أحمد الحباسى - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 573
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لعلنا لا نبالغ إطلاقا حين نؤكد بأن تونس تعيش أشدّ فترة انغلاق و استبداد سلطوي منذ 2011 ، لا نبالغ إن نقول بأننا نعيش أحلك فترة على المستوى السياسي و الحقوقي و الاجتماعي ، لا نبالغ أخيرا حين نؤكد أن هناك انسدادا مرعبا في الأفق و أن تعطل كل قنوات الحوار بين السلطة التي تعانى من فقر مدقع على مستوى البرامج و الأفكار المطلوبة لإخراج البلاد من أزمتها الطاحنة و بين كل الضمائر الوطنية الحيّة التي تنادى بالحوار و تغيير المسار الخاطئ الذي ينتهجه رئيس الدولة دون إدراك أو وعى بمخاطره و محاذيره و ارتداداته . من الواضح أن السيد الرئيس قد استفرد بالحكم استفرادا غير مسبوق معطلا كل أجهزة الدولة الرقابية بما فيها مجلس نواب الشعب الذي تم اختيار نوابه على المقاس و في انتخابات شكلت و لا تزال مادة للتندر و السخرية . من الواضح أيضا أن الرئيس قيس سعيد لا يؤمن بالديمقراطية و لا بالمعارضة و لا بالرأي الأخر حتى لو صدر من أشد المنتمين أو الموالين لما يسمى بمسار 25 جويلية و هو مسار هلامي لا علاقة له إطلاقا بهموم و مطالب الشعب .
هناك من يؤكد أن الرئيس قيس سعيد يجسّد مقولة " عرش الديكتاتور رأيه ، فالسجن في عقله فكرة لا تتطلب دليلا أو برهانا ، فكرة شخصية كالذوق و المزاج و هي مصدر راحته الأكيدة " و هناك من يؤكد أيضا أن النظام يعتمد على السجن و التشهير لإسكات معارضيه و التخلص منهم غير مكترث بكل الأصوات المتحضرة التي تنادى بحرية التعبير و تنبذ التسلط و ترفض الاستبداد . في هذا السياق يظهر أن السيد الرئيس قد فقد صبره بعد كل محاولاته إسكات صوت السيد عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر و التي باتت رقما سياسيا صعبا داخليا و خارجيا ، محاولات مستمرة تقوم بها أجهزة وزارة الداخلية في عهد الوزير السابق توفيق شرف الدين و الوزير الحالي كمال الفقى لتعطيل مسيرات الحزب و نشاطاته الإعلامية و هي محاولات تجاوزت فيها القوى الأمنية كل الحدود مما تسبب في أضرار بدنية و معنوية جسيمة لعديد المنتسبين للحزب و على رأسهم السيدة عبير موسى . بطبيعة الحال لا يقتصر الأمر على التجاوزات الأمنية و على صمت النيابة العمومية و ركنها في الرفوف لعديد تشكيات الحزب بل تجاوز ذلك إلى قيام بعض "الإعلاميين " الموتورين أو المنتدبين بمهمة بث الخوف و التشهير.
لعل المتابعين لقناة حنبعل و التاسعة على وجه الخصوص و التي ثبت عنها شبهات تمويل خارجية في عديد المناسبات و بعض الإذاعات الخاصة المشبوهة التي انقلبت 360 درجة كاملة بعد أن كانت تطبّل و تبيّض رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد إلى تمجيد و تلميع ما يطلق عليه بمسار 25 جويلية قد اكتشفوا مرة أخرى كيف يتم التلاعب بالرأي العام و تحويل وجهته و تضليله خدمة لهذا المسار الخاطئ و الهلامي . فى هذا السياق توفر خطب الرئيس قيس سعيد و تهجماته و اتهاماته الفاقدة للدليل و تشهيره بالغير مادة دسمة لهؤلاء الغربان " الإعلامية " و خط تحرير واضح يمكنهم من التصويب و الهجوم على الجهة السياسية التي استهدفها الرئيس و بذلك تصبح تلك الجهة كما هو الحال بالنسبة للسيدة عبير موسى ممنوعة من التعبير و التظاهر و الرد على الاتهامات و شخصا معرضا للاغتيال بعدما تمّ إهدار دمها و وصفها بأبشع النعوت فى ظل صمت مطبق للنسابة العمومية و لإعلام السلطة و زبانيتها المأجورة .
لعل أخطر ما يحصل في تونس اليوم هو استغلال النظام لتجمع كافة مقاليد الحكم بيده ليفرض حالة غير مسبوقة تمكنه من هيمنة مطلقة على مجال التعبير ( L’espace de la parole ) و لتحقيق ذلك قام باختراع المرسوم عدد 54 لسنة 2022 الذي جعله يتعرض لكل من يعارض مقترحاته أو توجهاته الفاشلة و من هنا تم استغلال مثل هذه النصوص " القانونية " الاستثنائية لاحتجاز رئيسة الحزب الدستوري الحر السيدة عبير موسى و إيداعها بالسجن دون محاكمة عادلة و باعتماد طريقة تمطيط إجرائية تهدف إلى إطالة تغييبها عن الساحة السياسية و هو الهدف الخفي الذي تسعى له السلطة بكل الطرق لضرب الحزب المعارض الأول في البلاد و ربما دفع المنخرطين إلى التخلي عنه بمرور الوقت إضافة إلى ما يتحدث عنه البعض من وجود رغبة مقايضة مواقف يتم بمقتضاها إطلاق سراح رئيسة الحزب مقابل تعهدها بالمهادنة و الصمت إن اقتضى الأمر .
لعل ما يثير الاهتمام في قائمة التهم الموجهة للسيدة عبير موسى هي التآمر على أمن الدولة و هي تهمة يتجاوز عمرها ميلاد الدولة الوطنية التونسية المستقلة اذ يعود تاريخها إلى سنة 1926 بحيث كانت أداة في يد الاستعمار الفرنسي للتنكيل بالمقاومين و المناضلين و لعل هذه التهمة قد تحولت اليوم إلى آلية كريهة و قبيحة للحفاظ على السلطة و الاستبداد و القمع في ظل غياب تام و غير مبرر للمحكمة الدستورية و ما تعانيه السلطة القضائية من إهتراء و ضرب تحت الحزام و تدخل و تعليمات و من هنا نتأكد و نفهم لماذا أصر الرئيس قيس سعيد على توجيه الاتهامات و حملات التشهير و العزل و التهديد المباشر للقضاة منذ مدة لان إخضاع القضاء و ترهيبه هما شرطان أساسيان للإعداد المسرحي للمحاكمات السياسية تماما كما يحصل مع السيدة عبير موسى التي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام لمجرد تمسكها بحقها الشرعي في إيداع مطلب تظلم بمكتب الضبط برئاسة الجمهورية .
يقتضى الفصل 18 من القانون عدد 52 لسنة 2001 المؤرخ في 14 ماى 2001 المتعلق بنظام السجون أنه للسجين الحق في الحفاظ على الروابط العائلية و ذلك بتلقي زيارة ذويه و في هذا الإطار فقد عمدت إدارة سجن الإيقاف بمنوبة في مرة أولى إلى منع زيارة بنات السيدة عبير موسى في مخالفة صريحة لأحكام الفصل 31 من القانون المذكور الذي يرخص زيارة الابنتين لوالدتهم ما دامت في سجن الإيقاف ثم رفضت حق الزيارة لهما رغم استظهارهما بإذن قضائي . ربما يحيلنا هذا الخرق الفاضح للقانون و صمت السيدة وزيرة العدل عن هذا الانتهاك لحقوق الإنسان إلى حقيقة ساطعة تؤكد تعمد السلطة خرق القانون في غياب هيئة قضائية رقابية فاعلة مما يلقى ظلالا من الشك حول مستقبل المنظومة القضائية و السجنية و ما حصل منذ أيام من فضيحة دولة بسجن المرناقية من تهريب خمسة من أخطر الإرهابيين دليل ملموس على أن السلطة قد فشلت في إدارة البلاد و عليها أن ترحل من باب إنقاذ ما يمكن إنقاذه و من باب التأكيد مرة أخرى أن تونس تلفظ في النهاية كل مظاهر الاستبداد و الغلوّ و التطرف الفكري .