الآخرين وتحدّد المرجعيات التي تعود إليها كلّ ملة وتضبط الحدود بين العقيدة والقانون. ولسائل أن يسأل ما الداعي إلى وجود حوار إسلامي مسيحي في تونس؟ وما الفائدة منه؟ وأي أغراض تخدمها هذه الدعـوة؟ ولماذا تهدر الأموال وتصرف في غير مصلحة الوطن؟.
وواضح لكلّ منصف أن بلادنا في غير حاجة إلى هذا النوع من الحوار الإسلامي المسيحي الذي لم تتمّ الدعـوة إليه إلا لخدمة أغراض أخرى بيانها كالتالي:
1) مواصلة مشروع المسعدي في تخريب الذاتية الوطنية بنفس الأدوات ولكن بوسائل مستحدثة. فمنذ بدايات الاستقلال فـُتِـحَـتْ نوافذنا للاتجاهات الدينية الصليبية تحت شعار الانفتاح على الغرب للتخفيف من غلواء التشبث بالهوية التي عُـدَّت أيامها رجعية تجب مقاومتها ومثلتها الـزيتونة وذلك عـن طريق ارتباط بعض النخب بالدوائر الكنسية. لم تعرف بلادنا من المسيحية إلا حملتها الصليبية الثامنة بقيادة لويس التاسع وأخيه وهي الحرب التي باركها بابا روما(61) والاحتلال الإسباني المسيحي الذي عاث في الأرض فسادا يقول ابـن أبي دينار:"وفي تلك الأيام أهين المسجد الأعظم ونهبت خزائن الكتب التي به ودرست بأرجل الكفـرة معالم المدارس وتفرقت ما جمع فيها من دواوين العلوم وتبدّدت في الشوارع حتى قيل إن المارّ من شرقي الجامع حيث النواوريين الآن إنما يمرّ على الكتب المطروحة هناك وضربت النواقيس في الحضرة وسمعت بعض أهل البلاد يقول إن النصارى ربطوا خيولهم بالجامع الأعظم ونبشوا قبر الشيخ سيدي محرز بـن خلف فلم يجدوا به إلا الرمل وفعلوا ما لا تفعله الأعداء بالأعداء"(62) والثابت تاريخيا أن الغزاة الأسبان سرقوا مخطوطاتنا وحملوها إلى مكتبة الفاتيكان بروما وما تزال تشاهد هناك وفق رواية شيخ المؤرخين حسن حسني عبد الوهاب(63) وهو الأمر الذي تكرّر سنة 1964 لما نقل أرشيف معهد الآباء البيض بما يحوي من وثائق ونصوص تهمّ الوطن وتاريخه إلى روما(64) وفي حديث لي مع الأستاذ أبي القاسم محمد كرو صبيحة يوم 29 ديسمبر 2010 أفادني بأن الكنائس التي كانت موجودة في تونس وعددها يناهز 113 كنيسة خلت من روّادها بعد الاستقلال فاتفق بورقيبة مع الكنيسة في روما على أن تمتلكها الدولة بشرط أن لا تستعمل للعبادة وهو ما تمّ فعلا ومن بين البنايات التي أعيدت إلى السلطة الوطنية مكتبات كتلك التي كانت موجودة في منوبة أو في عين دراهم إلا أنها تسلمتها فارغة لأن محتوياتها هُـرِّبت إلى روما ، ثم دخلت فرنسا بلادنا عنوة فاحتلتها ونهبت خيراتها، وما بالعهد من قدم ففي سنة 1930 حلّ الرهبان متزيِّين بالسواد ببلادنا وعقدوا المؤتمر الإفخارستي ثم احتفلوا بخمسينية دخول الاستعمار في مشهد مُخز ما زلنا نتألم لمرآه لمَّا نعود إلى الصحافة أيامها، ألا يحق لنا أن نطالب باسترداد ما نُهب من ذاكرتنا بدل استضافة المبشرين تحت لافتة "حوار إسلامي مسيحي" لا ندري لحدّ الآن بين من ومن؟ ولفائدة من؟.
2) إيهام السلطة أيامها بأن هذا الحوار يفتح نافذة على الآخر وهو أمر محبَّبٌ لديها والعجيب حقا أن هذا "الحوار" اقتصر على الكنيسة الكاثوليكية في روما ولم يشمل الكنائس الأخرى أخصّ بالذكر منها الكنائس الشرقية التي ينتسب إليها إخواننا أقباط مصر أو موارنة لبنان أو أرثوذكس العراق... الأمر الذي يؤكد لدينا بما لا يدع مجالا للشك أن إقصاء الكنائس العـربية هو إقصاء حضاري لا علاقة له بالحوار بين الأديان، فأيّهما أقرب إلى فضائنا الثقافي والفكري والروحي بابا روما أو الأب أنستاس ماري الكرملي الذي قدّم خدمات جلى للآداب واللغة العـربية؟ وأيّهما أولى بالإشادة كنائس قساوسة روما أو كنيسة أنجبت الشاعر الفحل بشارة بـن عبد الله الخوري المعروف بالأخطل الصغير؟ وأيّهما أوفق في الاختيار كنيسة شنت علينا حروبا صليبية اكتوى أسلافنا بلظاها أو كنيسة أهدت أمّتها قامات فكرية من وزن الأب جورج قنواتي ولويس عوض وزكريا إبراهيم ويونان لبيب رزق وغيرهم؟ .
3) إيجاد المبرّرات لإحداث قسم للحضارة في منوبة مهمّته إشاعة رؤية تجديدية للدين عجزت عـن الاضطلاع بها كلية الشريعة وأصول الدين ليحصل المحظور ويُؤَسَّسَ قسم يرتبط ارتباطا وثيقا بكنيسة روما ويعادي الجامعات الإسلامية كالأزهر بالقاهرة والقرويين بفاس عداوة لا حدود لها بحيث لم يعقد منذ إنشائه أي نشاط مشترك مع أي جامعة إسلامية لا داخل الوطن ولا خارجه لأن وظيفتها كما يقول الشرفي:"تتمثل في الدعـوة وفي تقديم الدين وتفسيره بحسب ثوابته" في حين تتمثل وظيفة المؤسّسات التي يروِّج لها ومن بينها قسم الحضارة في نقض الثوابت والقيام:"بعملية تفكيكية تحليلية لا تعترف فيها بالمناطق المحرَّمة"(65).
ورغم أن ندوات الحوار الإسلامي المسيحي في تونس توقفت منذ سنة 1986 إلا أن قسم الحضارة بمنوبة ما زال مصرًّا على علاقاته بالكنيسة من خلال المشاركة في نشاطات بعض الدوائر المسيحية بنشر المقالات وحضور الندوات وغير ذلك، وقد فوجئ الشرفي ومن لفَّ لفـَّه سنة 2007 بنشر محمد الطالبي لكتابه الوثيقة الذي صاغ فيه خلاصة تجربته إذ سحب البساط من تحت أقدامهم بقدر كبير من الهدوء والعقلانية والموضوعية فأثار حنقهم ولاذ أغلبهم بالصمت سلاح العاجزين، ما يهمّنا في كتاب الطالبي شهادته فيما يتعلق بالحوار الإسلامي المسيحي وهي شهادة من عارف ومن أحد أبرز وأنشط الداعين والمساهمين فيه، يقول الطالبي في تواضع وصدق نحسبهما من صفات العلماء الذين لا يستنكفون من العودة إلى الحق إذا تـبـيَّـن لهم:"والمسيحية تميّزت على كلّ الأديان بالإكراه على الدخول فيها بكلّ الوسائل وكلها غير شريفة... المسيحية مبنية في كتابها المقدس على إنكار الحرية وعلى الإكراه في الدين وتبرير العنف والنصوص التوراتية والإنجيلية القطعية الشاهدة بذلك عديدة... مع العلم أن الكنيسة الكاثوليكية لم تتخل عـن عقيدتها القائلة بمشروعية وبضرورة الإكراه في الدين واللجوء إلى العنف... إلا سنة 1964... عن مضض وامتعاض وبعد جدل عنيف... المسيحية هي الدين الوحيد الذي أقرّ لاهوتيا بنص الأناجيل الصريح شرعية الإكراه على الدخول فيه بالسيف وبالنار"(66) وفي كتابه الصادر مؤخرا بالفرنسية عن غزة يذهب الطالبي إلى القول بأننا نعيش الجولة السابعة من بداية الحرب الصليبية التاسعة ضدنا في فلسطيـن والعراق، ومن كانت له عينان فليتأمل.
الاجتهاد
فيما بين يومي 11 و12 جانفي 1986 عقد قسم الحضارة بمنوبة ندوة تحت عنوان "قضية الاجتهاد في الفكر الإسلامي"، وقد احتفى عبد الرزاق بهذه الندوة فخصّها بالإشادة والإطراء في الفصل الأخير من كتابه وقصْدُه إيهام القارئ بجدَّة ما ورد فيها وموضوعيته فيحمل بذلك تصوُّرا إيجابيا عمّا يقوم به جماعة الحضارة بمنوبة، يقول:"فالمقارنة الضمنية كفيلة بإبراز الفرق في نوعية المواضيع وطريقة معالجتها بين المختصين في دراسة الحضارة من الأكاديميين التونسيين والمثقف التقليدي أو الإسلامي عموما فلكلّ منهما مرجعيات وآليات معالجة فحين يحتفظ الأوّل بإيمانه ويظل محايدا في التحليل يسلط الثاني عقيدته ويلغي أمامها كلّ وسائل البحث العلمي والعلوم الإنسانية خاصة"(67)، فهل يصحّ إطلاق الأحكام دون تأن ورويّة ودون استبعاد للتساند الوظيفي؟ وإلى أي حدٍّ توفق جماعة منوبة فيما عرضوا في هذه الندوة من مفاهيم ؟ وهل التزموا الحدود المعرفية والعلمية في تناولهم أو عملوا على الانحراف بالمصطلحات عـن معانيها واختيار الشاذ من المرويات والأفهام لإشاعة الالتباس بين الناس؟ والأهمّ من كلّ ما ذكر هل كان عقد هذه الندوة لغاية معرفية أو أنه كان جزءًا من خطة استهدفت أيامها إقناع السلطة السياسية بأهمية الدور الذي يقوم به قسم الحضارة للقضاء على ما تبقى من الـزيتونة حاضنة الشخصية التونسية بجناحيها اللغة والدين وذلك بعد أن فشل مخطط المسعدي في تخريب هويّة كانت وما زالت عصيّة على العاقين؟.
لـن نجانب الصواب إن قلنا إن عبد المجيد الشرفي في كلّ ما نشر لحدّ الآن كان الأبرز في هذا المضمار إذ لا يخلو نصٌّ من نصوصه من القدح في الثوابت والتشكيك فيما استقرّ في الأنفس والتقاط الشارد من الأخبار والنفخ فيها بنيّة إيهام القارئ بأن ما سوَّد إنما يندرج في إطار البحث العلمي النزيه والحيادية والموضوعية.
في بحثه عـن الاجتهاد أصرَّ الشرفي على منهجه الذي ألمعنا إليه حيث عمل على القدح في المصدر الأوَّل من مصادر التشريع وذلك بالادعاء أن القرآن:"تحوَّل... إلى كتاب يحتوي على قائمة من الوصفات والأحكام الجامدة التي يتعين تطبيقها حرفيا دون البحث عـن الغاية منها أو علة سنها ومدى المصلحة المنجرة عنها بدعوى قصور العقل عـن إدراكها"(68)، والمتأمل في هذا الكلام يلحظ أن الشرفي يتحدث عـن قرآن ليس هو قرآن المسلمين الذي هو كتاب هداية ودعـوة إلى الاتصاف بالخلق الحميد والإيمان بالله ولم يأت فيه مفصّلا إلا بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرة كالزواج والطلاق والميراث... وعددها لا يتجاوز السبعين آية أو ببعض الأحكام الجنائية وآياتها في القرآن ثلاثون... وغير ذلك ممّا أفردته كتب أصول الفقه وعلوم القرآن بالبحث والإحصاء بحيث لم يتجاوز عدد آيات أحكام المعاملات 228 آية من بين حوالي 6616 آية، الأمر الذي دفع عددا من كبار الأئمة إلى القول بتناهي النصوص ولا تناهي الوقائع مشيـرين بذلك إلى أن باب النظر والاستنباط والتعقل والبحث... مفتوح ولا يمكن سدُّه لأيّ سبب من الأسباب طالما أن الوقائع متجددة. فلو كان القرآن وفق ما ادعى الشرفي من أنه"وصفات جامدة يقصر العقل عـن إدراكها" لما كُـتِـبَ له البقاء طوال خمسة عشر قرنا كاملة ولما تمكن المؤمنون به والمنضوون تحت رايته من إثراء المعرفة الإنسانية بالمشاركة في مختلف مجالاتها العلمية والأدبية والفلسفية والفنية... فقد علـَّمنا التاريخ أن الديانات والمذاهب الإنسانية التي حفظت لنفسها الدوام والبقاء إنما استندت في ذلك إلى استجابتها لعموم الحاجات الإنسانية دون قيد أو حجر وإلى شمول أهدافها وعقائدها. وبيِّن أن القصد من وصف القرآن بما ذكر يستهدف التشكيك في حجيته عند استنباط الأحكام خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن إجماع الأمة بمختلف ملـلِـها ونِحلها منعقد على أنه الدليل الشرعي الأوّل والمصدر الذي إليه تحتكم مختلف المرويات والأخبار ومن ثم تصبح العودة إليه محتمة لاستمداد الأحكام الشرعية، أما القول بأن القرآن:"يبقى سلطة مرجعية رئيسية لكن في مستوى المقاصد لا الأحكام التفصيلية، وهو موقف يقبل بالخصوص أن يتعطل العمل بهذه الأحكام على أساس أن هذا التعطيل أكثر وفاء لسياسة الإسلام التشريعية من تطبيقها دون مراعاة اختلاف الظروف التاريخية"(69) فلا يعدو أن يكون تمهيدا لدعـوة قديمة جديدة تستهدف التخلص من القرآن بعد إثارة سحب من الشك حول جمعه ونفي أن يكون مصدره إلاهيا، يقول الشرفي:"فلفظ القرآن لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته. أمّا ما جُمع بعد وفاته في ترتيب مخصوص ودوِّن بين دفتين فبقرار سياسي في عهد عثمان... أمّا المصدر الإلاهي فلا يمكن الاستدلال عليه بالوسائل العقلية..."(70).
لم تسلم السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع هي الأخرى من تقوُّل الشرفي وغمزه في صحتها يقول:"إن السنة ارتقت إلى منزلة الكلام الإلاهي"(71) مستشهدا في ذلك بنص اقـتطعه من المستصفى أورده في الهامش 20 من نفس الصفحة، كتب الشرفي نقلا عـن الغزالي:"ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة"، وبالنظر فيما ذكر نلحظ أن الشرفي:
أ) تعمَّد إسقاط تخصيص الغزالي السنة المتواترة بالتعيين لتصبح لديه السنة بإطلاق دون تقييد حتى ينسحب حكم السنة المتواترة على المشهور منها والآحاد، ومن المعلوم أن السنة المتواترة هي السنة القطعية الورود أي ما رواه عـن الرسول (ص) جمع يمتنع عقلا وواقعا تواطؤهم على الكذب ومـن هذا القسم السنن الفعلية كالصلاة والحج وغيرهما، أمّا السنن القولية المتواتـرة فلم يثبت منها إلا أقل القليل فالتدقيق في هذه الحالة حتمي وضروري منعا للالتباس لأن السنن القولية المشهور منها والآحاد تبقى دائما ظنية الورود الأمر الذي يُبقي الشك حولها قائما، والمتأمل في الأحاديث التي يُستشهد بها يلحظ دائما أنها مصحوبة بوصف يلائم درجة صحتها فهي إما صحيحة أو حسنة أو ضعيفة وقد وصل التشدّد في الاحتياط بعلماء المصطلح أن قسموا الأحاديث الضعيفة إلى أنواع منها المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والمنكر والمضطرب كما أفردوها بالدرس فضبطوا علاماتها وأسبابها ممّا هو مفصّل في كتب الموضوعات والوضاعين. فالتلبيس وإضاعة التخوم بين المصطلحات يستهدف تخريب المفهوم ذاته، ولسائل أن يسأل الشرفي وفق ما ذهب إليه هل يصحّ أن يُعدّ "حديث الذبابة" في مرتبة الكلام الإلاهي؟.
ب) اقـتطع جزءًا من فكرة متكاملة على طريقة ويل للمصلين، قال الغزالي:"ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كلّ واحد منهما يفيد العلم القاطع ولا يتصوَّر التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا، فما وجد فيه نصّ كتاب أو سنة متواترة أخذ به"(72) ولأن عبد المجيد الشرفي لا يفقه قـراءة النصوص التراثية توهّم أن الشاهد عام يشمل كلّ المواضيع ولم يتفطن إلى أن الغزالي قصر حديثه على القطعيات السمعية فقط ويقصد بها ما لا يتحقق العلم به إلا عـن طريق السمع والنقل أي العقيدة والعبادات ويضيف الإمام الجويني قائلا:"ويتصل بهذا القسم عندنا جملة أحكام التكليف وقضاياها من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر والندب والإباحة"(73).
وتستمر رحلتنا مع هذا الأسلوب العجائبي في البحث حيث وصل الأمر بالشرفي إلى حدود ليِّ عنق الوقائع والحقائق التاريخية إذ يدعي:"بروز صنف من المسلمين اعتبر مؤهلا دون عامة المؤمنين للتشريع باسم الله واعتبرت الأحكام التي يصدرها شريعة إلاهية لا يجوز ردها أو معارضتها... فأصبحوا بذلك يقومون بوظيفة كنسية غير معترف بها في مستوى التنظير ومقبولة في مستوى الواقع والممارسة اليومية... وما حصل بالفعل تاريخيا هو ارتقاء أحكام الفقهاء الأوائل وخاصة أصحاب المذاهب إلى مستوى المقدسات..."(74)، ولنا على هذا الكلام جملة من الملحوظات نلخِّصها فيما يلي:
1) لم نعثر فيما هو بين أيدينا من وثائق ونصوص أن هنالك من ادّعى لنفسه أو لغيره (التشريع باسم الله) فالفتاوى والأحكام تختم جميعها بعد الدعاء بقول (والله أعلم) الأمر الذي يعني أن باب القبول أو الرفض مفتوح لكلّ من يأنس في نفسه القدرة على ذلك.
2) يجب التفريق بين أهل السنة والشيعة فيما يخصّ مسألة الإمامة إذ يعتبرها الشيعة أصلا من الأصول العقدية التي لا ينعقد الإيمان إلا بها، تبعا لذلك اكتسب المهدي المنتظر أو من ينوبه صفة العصمة التي تظهر في طاعة المقلدين العمياء للمجتهد الذي يسمى عادة آية الله، أما لدى أهل السنة فلا عصمة لأحد بعد الرسول (ص) فكلنا راد ومردود عليه.
3) الأحكام التي يصدرها الفقهاء هي آراء أهل الاختصاص فإن كان الدين مفتوحا من ناحية الإيمان به والاعتقاد فيه إلا أنه عند البحث والدرس يحتاج إلى معرفة وإلمام عميقين بمناهجه وآلياته ومصطلحاته وأدلته وهو أمر غير متاح للعموم شأنه في ذلك شأن سائر المعارف والفنون كالطب والهندسة وقرض الشعر... ومن ثم فإن الادعاء بوجود قداسة لا يقوم على أساس من النظر الصحيح.
4) إن تعدّد المذاهب الفقهية وتنوّع الاجتهادات داخل المذهب الواحد دليلان على أن القدسية المزعومة منعدمة تماما فالمسألة الواحدة يتناولها أصحاب المذاهب وتلامذتهم بالتقليب والتمحيص ليخلصوا بعد ذلك إلى أحكام ونتائج مختلفة حتى داخل المذهب الواحد فقول الشرفي بأن الأحكام التي يصدرها المجتهد شريعة إلاهية لا يجوز ردّها أو معارضتها مردود تُكذبه الوقائع والأحداث وطبيعة الاجتهاد ذاته فقد حفلت كتب الفقه بأحكام وفتاوى لا عدّ لها ولا حصر ممّا تنوّعت فيه الاجتهادات حتى داخل المذهب الواحد ولعلّ كتاب "اختلاف الفقهاء" للطبري الدليل البيِّن على صحّة ما ذهبنا إليه، ومن الأمثلة المشهورة أن ابـن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة العمدة في المذهب المالكي اقـتـنى كلبا للحراسة مخالفا بذلك ما أثر عـن مالك من كراهية ذلك فلمّا لامه من لامه على مخالفته لإمام المذهب قال لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسدا ضاريا. والأمثلة على ما ذكـرنا تندّ عـن الحصر نكتفي بإيراد مثال للاختلاف بين الإمام أبي حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومحمد بـن الحسن حول ملكية الأرض الموات بعد إحيائها على سبيل الذكر من ناحية ولِما تحمل هذه العينة من دلالات غاية في الأهمية من ناحية أخرى فـ:"لو أمر الإمام رجلا أن يعمر أرضا ميتة على أن ينتفع بها ولا يكون له الملك فأحياها لم يملكها عـنده لأن هذا الشرط صحيح عند الإمام وعندهما (تلميذيه) يملكها ولا اعتبار لهذا الشرط"(75).
بعد توهُّم الشرفي أنه بما ذكر ألغى الدليلين الشرعيين النقليين الذين يقوم عليهما الاجتهاد أي القرآن والسنة التفت إلى الإجماع فأثار حوله بعض الشكوك التي نقلها من المناقشات التي دارت بين علماء الأصول حول انعقاده ومدى حجيته وشروطه أما القياس فقد استند في ردِّه إلى المذهب الظاهري معتبرا أنه:"إذا ما تحققت هذه الشروط فإن المعركة حول الاجتهاد ستنتهي ويحلّ محلها الاجتهاد ذاته كممارسة يومية حرة مسؤولة تلبي حاجات المسلم الروحية وتنقذه من حالة الفصام التي ما انفك يعانيها منذ أفاق على عصر سريع التغير يأبى التحجر والدغمائية ويتوق إلى تحقيق إنسية الإنسان بعيدا عـن الوصاية وفي مواجهة شجاعة لمنزلته ومصيره"(76) ليتحوَّل بذلك الاجتهاد من استفراغ الجهد لدرك الأحكام الشرعية إلى بيان عام غير منضبط لأي قاعدة أصولية قابل لرفعه شعارا لأي حزب أو مذهب سياسي في أي مكان وفي أي زمان، ومن المعلوم أن تعويم المصطلحات والقضاء على محدداتها أسلوب يُلجأ إليه لإشاعة الفوضى الفكرية وتشويش الرؤية وخلط الأولويات.
إنْ تعمّد الشرفي فيما ذكرنا أعلاه تخريب مفهوم الاجتهاد لـ:"ردِّ الناس عما اعتقدوا وفطامهم عـن المألوف"(77) فإن المرحوم محمد الصالح المراكشي لم تسعفه أدواته عـن مجاراة زميله فوقع في حيص بيص وخبط خبط عشواء من ذلك قوله:"فالاجتهاد إذن في عصر الحديث (كذا) بصورة خاصة يرمي إلى خدمة مصالح المسلم الحيوية في عالم الصناعة والتقنية والمواصلات السريعة"(78) وهو ما نقله عنه الحمامي في أطروحته بعلاته قائلا إن المراكشي:"قرن الاجتهاد بالحداثة" حيث وقع الاثنان في أخطاء معرفية لا تغتفر إذ لا علاقة بين الاجتهاد والحداثة لأنهما ينتميان إلى حقلين معرفيين مختلفين من ناحية الوسائل والأهداف فالاجتهاد:"هو بذل الوسع لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية"، أما الحداثة فهي:"مجموع الكيفيات التي يسلكها الفكر والمجتمع في النظر إلى التحول الاجتماعي الحادث وفي التغيير السياسي الضمني أو الصريح"(79) ومن ثم فإن القول في التحديث مستند إلى قائله هدفه التغيير الاجتماعي أما الاجتهاد فمستند إلى الأدلة هدفه كشف الحكم الشرعي هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ذهب المراكشي وتبعه في ذلك الحمامي إلى القول بأن:"رشيد رضا رفض الاجتهاد الحرّ الذي لا يستند إلى الأدلة الشرعية النقلية الواضحة من الكتاب والسنة"(80) وهما بهذا الكلام يكشفان عـن جهل فاضح بمصطلح الاجتهاد الذي يتحدثان عنه لأن الاجتهاد إما أن يكون مطلقا فيكون صاحبه صاحب مذهب أو أن يكون مُقيدا فيكون اجتهادا داخل المذهب أمّا الاجتهاد الحرّ الذي لا يستند إلى الأدلة الشرعية فليس اجتهادا أصلا.
ومن نوادر المراكشي التي وافقه فيها الحمامي قوله إن رشيد رضا:"يقبل أصل الاجتهاد في ما تعلق بالمعاملات الدنيوية فقط ويطرح ميدان العقيدة والعبادات جانبا باعتبارها كما يقول الأب جوميي الفرنسي في كتابه المعروف عـن تفسير المنار مساحة مقدسة وحرام لا يمكن إعمال الرأي فيها لأن حيزها سلطة الله تعالى مطلقا"(81) وقد تساءلت منذ قـرأت هذه الجملة ما الداعي للاستشهاد بالأب جوميي في مسألة معلومة يعرفها كلّ من درس الاجتهاد أو كانت له بالفقه وأصوله علاقة ذلك أن العقيدة والعبادات تسمى علوما نقلية العلم فيها متوقف على السمع ولا محلّ فيها للاجتهاد أو إبداء الرأي فالأصل هنا الإتباع لا الابتداع من ذلك أن الرسول(ص) حدّد كيفية الصلاة وشروطها وأركانها وأوقاتها وما على المؤمن إلا القيام بها دون تزيُّد أو تغيير أو إنقاص وكذا العقيدة إمّا أن يؤمن بها الإنسان أو يكفر لهذا السبب بالذات خرجت السمعيات من مجال الاجتهاد.
في الفقرة التي خصّصها المرحوم المراكشي للحديث عـن فتاوى رشيد رضا في مجال المجتمع ذهب إلى القول بـ:"انعدام الاجتهاد العميق في المسائل الاجتماعية عند رشيد رضا... فهو لم يُجوِّز البتة تعاطي الشبان البغاء لإشباع حاجات جنسية ظرفية وماسة قبل الزواج وإن كان ذلك سرًّا وفي حدود الآداب العامة... دون بحث تحليلي مستفيض عـن معاني الزناء (كذا) وظروفه المختلفة والحالات الضرورية له وموجباته المنطقية في بعض الأحيان لحفظ المجتمع من فساد أشد وأكبر"(82) هذه الفقرة العجيبة أغـفـل الحمامي ذكرها لأنها تحمل دعـوة إلى إشاعة الزنا والفاحشة ممّا يقع تحت طائلة المساءلة القانونية إلا أنه ذهب إلى ما هو أبعد وأشمل حيث تساءل:"إلى أي حد راعى (رشيد رضا) قاعدتي الضرورة والمصلحة في مستوى الاجتهاد التطبيقي الذي تبلور في فتاويه"(83) وهما القاعدتان اللتان لم يتوقف المراكشي عـن الإشارة إليهما منذ البداية معتبرا أنهما:"قاعدتان كبريان يرتكز عليهما الدين الإسلامي عندنا"(84) ونرجح أن هذه العندية لا تنصرف إليه فقط بل إلى جماعة منوبة كذلك، فهاتان القاعدتان لدى المراكشي والحمامي منفلتتان من أي عقال حيث لم تلتزما الضوابط التي وضعها الأصوليون حتى لا تكون الفتوى في غير محلها فبالنسبة للضرورة اشتُرط فيها أن تكون متفقة مع ضوابط الشارع وأن تكون محققة لا متوهّمة وألا تؤدي إزالتها إلى ضرورة أكبر منها وألا يترتب على إزالتها إلحاق مثلها بالغير وأن تقدر بقدرها(85) أمّا المصلحة فقد اشترطوا فيها أن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية وأن تكون عامة لا خاصة وأن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما أو مبدأ ثبت بالنظر والإجماع(86) وفي المسألتين تفصيل يستحسن العودة إليه في المراجع المذكورة أدناه. هذه الشروط غابت بامتياز في مقال المراكشي وتبعه في ذلك الحمامي حيث وصل بهما الأمر إلى الحديث عـن"الاجتهاد الجريء"(87) و"الاجتهاد الحر"(88) و"الاجتهاد التطبيقي"(89) و"الاجتهاد العقلي"(90) و"الاستقباح"(91) وهو مصطلح جديد من مبتكرات جماعة منوبة وضعوه في مقابل الاستحسان.
أما صديقنا الباجي القمرتي فقد اختلطت المسائل لديه حيث تحدث عـن التجديد الديني وفق ما دعا إليه حسن حنفي متوهِّما أنه يتحدث عـن الاجتهاد، فبالكثير من التأنق في الكتابة والتصنع في اختيار مفرداتها أورد الباجي مجموعة من المؤلفات سماها "مدوّنة" استغلها فيما سوّد واللافت للنظر أن أصحابها ليس من بينهم أي مجتهد أو أصولي فمحمد إقبال شاعر وفيلسوف تجوُّزا وسيد قطب ويوسف القرضاوي ومحمد الغزالي ومحسن عبد الحميد رجال سياسة وإن اشتهر بعضهم بغزارة إنتاجه في الفكر الديني أما المرحوم الشيخ الدكتور محمد سعاد جلال فأصولي له بعض الفتاوى والدراسات التي نشرها في "الكاتب" و"الهلال" المصريتين، أصدر في حياته كراسا صغيرا عـن الاجتهاد استله من كتاب آخر له في الفقه وأصوله طبع طبعة رديئة لم توزع، فالمدوّنة التي اعتمدها الباجي جميعها لا علاقة لها بموضوعه باستثناء كراس الشيخ محمد سعاد جلال.
هذا المقال أعاد سي الباجي نشره في سلسلة موافقات التي كانت تصدر عـن وزارة الثقافة في 166 صفحة بعد أن كان 30 صفحة فقط حافظ فيها على النص الأصلي وألحق به عددا من النصوص ليس من بينها أي نص لأي واحد من المدوّنة التي اعتمدها، كما غـيَّـر العنوان الذي أصبح "الاجتهاد وعلاقته بالخطاب الديني المعاصر" بعد أن كان "الخطاب الديني المعاصر وصلته بالاجتهاد" وهو تغيير لم يوضِّح أسبابه ولا الغاية منه.
أورد الباجي دعـوة القرضاوي إلى إعادة النظر في تراثنا الفقهي العظيم بمختلف مدارسه ومذاهبه متوهِّما أن الرجل بصدد تعـريف الاجتهاد مستنتجا أنه:"يشحن التعـريف بمضمون نقدي"(92) وغاب عنه أن كلام القرضاوي يدخل في باب العموميات التي تستهدف أنصاف المتعلمين والمراهقين الفكريين الذين يتصوّرون أن إثبات الذات يمرّ حتما عبر القدح في الثوابت والتشكيك فيها الذي يكون في أغلب الأحيان في غير محله، إلى هؤلاء يتوجه القرضاوي بكلامه أما تعـريفه للاجتهاد فلم يخرج فيه عمّا ذكر الدكتور جلال ونصّه في كتابه "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية".
في نفس السياق أورد الباجي نصًّا لحسن حنفي نقله مـن أحد كتبه متوهّما أنه متعلق بالاجتهاد قال:"فدور الاجتهاد في معناه الشامل تأسيس لإيديولوجية إسلامية في مقابل الإيديولوجيات المعاصرة لتغيير الواقع شعارها لا سلطان إلا للعقل ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه ومنهجها عقد الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع في علاقة هذين بالوحي باعتباره مصدر التشريع ثم هو دراسة فقهية يقوم بها فقيه في الحضارة الإسلامية ككلّ وليس في الفقه وحده"(93) والحال أن حسن حنفي في هذه الفقرة يتحدث عـن التجديد الديني وإن ورد لفظ الاجتهاد أعلاه ففي معناه اللغوي لا الاصطلاحي يدلّ على ذلك أنه:
ـ تحدث عـن الاجتهاد في مقابل الإيديولوجيات المعاصرة، فما دخل الاجتهاد الشرعي في الاشتراكية الوطنية أو الوجودية أو الوضعية أو الشيوعية أو القومية؟.
ـ ربط الصلة بين العقل والواقع والوحي وهذه مسألة فكرية نظرية لا علاقة للاجتهاد الشرعي بها وهو الاجتهاد الذي عرّفه حنفي بما هو متداول في كتب الأصول يقول:"وفي الاصطلاح هو بذل الجهد في طلب العلم بأحكام الشريعة"(94) واللافت للنظر أن الباجي أفرد مسألة العقل بجمل أنيقة ختمها بالتساؤل التالي:"إلى أي حدّ يمكن التأسيس العلمي والنظري بالاعتماد على العقل الاعتزالي أو العقل الفقهي؟"(95).
ـ ختم حنفي كلامه بالحديث عـن الحضارة الإسلامية ككلّ وليس الفقه وحده وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يتحدث عـن الاجتهاد الشرعي بل عـن التجديد الديني.
إلا أن سي الباجي مصرٌّ على خلط المسائل في بعضها البعض وعلى تقديم النصائح للقارئ عند تناوله قضية الاجتهاد قائلا:"فلا تحصرها في باب التشريع وإنما تلج بها ميدان العقيدة لتؤسسها من جديد من منطلق العزوف عـن الفهم الماورائي للنصوص وبالتالي بغية تأسيس لاهوت انتروبولوجي وكأنما الاجتهاد اصطلاحا لا يكون إلا في ضوء طرح للمسألة العقائدية من منطلق يفرضه الواقع اقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا بمقـتضى حضور القرآن والسنة أصلين ثابتين في عملية الاجتهاد على أن الأمر يبقى محكوما بنمو الفهم المفروض من الواقع ضمن نظام الاعتقاد ذاته"(96) والمستفاد من هذا الكلام أن سي الباجي يدعو إلى إلغاء كلّ ما هو غيبي وتأسيس عقائد جديدة يفرضها الاقـتصاد والاجتماع والمعرفة التي تشمل من بين ما تشمل القرآن والسنة باعتبارهما أصلين ثابتين في عملية الاجتهاد.
هذا الخليط العجيب من الرؤى والأوهام والأخطاء يشيد به الحمامي قال:"وقد توصّل الدارس (وقصده صديقنا سي الباجي)... بعد أن تدرج من العام إلى الخاص... إلى وضع الخطاب في سياقه الموضوعي والإحاطة بأهم وظائفه وضبط أهم مشكلياته وأطروحاته وفق منهجية حيادية صارمة"(97).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: