د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3826
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
خامسا: فكر ابن خلدون: بعض الملاحظات النقدية
تعرضت آراء عبد الرحمن بن خلدون وأطروحاته للعديد من أوجه النقد, يمكن عرض أبرزها فيما يلي:
• غلبة أسلوب السجع على طابع الكتابة عند ابن خلدون,
وقد كان في بعض الأحيان أسلوباً مصطنعاً يؤثر على المعنى ويضعف دلالته, كما مال ابن خلدون في أحيان كثيرة إلى أسلوب الخطابة, وهو الأسلوب الذي قد عابه على سابقيه، وعلى الرغم من أن ذلك الأسلوب كان سائدا في عصره بشكل واسع، إلا أنه كان ينبغي عليه أن يتحلل منه باعتباره مؤسِسا لنظام معرفي مغاير لكل الأنظمة المعرفية الموجودة في ذلك الحين.
• المبالغة الشديدة من جانب ابن خلدون في تقدير أثر البيئة الجغرافية على العمران البشري، والاجتماع الإنساني:
فقد اعتبر البيئة الجغرافية دعامة لكل الظواهر الاجتماعية، حتى لقد افتتح مقدمته بدراسة هذه البيئة وبيان ما لها من آثار، لدرجة أنه لم يدع أية ظاهرة اجتماعية إلا جعلها مدينة لهذه البيئة في صورة ما كما سبق أن أوضحنا ذلك فيما سبق. (علي عبد الواحد وافي212)
• اقتصرت نظرية ابن خلدون على رؤيته ومعاصرته للواقع العربي والإسلامي, ولم تتناول المجتمعات المجاورة , وخاصة المجتمعات الأوربية غير المسلمة,
وقد أثر ذلك على العديد من القضايا النظرية التي طرحها, حيث جاءت في صـورة الاستقراء الناقص, وقد ظهر ذلك بوضوح في تحليله لعمر الدولة ومراحل تطورها، فالقارة الأوربية على سبيل المثال قد عرفت على مدار تاريخها دولا وامبراطوريات تجاوزت أعمارها مئات السنين، وليس فقط مائة وعشرين عاما كما قرر ابن خلدون.
• يرى بعض المستشرقين أن ابن خلدون لم يكن يتسم بالروح العلمية الخالصة، حيث وردت في المقدمة بعض الأفكار غير العلمية, مثل علوم السحر, والكهانة، والجن والعفاريت،
والحقيقة أننا لا ينبغي أن ننسى أن ابن خلدون ينتمي للقرن الرابع عشر الميلادي، وبالتالي فهو يتبنى مفردات ذلك القرن من جهة، كما أنه مُسلم وفقيه وبالتالي فهو يؤمن بمفردات كالجن والعفاريت والسحر باعتبارها حقائق تتوافق مع معتقداته الإسلامية من جهة أخرى.
• كان ابن خلدون شديد المدح للملوك والسلاطين والأمراء:
وكان ابن خلدون يعمل دائما على التقرب منهم، وبالتالي فقد وقع فيما انتقد فيه سابقيه، حيث رأي أن من أسباب وقوع الأخطاء في الروايات التاريخية، تقرب المؤرخين من أصحاب السلطة.
ومن الأمثلة البارزة على مبالغة ابن خلدون في مدح السلاطين ما ورد في بداية المقدمة، حينما أهدى نسخة من المقدمة للسلطان أبي فارس عبد العزيز المريني سلطان فاس فكتب:
أتحفت هذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام الزاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التمائم ولوث العمائم بحلى القانت الزاهد، المتوشح بزكاء المناقب والمحامد، وكرم الشمائل والشواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القوي الساعد والجد المواتي المساعد والمجد الطارف والتالد، ذوائب ملكهم الراسي القواعد الكريم المعالي والمصاعد جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف والشوارد، ومظهر الآيات الربانية في فضل المدارك الإنسانية بفكره الثاقب الناقد، ورأيه الصحيح المعاقد النير المذاهب، والعقائد نور الله الواضح المراشد، ونعمته العذبة الموارد ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد، ورحمته الكريمة المقالد التي وسعت صلاح الزمان الفاسد واستقامة المائد من الأحوال والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد وخلعت على الزمان رونق الشباب العائد وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد، ولا شبهات المعاند أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان المعظم الشهير الشهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السلطان المقدس أمير المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام من ملوك بني مرين ، الذين جددوا الدين ونهجوا السبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين ، أفاء الله على الأمة ظلاله وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله وبعثته إلى خزانئهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويين ، من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم حيث مقر الهدى ورياض المعارف خضلة الندى وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى والإمامة الفارسية الكريمة العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف وفضلها الغني عن التعريف ، تبسط له من العناية مهادا وتفسح له في جانب القبول آمادا فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهادا ، ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب، وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب ، ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح والألباب والله يوزعنا شكر نعمتها ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها ويجعلنا من السابقين في ميدانها المحلين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوي من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل.
• اتهام ابن خلدون بالتحامل على العرب:
فقد وضع ابن خلدون عناوين لبعض فصوله، يبدو منها أنه يتحامل على الشعب العربي، وينتقص من قدره، ويظهر ذلك على الأخص في عناوين أربعة فصول متتالية في الباب الثاني – من الفصل الخامس والعشرين حتى الثامن والعشرين – وفي عنوان الفصل التاسع من الباب الرابع، ونصوص هذه العناوين كما يلي:
فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط – فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب – فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة – فصل في أن العرب أبعد الناس عن السياسة والملك – فصل في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الفساد إلا في الأقل.
ويرد الكثيرون على ذلك منهم قطب علم الاجتماع المصري الشهير الدكتور على عبد الواحد وافي بأن ما يقصده ابن خلدون من لفظ العرب، هم أهل البادية من الأعراب الذين يعيشون خارج المدن، ويشتغلون بالرعي، ويتخذون الخيام مساكن لهم وينتقلون من مكان إلى مكان، حسب مقتضى الحال، وهم المقابلون لأهل الحضر أو المدينة. (علي عبد الواحد وافي220) وبالتالي فليس المقصود جنس العرب، وإنما بعض البدو الذين كانوا يسلكون سلوكا جافا وغليظا في أحيان كثيرة، والحقيقة أن القرآن الكريم قد وصف بعض هؤلاء الأعراب ببعض الصفات السلبية، مثل قوله تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا (التوبة من الأية 97)، وقوله عز وجل: قالت الأعراب أمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات من الأية 14).
ورغم وجاهة هذه الاعتراضات , إلا أنه يجب التعامل معها في ضوء الظروف الفكرية والتاريخية التي كُتبت فيها المقدمة, وذلك رغم محاولة ابن خلدون البعد عن الأخطاء التي وقع فيها معاصروه أو سابقوه. ويبقي ابن خلدون واحداً من رواد الفكر الإنساني العالمي, وتبقي مقدمته واحدة من أخصب الأعمال في تاريخ الفكر الإنساني.
كانت تلك مقالات موجزة عن ابن خلدون، حاولت أن تكون مبسطة وسهلة حتي يحيط جمهور القراء ببعض المعلومات القليلة عن هذا العالم الكبير. وبالله التوفيق
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: