أحمد الحباسى - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5006
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منابر محطات التلفزيون تعج بالسياسيين أو بالأصح أشباه السياسيين، هؤلاء يثرثرون يوميا في حالة إسهال تثير الاستهزاء، مقدمات طويلة ركيكة، لغة ‘فاسدة’ مكررة، إسراف في الاستطراد و العودة لنفس الفكرة، إصرار على النقاش بدون طائل، عجن للغة العربية و رفس، خطب عنترية، و نهايات في اللغط و الصراخ و الاشتباك، هؤلاء هم المثقفون و السياسيون و المهتمون الأفاضل بالشأن العام، و هذه هي حالتهم المرضية الدائمة كما يتابعها المشاد العربي المنكود الحظ، و لولا بعض ‘البريك’ الإعلاني لنام المتابعون قرفا من هذه الفئة التي رضعت حليب المزايدات و دخلت بعد الثورة في سباق محموم نحو الكراسي الفارغة التي تركها النظام السابق، هؤلاء لا يهتمون بعنصر الوقت و فائدته، و لا يعلمون أن البلاغة في الإيجاز، و لا يدخلون إلى لب الموضوع مباشرة، فهم أعجز عن فهم متطلبات الخطاب السياسي العصري و لا يهتمون بوقع تصريحاتهم و تحاليلهم و أفكارهم سلبا أو إيجابا، كل ما يهم هؤلاء هو البقاء أطول وقت ممكن على المنبر .
منذ فترة قامت الدنيا و لم تقعد بسبب ذلك التصرف ‘البايخ’ من الرئيس المصري السابق محمد مرسى في مقابلة مع رئيسة الأرجنتين حين نظر إلى ساقيها ثم مسح نصفه الأسفل بحركة غريزية أثارت سخرية المتابعين و تساؤلات بعض المهتمين حول عدم تلقين البروتوكول للرئيس بشكل ضاف ليتجنب مثل تلك الحركات الخارجة عن الايتيكيت الرئاسي، نحن نتذكر كيف سقط الأمير القطري السابق في وحل الغرور أثناء زيارة الرئيس التونسي محمد المرزوقي إلى قطر حين وعده بتعليمه أصول البروتوكول الرئاسي في زيارته القادمة، المخجل و المثير أن الرئيس أوباما قد وعد الأمير القطري بنفس الوعد عند آخر زيارة قطرية للعاصمة واشنطن، لن ننسى طبعا تصرف الرئيس مرسى في زيارته لألمانيا حين نظر بشيء من الامتعاض إلى ساعته إبان المؤتمر الصحفي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تنافر تام مع البروتوكول و الايتيكيت خاصة و أن الألمان معروفون بالدقة في المواعيد و الحرص على الوقت .
في ألمانيا، على سبيل المثال طبعا، يصل المترو إلى المحطة بالدقيقة و الثانية، مثل ذلك في اليابان، و القطارات السريعة في الغرب تعبر عن رغبة واضحة في اختصار الوقت و الزمن، و العرب في هذا المضمار متأخرون جدا و رغم ذلك يسرفون في إضاعة الوقت في تكرار المكرر و إعادة تحمير القوالب الجاهزة، و لعل الرئيس التونسي الحالي قد تفطن إلى عامل الوقت و أهمية الاختصار فجاء ‘خطابه’ الأخير منذ يومين مثالا في الاختزال، بالمقابل لا يزال السيد رئيس الحكومة متمسكا بخطاب التأتأة الطويل الخالي من المعنى و المحتوى ، و لا يزال السيد حمة الهمامى معتمدا على نفس الأطروحات الطويلة بما في ذلك الحديث عن ‘ خالتي فاطمة ‘ التي اعترضنه في الحامة و ‘عمتي صلوحة ‘ التي طالبته بثمن رغيف، في حين يطل السيد الهاشمي الحامدى زعيم تيار المحبة الكرتوني بنفس المعزوفة التي ألبت عليه كل فئات المجتمع ليطرد من التلفزة و من اعتصام نقابات الأمن و من تظاهرة بنزرت منذ ساعات، لن ننسى طبعا الرئيس المؤقت السابق، و هو الذي يزخرف خطابه و تصريحاته بكثير من ‘ الأفيات’ المثيرة للسعال الديكى .
لا يعلم بعض الساسة في مسرح السياسة التونسية أنهم يخاطبون الرأي العام، و أن هذا الخطاب ليس سهلا أو مقدورا عليه ، فالخطابة و الرد على الأسئلة في منابر الإعلام هي فن يملكه البعض بالفطرة و يتعلمه البعض الآخر بالتلقين المدروس، فليس كل ما يأتي على اللسان يقال و ليس كل سؤال يستحق الرد و ليس كل رد بإمكانه أن يقنع الجمهور المتابع، فالخطاب السياسي بمعناه الشامل يحتاج إلى حنكة و دراية و كثير من الاطلاع و الصبر و برودة الأعصاب، فالمناظرة التلفزيونية بين الرئيس فرانسوا ميتران و رئيس الحكومة جاك شيراك إبان الانتخابات الرئاسية في 28 أفريل 1988 بقيت عالقة في الأذهان حين تبادل المرشحان كثيرا من ‘الطعنات’ الحوارية القاتلة أدت إلى فوز الرئيس الاشتراكي لمدة سبعة سنوات أخرى، في برنامج ‘Déshabillons les, les gestes des politiques ‘ الذي يبث على قناة جمهور البرلمان ‘ Public Sénat ‘ تفضح الكاميرا و ألسنة المحللين كل حركات السياسيين على اعتبار أن ‘ الجسم يفضح ما يخفيه العقل ‘، في كتاب ‘ المعاني الخفية لحركات السياسيين ‘ يؤكد الكاتب جوزيف ميسنجر أن كلامهم يمكن أن يخدعك لكن حركاتهم إن انتبهت إليها جيدا بإمكانها أن تكشف كل عوراتهم، و حين ننظر مثلا إلى حركات السيد رئيس الحكومة في زيارته القصيرة الأخيرة إلى فرنسا ندرك لماذا قامت الاضطرابات في الجنوب و لماذا يتحدث البعض عن ثورة ثانية في تونس .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: