حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 64211
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المعرفة العلمية هي كما سبق أن أوضحنا، تلك التصورات والآراء والمعاني والحقائق عن ظواهر الكون المختلفة، والتي تم التوصل إليها وصياغتها باستخدام المنهج العلمي، وهذه المعرفة ذات طبيعة تراكمية، تُمكّن الإنسان من التعامل بكفاءة مع الواقع المحيط به من خلال تصويره تصويراً موضوعياً.
ويري عالم الأحياء’ هكسلي’ Huxley أن المعرفة العلمية هي ذلك النشاط الذي نكتسب من خلاله أكبر قدر من معرفتنا بالظواهر، ونمارس بواسطته الضبط والتحكم في العالم الطبيعي، ويؤكد ‘كارل بيرسون’ K. Pearson في كتابه ‘قواعد العلم’ The grammar of science أن كل ميدان معرفي يعد علماً، ما دام يستخدم قواعد المنهج العلمي بطريقة منظمة.
إن المعرفة العلمية إذن هي بناء منظم من الأفكار والتصورات، يبدأ من الواقع وينتهي إلى تفسيره، وأن العالِم Scientist هو بالأساس إنسان يسلك طريقاً خاصاً للحصول علي هذه المعرفة، مستنداً إلي مجموعة قواعد عامة تهيمن علي سير العقل، وتحدد عملياته، حتى يصل إلى نتيجة معلومة، وهذه القواعد هي ما يعرف بالمنهج العلمي S. Method
وبناءً علي ذلك يمثل المنهج ركناً أساسياً من أركان المعرفة العلمية، ويمكن تعريف المنهج العلمي بأنه الطريقة المنظمة التي يستعين بها الباحث من أجل الوصول إلي التفسير المنطقي للظاهرة موضوع الدراسة. والمنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج المترتبة عليها ففي تغير مستمر. وقد أولي العلماء اهتماماً كبيراً بالمنهج العلمي، نظراً لأهميته في بناء المعرفة العلمية، ويتفق العلماء على أن المنهج العلمي يتكون بشكل عام من الخطوات التالية:
1- الملاحظة Observation فالمنهج العلمي يبدأ بمرحلة الملاحظة المنظمة للظواهر التي يُراد دراستها، وقد تستخدم بعض الأجهزة العلمية لزيادة قوة الملاحظة، كالمجهر (الميكروسكوب) Microscope والمنظار ( التيليسكوب) Telescope وسماعة الطبيب، ومقياس الزلازل ... إلخ. والحقيقة أن الملاحظة الدقيقة قد لعبت دوراً فارقا في تاريخ العلم، وتعد ملاحظة نيوتن لسقوط التفاحة نموذجا مثاليا لقوة الملاحظة ودقتها. ويتم استنادا للملاحظة الدقيقة صياغة بعض الفروض العلميةs. Hypotheses.
2ـ التجربة experiment وهي ملاحظة علمية تحت الضبط والتحكم في ظروف معينة، فالقائم بالتجربة يستطيع أن يعدل الظاهرة بحيث تبدو في أنسب وضع صالح لدراستها، وتهدف التجربة إلى اختيار الفروض التي تمت صياغتها.
3ـ الوصول إلي تعميمات علمية s. Generalizations، حيث تتحول الفروض التي تم التأكد منها إلى قانون Law، أى علاقة مؤكدة وثابتة بين متغيرين.
4ـ التحقق Verification من التعميم، حيث تخضع القوانيين العلمية لاختبار مستمر للتأكد من مدى صحتها، وبذلك يكون العلم في تطور دائم، ولا يقف عند مرحلة بعينها.
مكونات المعرفة العلمية :ـ
يرى العلماء أن المعرفة العلمية تتشكل من جانبين مترابطين ومتكاملين :ـ
1- الجانب الحسي ( العياني) Concrete
2- الجانب العقلي ( المجرد) abstracted
وفيما يلي شرح مختصر لكل جانب من هذين الجانبين
1- الجانب الحسي (العياني)
تبدأ المعرفة دائماً بالخبرة الحسية، فالحواس هي التي تزودنا بالخبرة المباشرة بموضوعات العالم الخارجي المحيط بنا والمستقل عنا، فأول انطباع عن العالم الخارجي يأتينا عن طريق الحواس، فهي النافذة التي تدخل منها موضوعات العالم الخارجي إلى عقل الإنسان. فالمثيرات الخارجية التي توجد في الواقع المحيط بنا تحدث تهيجات في عضو الحس تنتقل عبر الأنسجة العصبية إلي المخ لتتحول إلى إحساسات، فالمثير الصوتي مثلاً يحدث تهيجات في الأذن تنتقل إلي المناطق الحسية بالمخ لتصبح إحساسات صوتية، وهكذا بالنسبة للعين، والأنف، والجلد .. الخ، وبدون هذه الخطوة الجوهرية تصبح المعرفة مستحيلة.
والإحساسات حين تصل إلى المناطق الحسية بالمخ لا تزيد عن كونها مادة عديمة المعني (كالأشعة الضوئية والذبذبات الصوتية) وهنا يقوم المخ بإضفاء المعنى عليها، أي يحولها من إحساسات إلى مدركات : كالقلم والكتاب والشجرة ..الخ. فالإدراك Perception يعني إضفاء معنى على مجموعة معينة من الإحساسات المباشرة، وهذه المدركات قابلة للاستعادة في المخ مرة أخري بعد حدوثها وفي حالة غيابها، وفي هذه الحالة تسمى أفكاراً ‘ Ideas’.
والحواس تُمكّننا من إدراك موضوعات العالم المحيط بنا، ولكن في جوانب الخارجية فقط دون أن تتجه إلى إيجاد الصلات، أو تسعى إلى إدراك العلاقات القائمة بين الظواهر، فيمكن أن نرى الضوء المنبعث من لمبة كهربائية، ولكن لا يمكن عن طريق العين وحدها أن نعر ف أن هذا الضوء ناتج عن سبيل من الإليكترونات تتحرك بسرعة معينة، فالجانب الحسي في المعرفة علي الرغم من أنه أساس كل المعرفة الإنسانية، إلا أنه لا يمكنّنا وحده من التعرف علي جوهر الأشياء وكشف العلاقات بينها، وهنا تكمن أهمية الجانب العقلي أو المجرد في المعرفة. (سمير نعيم 979)
ويعتمد العلم على الجانب الحسي في جميع المعلومات عن الظواهر التي يدرسها، فالعلماء يقومون بإجراء الملاحظات الدقيقة والمنظمة عن كافة الظواهر التي يدرسونها، ويلجأون كما ذكرنا منذ قليل إلي استخدام بعض الأجهزة لتقوية هذا الجانب كالترمومتر، وسماعة الطبيب، والميكروسكوب والتليسكوب...الخ.
ونلفت الانتباه إلى أن الجانب الحسي في المعرفة يشترك فيه الباحث العلمي مع الإنسان العادي، فالإنسان العادي يتعرف علي الأشياء ببصره وسمعه ولمسه..الخ، فيدرك صفاتها الخارجية، لكنه لا يستطيع أن يتعمق في فهم السمات الجوهرية وبالتالي لا يستطيع أن يفهم العلاقات بين الظواهر والأسباب المنطقية لحدوثها، وكلما تطور المستوي العقلي للإنسان، زادت لديه قوة الجانب المجرد من المعرفة.
2- الجانب العقلي (المجرد)
يعد التفكير العقلي أو المجرد صفة إنسانية خالصة , نظراً لما يتمتع به الإنسان من جهاز عصبي معقد ومتطور , ويعتمد الجانب العقلي من المعرفة العلمية علي استخدام الرموز symbols بينما يعتمد الجانب الحسي ـ كما ذكرنا سابقاً ـ على الإحساسات المباشرة التي ترتبط بالأشياء الملموسة .
والرمز عبارة عن فكرة توجد في عقل الإنسان يشير بها إلى أشياء ملموسة توجد في العالم الخارجي .... وتندرج الرموز من رموز بسيطة ترتبط مباشرة بأشياء خارجية إلى رموز أكثر تعقيدا تشير إلي ما هو مشترك بين مجموعة أشياء , فرمز ‘السيارة’ يشير إلي شيء ملموس, بينما يشير لفظ ‘وسائل النقل’ إلى خاصية مشتركة بين مجموعة أشياء تبدو ظاهرياً شديدة الاختلاف (الدواب ـ السيارات ـ القطارات ...الخ). (سمير نعيم 979)
وأول وأبسط أشكال الرمز هو المدرك الذي نصور به الشئ في خصائصه الخارجية فقط , غير أن هناك أشكالا أخري من الرموز تساعدنا على تصوير الأشياء فى جوهرها, وتعرف هذه الرموز بالمفاهيم Concepts التى تشكل العناصر الرئيسية فى المعرفة العلمية, والنظرية العلمية باعتبارها إحدى صور المعرفة العلمية.
إن النظرية تتكون من عدد هائل من المفاهيم التي تترابط معاً في شكل قضايا، فالقضية Proposition تتشكل من مجموعة من المفاهيم أو الرموز التي تصور الخصائص الجوهرية لعدد لا حصر له من الأشياء التي تمت ملاحظتها بالحواس. فعلي سبيل المثال، فإن جملة :’المعادن تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة’ هي قضية علمية تتكون من عدة مفاهيم كالمعادن، والتمدد، والحرارة، والانكماش، والبرودة، وهذه المفاهيم يمكن تحليلها إلى مفاهيم أخري، فمفهوم ‘المعادن’ يتكون من مفاهيم أخري كالحديد والنحاس والألمونيوم...إلخ، ويعبر عن ما هو مشترك وجوهري يبين هذه الأشياء ويهمل ما عداها.
ويتوصل العلماء ( والإنسان العادي كذلك) إلى المفهومات عن طريق عملية عقلية هي التجريد abstraction وتتكون هذه العملية بدورها من عمليتين أخريين، الأولى هي التحليل analysis أي تقسيم الظاهرة أو تفكيكها إلى العناصر المكونة لها من أجل فهم أهمية كل عنصر تمهيداً لاختيار الجوهري منها، الثانية هي التركيب (أو التخليق) synthesis ويقصد بها تجميع الأجزاء أو العناصر الهامة والجوهرية في الظاهرة، وبالتالي استبعاد العناصر الثانوية.
فلو أردنا علي سبيل المثال تحديد مفهوم الإنسان، نبدأ أولاً بتحديد كل سماته، فهو كائن عاقل وناطق ومتناسل، ومتحرك ، وضاحك، كما أنه يأكل ويشرب، ويفرح ويغضب، نلاحظ أن هذه السمات منها ما هو أساسي وجوهري (أي لا يشترك معه فيها أي كائن آخر)، كالعقل، والكلام، والضحك، ومنها ما هو ثانوي (أي يشترك معه فيه كائنات أخري) كالتناسل والحركة والنمو والأكل والشرب..الخ، وبالتالي فإنه يمكن تعريف الإنسان بأنه كائن عاقل ناطق ضاحك.
يتضح مما سبق أن المفهوم يمثل الوحدة الجوهرية في المعرفة العلمية، وبالتالي فإن كل أشكال هذه المعرفة تتكون من مفهومات في علاقات مترابطة فيما بينها، تسمى القضايا أو الأحكام، وتأخذ القضايا عدة صور نذكر منها:ـ
1ـ الفروض Hypotheses وهي تقريرات عن علاقات محتملة بين مفهومين أو أكثر لم يتم التأكد منها بالأدلة القاطعة، ومن ثم يخضع الفرض للاختبار الإمبيريقي.
2ـ القانون العلمي Scientific law يشير إلى علاقة ثابتة بين مفهومين أو أكثر في ظروف معينة، وهذه العلاقة قد تم التأكد منها بالأدلة الحاسمة، والقانون مثل الفرض يتضمن تعميماً، إلا أن التعميم في حالة الفرض يكون احتمالياً، فإذا ما تأكد التعميم يتحول الفرض إلى قانون.
3ـ النظرية theory تتكون النظرية من مجموعة من القضايا المترابطة ترابطاً منطقياً، والتي تفسر جانباً أو أكثر من جوانب الواقع، وتكون قابلة للتحقق من خلال الواقع التجريبي، وتمثل النظرية أعلى درجات التجريد والتعميم في العلم.
وتشترك النظرية مع القانون في أنهما نسبيان، إذ أن صدقهما يرتبط بعاملي الزمان والمكان، غير أن القانون أقوي في تأكيد معطياته من النظرية وبالتالي فهو في درجة أعلى منها، وأسبق عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هذه المقالات كانت في الأصل مجموعة محاضرات ألقيتها على طلاب قسم علم الاجتماع والفلسفة – كلية الآداب والعلوم – جامعة المرقب في ليبيا الشقيقة خلال العام الجامعي 2009/2010.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: