رحيل فاطمة المرنيسي: الآن سكتت شهرزاد السوسيولوجيا العربية
د. حسني إراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4228
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
فقد علم الاجتماع العربي مساء الإثنين 30/11/2015 واحدة من قاماته السامقة، التي ساهمت بدور كبير في إثراء الوعي السوسيولوجي، وهي المفكرة المغربية اللامعة الدكتورة فاطمة المرنيسي (1940 – 2015) وقد اتسمت الراحلة الكبيرة بجسارة لافتة في ولوج مناطق بحثية تمثل تابوهات قوية في الثقافة العربية، وقد استلهمت شخصية شهرزاد الشهيرة في قصص ألف ليلة وليلة باعتبارها رمزا لتحدي المرأة وقدرتها على مجابهة الطغيان ببالعقل والحكمة.
لقد عرفت اسم فاطمة المرنيسي لأول مرة عندما كنت طالبا في السنة النهائية في كلية الآداب ببني سويف جنوب القاهرة التي كانت فرعا من جامعة القاهرة، وكان ذلك في بداية تسعينات القرن الماضي، عندما قرأت حوارا لها في مجلة العربي الكويتية العريقة مع عالم الاجتماع المصري ذائع الصيت الدكتور محمد الجوهري، وذلك في باب ثابت بالمجلة كان عنوانه (وجها لوجه).
قرأت ذلك الحوار أكثر من مرة، وكنت في كل مرة استكشف شيئا جديدا، ورؤية مغايرة لما هو سائد عند كثير من الناس، أحسست بمتعة المعرفة السوسيولوجية وعمقها وأنا أقرأ تحليلاتها الثرية للواقع الاجتماعي العربي، ورؤيتها العميقة للتاريخ الإسلامي، وقدرتها الفذة على استخلاص المعاني والدلالات الكامنة المرتبطة بمختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية، وخاصة ما يتعلق بوضعية المرأة في الشرق والغرب.
منذ ذلك الحين، وأنا أتابع – ما استطعت – كتاباتها عبر ما كان متاحا لي وقتها من مجلات أو صحف تعرض بعض كتبها وأبحاثها، والحق أنني قد انبهرت كثيرا بأسلوبها، وعمق فكرها، وأتيح لي بعد ذلك الحصول على بعض كتبها، فقرأت لها كتابين اعتبرهما من أهم الكتب التي أسهمت في تكويني العلمي، وأسهمت كذلك في تغيير العديد من الأفكار التي كانت مترسخة في ذهني، الكتابان هما: شهرزاد ترحل إلى الشرق، وما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية، وقرأت لها غير ذلك من انتاجها الفكري الغزير والمتنوع.
لقد كانت قضية المرأة وتحريرها من كل الرواسب الفكرية والاجتماعية، وتخليصها من كل الأطر التقليدية (غير الشرعية) التي تحول دون تحقيق ذاتها وإنسانيتها، هي محل انشغالها وهمها ورسالتها، وعملت على تفكيك كل تلك الرواسب، وكسر تلك القيود من خلال ترسانتها العلمية والمنهجية الرصينة.
لقد انشغلت المرنيسي بقضية تحرير المرأة العربية أولا من أسر ذلك الفهم المنغلق للنص الديني المتعلق بالمرأة، لقد أرادت أن تكشف أن النص الديني أكثر انفتاحا وتطورا في التعامل مع المرأة من تأويلات اللاحقين لهذا النص، إن الفهم المتطرف لا يلامس أبدا جوهر النص الديني، وكما تذكر في كتابها شهرزاد ترحل إلى الغرب: (إن التطرف قد يودي أصحابه إلى مواقف قد تعارض القرآن ذاته – أي كلام الله – إذا كان غير متلائم مع مصالحهم) ص 35.
وقد استلهمت الدكتورة المرنيسي كما ذكرت منذ قليل شخصية شهر زاد كنموذج للمرأة التي تستطيع كبح جماح الرجل، والرجل هنا يمثل السلطة والقوة القاهرة، تقول المرنيسي: تمثل شهرزاد وهي الفتاة التي سكنت مخيال الفنانين والمفكرين الشرقيين صورة للمقاومة والبطولة السياسية، إن شهرزاد لم تذهب للموت بسذاجة، بل إن لها استراتيجيتها، ولها خطتها المضبوطة، أن تتحدث إلى الملك وتشد أنفاسه إليها، إلى حد يجعله غير قادر على التخلي عنها، وستنجح الخطة، وستنجو شهر زاد من الموت. ص 65.
وقد واجهت الدكتورة المرنيسي ببسالة شهرزاد وإرادتها تابوهات الثقافة العربية، باستراتيجية فكرية واعية، قائمة على تفكيك التراكمات التراثية القوية التي حجبت روح الفهم الصحيح للنص الديني، وطمست إنسانيته وإشراقاته ونورانيته، التي تجلت في أبهى صورها في العهد النبوي الشريف.
وكانت الراحلة الكبيرة شديدة الاعتزاز بتراث الحضارة الإسلامية، وكشفت عن كثير من الجوانب التي سكت عنها كثير من الباحثين، وحاولت دوما الكشف عن البعد الإنساني (الهيوماني) في تلك الحضارة من خلال تناولها للعديد من القضايا الإنسانية والأخلاقية والفنية، تقول مثلا عن التصوير في الحضارة الإسلامية، (إن الحضارة الإسلامية على خلاف ما يدعيه الغربيون تتوفر على تراث غني في إنتاج الصور، لقد أنتج المسلمون في الماضي وخاصة الفرس والترك والهنود منهم منمنمات، كما أن كافة المسلمين في الحاضر ينتجون الصور ويستهلكونها من خلال التليفزيون والسينما وغيرهما، وبالتالي فإن المجال الوحيد الذي تحظر فيه الصور التشخيصية هو أماكن العبادة في الإسلام، حيث أن العقيدة الإسلامية لم تستغل الصور في نشر مبادئها – خلافا للديانتين البوذية والمسيحية – لقد كتب السير توماس أرنولد (من بين الأديان الثلاثة الكبرى – أي البوذية والمسيحية والإسلام – التي كانت تتوخى السيطرة على العالم بجلب أنصار عن طريق كل أشكال الإجراءات الإعلامية، وحده الإسلام رفض استعمال الفنون التصويرية كوسيلة لشرح رسالته، ونشر عقيدته). ص 28.
وتتناول في موضع آخر من الكتاب قيمة الطهارة والنظافة في الحضارة الإسلامية، التي كانت داعما أساسيا في تحسين الصحة العامة في المجتمع، فتقول انتشرت الحمامات العامة في المجتمع الإسلامي منذ عصور قديمة، حتى أن العالم هلال الصابي الذي توفي في عام 448 هجرية يحصي الحمامات الموجودة في مدينة بغداد وحدها بحوالي ستين ألف حمام، في حين أن المسيحية أدانت منذ بدايتها الحمام واعتبرته موضعا لاقتراف الذنوب والدعارة، يقول ‘فرناندو هانريكس’Henriques F. في كتابه البغاء والمجتمع Prostitution and Society لقد تســـاءل سيبريان أسقف قرطاجة في القرن الحادي عشر: (ماذا عن أولئك الذين لا يخشون من الاختلاط في الحمام بحيث أنهم يعرضون أجسادا خلقت للعفة والتواضع على النظرات الشبقة؟ إن هذا الاغتسال لا يطهر، ولكنه يلطخ). وقد كان الرجال والنساء في عهد ســيبريان يرتادون الحمامات معاً بحيث تحولت هذه الحمامات شيئا فشيئا إلى مواخير منظمة). (ص116)
إن هذه العلاقة بين الحمام والاختلاط الجنسي غائبة تماما عن الثقافة الإسلامية ، ذلك أن الفصل بين الجنسين في الحمام قاعدة مطلقة على الدوام، الشيئ الذي يبدو طبيعيا؛ لأن الهدف هو التركيز على نظافة الجسد، الذي يمثل العنصر الأساسي في الصحة العامة. إن الحروب الصليبية هي التي جعلت المسيحيين يكتشفون الجانب الحضاري للحمام كما يمارس في الثقافة الإسلامية، ولذلك كتب هانريكس في كتابه السالف الذكر :(إن الاعتناء بنظافة الجسد لم تكن جزءا من الإرث الذي خلفته العصور القديمة، ولم تشرع أوربا التي اعتمدت الحمام الشرقي في تقدير مزايا الحمامات العمومية إلا بعد الحروب الصليبية). (ص116)
والحقيقة أنني لست هنا في مقام الحديث عن فكرها وأطروحاتها، ولكنني فقط أتذكر قدرا يسيرا جدا من بعض أفكارها، فالحديث عنها لا يحتويه مجرد مقال أو حتى كتاب أو عدة كتب. رحم الله الفقيدة الكريمة، وندعو الله لها بواسع المغفرة والرحمة، وأن يعوضنا عنها خيرا.
-----------
د. حسني إراهيم عبد العظيم
ج.م. ع. جامعة بني سويف - كلية الآداب - قسم علم الاجتماع
جمهورية مصر العربية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: