أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3616
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نشر الأستاذ هشام قريسة في جريدة الصباح يومي 23 و30 سبتمبر 2018 مقالا نقد فيه ما جاء على لسان الأستاذ عميرة علية الصغير في حديث إذاعي له حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، في ردّه استغل الأستاذ قريسة جملة من الوقائع والأحداث والمفاهيم لتعضيد موقفه المناهض للتقرير وقد وصل به الأمر إلى صبّ جام غضبه وكيلِ سيلٍ من الاتهامات والسباب والشتائم على خصومه من اليسار والحداثيين وغيرهما، وحتى يقنع القارئ بصحة ما يعتقد التجأ السيد هشام إلى تأويل النصوص بغير ما تسمح به اللغة والانحراف بالأحداث عن غير سياقها الذي جرت فيه، لذا لم يكن هنالك بدّ من التدخل لتصحيح ما يجب تصحيحه ورواية الأحداث على صيغتها الحقيقية نصرة للحق ودفاعا عن الزيتونة ممّا أصابها من لوث العداوات السياسية التي جعلت منها أداة يتقاذفها الخصوم.
الزيتونيون ومجلة الأحوال الشخصية
يعمل البعض من خصوم دولة الاستقلال على نشر فرية تتمثل في القول بأن الزيتونيين اعترضوا على إصدار مجلة الأحوال الشخصية دون أن يقع تنسيب الأمر، فالزيتونة فضاء ثقافي أفرز لنا قادة التنوير بما تركوا من كتب ما زالت لحد الآن محلاّ للدرس كتبها الحداد والثعالبي والشابي والفاضل ابن عاشور وغيرهم كما أفرزت هذه المؤسّسة العريقة البعض من المتحجرين ممن وقفوا سدًّا يمنع أي تطوير طواهم النسيان، فالقول بأن الزيتونيين بإطلاق وقفوا ضد المجلة قول غير دقيق لأننا نجد أن أهمّ قامتين علميتين دينيتن في البلاد أقصد المنعمين المبرورين الشيخين محمد العزيز جعيط ومحمد الطاهر ابن عاشور كانا حاضرين أثناء حفل الإعلان عن إصدار المجلة وكانا الوحيدين الجالسين حول الزعيم وهو ما يعني مباركة الشيخين للمجلة باعتبارها اجتهادا مندرجا ضمن المنظومة الفقهية الإسلامية فلو كان الأمر وفق ما يذهب إلى ذلك خصوم المجلة اليوم لاعترض الشيخان وهما اللذان أثبتا في واقعة الإفطار في رمضان استقلاليتهما عن السلطة الجديدة بمعارضتها وهي في عزّ قوَّتها بعد انتصارها الذي حقق الاستقلال، ضمن نفس الإطار ذهب الأستاذ قريسة إلى الاستشهاد ببيان لبعض الشيوخ نُشر في جريدة الاستقلال(1) قائلا:
"نشر ثلاثة عشر عضوا من المجلسين الشرعيين المالكي والحنفي فتوى في رفض هذه المجلة، فماذا فعل بورقيبة نحّاهم وأحالهم على التقاعد وعلّل ذلك ليُبس في المخّ"(2) والصحيح أن الشيوخ الذين أمضوا البيان منهم من كان متقاعدا قبل الاستقلال ومنهم من تقاعد أيامها لأنهم جميعهم من مواليد أواخر القرن التاسع عشر، ستة منهم انتقلوا إلى وظائف أخرى بعد توحيد التعليم وهم الشيخ الهادي بلقاضي أصبح مستشارا في التعقيب إلى أن تولى سنة 1970 خطة الإفتاء بعد وفاة الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور والشيخ علي بلخوجة كان متقاعدا وبقي إماما لجامع صاحب الطابع إلى وفاته أما الشيوخ أحمد بن ميلاد وعبد العزيز بن جعفر وأحمد المهدي النيفر والحطاب بوشناق فقد انتقلوا للتدريس في كلية الشريعة وأصول الدين وبعضهم درست لديه رحمهم الله جميعا وهو ما يثبت أن الزعيم لم يتعامل مع الشيوخ إلا بما تقتضي اللياقة وبعيدا عن التشفي وعلى غير ما يشتهي الأستاذ قريسة من ذلك أن الشيخ البشير النيفر وهو أحد الممضين على البيان درّس الحبيب بورقيبة في الصادقية ومن المأثور عن أسلافنا أنه كان يحمل تجاه شيخه كامل الإجلال والتقدير وهنالك صورة للزعيم في بيت الشيخ النيفر يظهر فيها هذا الأخير جالسا صحبة الشيخ الطيب سيالة أحد الممضين والزعيم واقف أمامهما، أما الفرية التي يروّجها خصوم دولة الاستقلال بالقول أن بورقيبة نكّل بالزيتونين فمكذوبة وليس لها ما يسندها فيما هو بين أيدينا من وثائق، فبعد أن عُيِّن محمود المسعدي وزيرا للتربية شنّ حملة اجتثاث لكل ما هو زيتوني وقد وصل به الأمر إلى حدود من الإسفاف لا نظير لها إذ أصر مثلا على إزالة اسم الحي الزيتوني الذي كان موجودا على الباب(3) هذا فضلا عن التنكيل والإذلال الذي تعرّض له الزيتونيين وقد روى الكثير منهم ما تعرّض له من عسف من طرف المسعدي في شهاداتهم على تلك الفترة(4) وقد وصل به الأمر إلى حدود وصف تقاعد شيوخ الزيتونة بالانقراض بما يحمل ذلك من مشاعر الحقد والضغينة جاء في الفصل الثالث من القانون الأساسي لأعضاء التعليم العالي: "يستمر رجال التعليم المباشرون بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين والمنتمون إلى الإطارات الزيتونية السائرة في طريق الانقراض في الخضوع إلى أحكام القانون الأساسي الخاص بهم إلى ذلك الانقراض"(5)، هذه السياسة التي انتهجها المسعدي لم تكن سياسة دولة بل سياسة فرد يحمل ضغينة وكراهية تجاه الزيتونة وأبنائها والدليل على ذلك أن وزراء آخرين في نفس الحكومة لا يحمل نحوهم الزيتونيون إلا كل الاحترام والتقدير لأنهم لم يشاهدوا منهم سوى التقدير والاحترام كأحمد بن صالح والشاذلي القليبي وأحمد المستيري حفظهم الله فلو كان التنكيل بأمر من الزعيم أو سياسة دولة لما نجا منه زيتوني واحد ومما يثبت هذا الذي ذهبنا إليه أن الزعيم رفض التدخل لمنع علي المعاوي من الحصول على سكن رغم أنه زيتوني ومتهم بالمشاركة في مؤامرة 1963 قائلا: " فكو عليا.... تحبوني نبقى نتبع فيه على الخرب"(6) هذا العداء الذي يحمله المسعدي للزيتونة انتقل إلى عبد القادر المهيري الذي وقف سدا لمنع أي زيتوني من التدريس في كلية الآداب وهو ما حدث مثلا مع عمر بن سالم والمنجي الكعبي، عداء انتقل إلى قسم من تلامذة المهيري حيث وصل الأمر بأحدهم إلى إعداد "أطروحة" خصّصها لشتم وتسفيه الزيتونيين جميعهم بلا استثناء.
الشيخ محمد المختار بن محمود
حتى يثبت الأستاذ قريسة عداء بورقيبة للزيتونيين استشهد بوضع الشيخ المختار بن محمود في مستشفى الأمراض العقلية بمنوبة موحيا بأن ذلك يندرج ضمن التنكيل بالزيتونيين المعارضين لدولة الاستقلال، واللافت للانتباه أنه استل الواقعة من سياقها التاريخي وقدمها للإيحاء بالمقدمة التي يُجهد نفسه على تثبيتها، اشتهر الشيخ بأنه لا يتخلف عن النشاطات الأدبية والفنية إما محاضرا أو مناقشا وفي الكثير من الأحوال معلقا على هذا الطرف أو ذاك بنكتة أو تعقيب طريف ويحفظ له عارفوه نوادر كثيرة ففي واحد من الاحتفالات التي كان يشرف عليها بورقيبة في ليلة القدر قدّم الشيخ محمد العزيز جعيط خطابا حول السياسة الشرعية، وفي تعليق للشيخ بن محمود على بعض ما ورد في المحاضرة قال "هذا يسمى الحياد الإيجابي" فضحك الحضور ولكن بورقيبة لم ينتبه غير أن بطانة السوء تكفلت بإيغار صدره على الشيخ مستغلين في ذلك الخلاف المحتدم بين بورقيبة وعبد الناصر فأمر بإيقاف الشيخ ليتم نقله إلى مبنى وزارة الداخلية ومنه إلى مستشفى منوبة وقد دام الإيقاف أياما معدودات ليطلق سراحه دون أي تتبعات أو عقوبات، ومن المعلوم أنه لم يكن للشيخ ولع بالسياسة بل كان إلى الآداب والفنون أقرب هذه الرواية سمعتها من السيد الوالد محمد الصغير الشابي رحمه الله ووجدت ما يشبهها لدى الأساتذة إبراهيم شبوح وعلي الشابي والبشير البكوش حفظهم الله.
الناقصات عقلا ودينا
ذهب الأستاذ قريسة إلى تفسير ناقصات عقل ودين تفسيرا خرج بالألفاظ عن معانيها التي تواضع عليها الناس حيث يقول إن نقص العقل يقصد به الشهادة ونقص الدين خاص بالصلاة والصوم، هذا التأويل المتعسف لا يصمد أمام حقائق اللغة وثوابت الدين فلو كان ما تعلل به الأستاذ صحيحا عند ربطه الصلاة والصوم بالحيض والنفاس لمَا منع المشرّع المرأة من تولي القضاء أو الإمامة الكبرى وهي وظائف لا علاقة لها لا بالحيض ولا بالنفاس ولكنها منعت لأسباب أخرى سوف نأتي عليها فيما يلي، أما تعليله شهادة المرأة وتعضيدها بأخرى في الجنايات لرقة في طبعها فهو تعليل متهافت لأننا نجد أن الشهادة في الزنا مقصورة على الذكور الأربعة ولا تقبل من المرأة، هذا التأويل المتعسف بوهم الرفع من شأن المرأة لا يصمد فالنصوص وكتابات الفقهاء عصيّة على التغيير ولو بطريق التأويل، كتب عبد القادر عودة الإخواني وأحد أبرز الدارسين القانونيين في منتصف القرن الماضي: "من حقّ الزوج في الشريعة الإسلامية أن يؤدّب زوجته إذا لم تطعه فيما أوجبه الله عليها.... كمقابلة غير المحارم وترك الزينة والخروج دون إذن وعصيان أوامر الزوج وتبذير ماله... ويصحّ أن يكون التأديب باليد وبالسوط وبالعصا"(7) وذهب باحث آخر عند حديثه عن شرط الذكورة الذي يجب توفّره في رئيس الدولة بالقول: "وقد اتفق سلف هذه الأمة وخلفها على أنه لا يجوز للمرأة أن تلي رئاسة الدولة الإسلامية لقوله صلى الله عليه وسلم (ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) فالرجال مقدمون على النساء والرجل أقدر من المرأة وأكفأ وهو مقدم عليها وإجازة تولي المرأة الرئاسة العامة للدولة تقديم للمرأة على الرجل وقد أخرها الله عنها... كانت البيعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم للرجال كلاما مصحوبا بالمصافحة.... وكانت بيعة الرسول صلى الله عيه وسلم للنساء كلاما دون مصافحة"(8) أما ما ذهب إليه الأستاذ قريسة في حديثه عن المرأة الأم والأخت والزوجة وغيرها فلا يعدو أن يكون إسهالا لفظيا وإنشاء لا غنى فيه لأنه صادر عن إكراهات التطور الحضاري الذي لم يعد يقبل الوضع الدوني للمرأة في نصوص تراثية تجد من يروّج لها اليوم بعد تأويلها والانحراف بها عن معانيها وانتقاء ما يلائم ويستساغ منها.
عن اللواط وإتيان الدبر
في آخر مقاله تحدث الأستاذ قريسة عن ممارسات جنسية مختلفة كاللواط والإتيان من الدبر في اتجاه التجريم والتشنيع، ولي على ما ذكر جملة من الملحوظات أوردها فيما يلي:
1) عن إتيان الدبر قال عبد القادر عودة: "ومن المتفق عليه أن إتيان الزوجة في دبرها لا يعاقب عليه بعقوبة الحدّ لأن الزوجة محل للوطء ولأن الرجل يملك وطء زوجته"(9) الأمر الذي يعني أن فقهاءنا يذهبون إلى أن الإتيان من الدبر ليس بالجريمة التي يعاقب عليها ما دام المحلّ غير محرّم ولا يصبح هذا الإتيان جريمة إلا إذا كان محل الوطء محرّما مخالفين بذلك ما ذهب إليه الأستاذ قريسة من فهم لا يتسق مع الثابت من أقوال الفقهاء.
2) القول بأن القبل لدى المرأة والرجل موضع للذّة والأدبار مخرج النجاسة ليرتب على ذلك نتيجة ما أتى الله بها من سلطان وليستنتج أن اللواط أو إتيان الدبر يخالف الفطرة الإنسانية، وهو قول فاسد فالقبل هو الآخر مخرج للبول والبول نجاسة وكذا القيء من الفم إن تغيّر ريحه، لذا لا وجه لارتباط اللذة بالقبل أو بالدبر.
3) تشنيع وتجريم الأستاذ قريسة لممارسة اللواط واعتبارها جريمة مخالفة للفطرة قول يخالف ما دأب عليه فقهاؤنا القدامى من سعيهم إلى التستر على الممارسات الجنسية جميعها حفاظا على الكرامة الشخصية والخصوصية الفردية فاللواط مثلا لا يثبت إلا بالإقرار أو بشهادة الشهود ويشترط فيه ما يشترط في شهود الزنا كأن يكونوا أربعة ذكور عاينوا العملية معاينة المِرْوَد في المكحلة فلو قال أحدهم تعمّدت رؤية الفرج لا تقبل شهادتهم جميعا لإقرارهم على أنفسهم بالفسق لأن النظر إلى عورة الغير عمدا فسق، وتكون شهادتهم في مجلس واحد ولو حدث اختلاف في الزمان أو المكان أو تراجع أحدهم عن شهادته اتهم الجميع بالقذف وأقيم الحدّ عليهم، ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الشروط يستحيل أن تجتمع إلا في الأفلام الإباحية وحتى بالنسبة لهذه الأفلام لا يعتد بها لإقامة الحد، الذي يهمّنا من كل ما ذكر أن عقوبة اللواط في الشرع أحاطها الفقهاء بجملة من الشروط التي تمنع إقامتها منعا مطلقا وتستهدف الحفاظ على كرامة المؤمن وحرمته الجسدية ممّا يمكن أن يشينها فأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة وهو ما يخالف تماما ما يدعو إليه السيد هشام من تشدّد في غير محله وفي غير ما عليه سمت الفقهاء من سماحة وحسن فهم ودراية بالنصوص ومآلات الأمور.
ذكرني هذا التشدد واليُبس الذي عليه الأستاذ قريسة برأي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في الغلوّ وفي الذين شدّدوا على أنفسهم رغم سماحة الشرع يقول: "فالغلو في الغالب يبتكره قادة الناس ذوو النفوس الطامحة إلى السيادة أو القيادة بحسن نيّة أو بضدّه إفراطا في الأمور وذلك إمّا بداعية التظاهر بالمقدرة وحبّ الإغراب لإبهات نفوس الأتباع وتحبيذ الانقياد..... وإما بداعية إرضاء ما في نفس المبتكر أو نفوس من حوله من حبّ تقليد الغير أو حب الإكثار والزيادة والتفريع في الأمور المستحسنة لديهم فإن النهم في المحبوب من نزعات النفوس"(10).
-------------
الهوامش
1) "الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري" للشيخ محمد بن يونس السويسي، أطروحة لنيل الدكتوراه سنة 1986، ج2 ص772، نشرت الأطروحة مؤخرا بعد أن استولى عليها لص وسرق منها جهد الشيخ ونشره في كتابين عن فتاوى الشيخين العزيز جعيط والطاهر ابن عاشور ادعى أنهما من تأليفه وقد نشر الشيخ محمد السويسي في ذلك حديثا في جريدة الصباح بتاريخ 25 جانفي 2013 ومقالا مطوّلا في جريدة الوقائع في العددين 68 و70 شهر جانفي 2013.
2) الصباح بتاريخ 23 سبتمبر 2018.
3) "ذكريات عصفت بي" الحبيب نويرة، دار سراس للنشر تونس 1992، ص109.
4) انظر في ذلك كتابي "إنصافا للزيتونة والزيتونيين" دار نقوش عربية، تونس 2011.
5) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، العدد 5 لسنة 1963.
6) "ذكريات وخواطر" علي المعاوي، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2007، ص743.
7) "التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي" عبد القادر عودة، دار إحياء التراث العربي بيروت 1985، الطبعة الرابعة بيروت 1985، ج1 ص513 و516.
8) "النظام السياسي في الإسلام" الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، الطبعة الثالثة الأردن 1986، ص182 و183 و306.
9) التشريع الجنائي ج2 ص353.
10) "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام" الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، نشر الشركة التونسية للتوزيع والدار العربية للكتاب، تونس 1979، ص23.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: