(الهوسبيس): فكرة إسلامية وحركة حداثية وقيمة أخلاقية
د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4762
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مع التطور العلمي والطبي الكبير الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة ظهرت مشكلات ديموجرافية واجتماعية متعددة، من أبرزها ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة، وزيادة نسبة المسنين والمعمرين بشكل كبير، ومعاناة هؤلاء المعمرين من العديد من الأمراض التي لا يُرجى شفاؤها، وترتب على ذلك زيادة الحاجة للرعاية الاجتماعية والصحية لهم.
ونتيجة لذلك ظهرت حركات اجتماعية تهتم بالأشخاص المقبلين على الموت، وهم المرضى الميئوس من شفائهم، بحيث يعيشون أيامهم الأخيرة بصورة كريمة، ويحاطون بمختلف أنواع الرعاية الطبية والإنسانية، ويطلق على هذه الحركات والمؤسسات مصطلح (الهوسبيس) Hospice فما المقصود بهذا المصطلح؟
الأصل اللغوي لكلمة Hospice هو ذات الأصل الذي اشتق منه لفظ المستشفى Hospital وهو الكلمة اليونانية القديمة xenodochium التي تعود للقرن الرابع الميلادي، وكانت تعني الضيافة Hospitality . أما أول من استخدم لفظ Hospice فكانت السيدة الرومانية (فابيولا) Fabiola التي فتحت بيتها للفقراء والمرضى والمسافرين، والجوعى، وكانت كلمة Hospice تشمل في ذلك الوقت الضيف والمضيف، وكلمة Hospitium مكان الضيافة. وانتشرت تلك الأماكن على نطاق واسع، ولكنها لم تكن مخصصة للمحتضرين، بل تستقبل الناس للإقامة فيها طالما أنهم في حاجة للمساعدة. (Milicevic2002:29-30)
وفي منتصف القرن التاسع عشر أسست جين جارنيه Jeanne Garnier في مدينة ليون الفرنسية أول مؤسسة لرعاية المحتضرين، مستخدمة الكلمة Hospice. وفي انجلترا كان أول استخدام للمصطلح على أيدي راهبات مؤسسة القديس يوسف الخيرية الأيرلنديين Irish Sisters of Charity at St. Joseph في لندن عام 1905. وارتبطت حركة رعاية المحتضرين الحديثة في انجلترا باسم السيدة سيسلي ساندورز Cicely Saunders. (Milicevic2002:29-30)
وقد وردت عبارة مؤثرة على لسان السيدة (ساندورز ) مخاطبة المقبل على الموت: أنت مهم لأنك أنت، أنت مهم حتى آخر لحظة في حياتك، وسوف نبذل قصارى جهدنا ليس فقط لمساعدتك أن تموت في سلام، ولكن لتحيا بسلام حتى ترحل. (American Cancer Society 2014:1)
ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار أن الحضارة العربية الإسلامية كانت السباقة في تأسيس فكرة الهوسبيس، حيث أن الطبيب العربي أبا بكر محمد بن زكريا الرازي من أوائل من اهتم بأمر المحتضرين بشكل علمي، حيث أنه أول من فكر في علاج المرضى الميئوس من شفائهم والاهتمام بهم ورعايتهم، فقد كان هذا الطبيب العظيم شخصا كبير القلب، وطبيبا إنسانيا إلى أقصى الدرجات، وقد كان سباقا في إنسانيته القصوى تلك، كما كان سباقا في كثير من الاكتشافات العلمية، وتعدى الآفاق الأخلاقية التي وصل إليها الطب لدى الإغريق، وسمت إليها رسالة الطبيب في قسم أبو قراط الشهير، الذي يدعو الطبيب أن يذهب إلى كل البيوت لفائدة مرضاها، دون الذهاب إلى مساعدة المرضى الذين لا أمل في شفائهم، ذلك أن أبوقراط قد عرف الطب بأنه الفن الذي يُنقذ المرضى من آلامهم، ويخفف من من وطأة النوبات العنيفة (ويبتعد عن الأشخاص الذين لا أمل في شفائهم، إذ أن الطب حسب رأي أبو قراط لا نفع له في هذا المجال) وهنا برز الرازي الذي كان أول من فكر في علاج المرضى الذين لا أمل في شفائهم واهتم كل الاهتمام. انظر (هونكه253:1993)
وقد كان ذلك كما أسلفنا سبقا إنسانيا كبيرا للرازي، إذ رأي - خلافا لأبي قراط – أن هذا العمل واجبا ضروريا، وطالب الطبيب بأن يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها، وإن لم يثق هو بذلك، فمزاج الجسم – حسب تعبيره – تابع لأخلاق النفس. وعلى الطبيب أن يسعى دائما إلى بث روح الأمل وقوة الحياة في نفس المريض مهما كانت حالته. لقد كان الرازي وزملائه من الأطباء العرب المثال الحي والقدوة المثلى لأطباء الغرب فيما بعد لدى معالجتهم مرضى الأعصاب والذين لا رجاء لشفائهم بإنسانية رائعة. (هونكه254:1993)
وقد لعبت حركـات رعايـة المحتضرينHospice Care movements التي تطورت بشــكل لافت منذ منتصف القرن التاسع عشر دورا بالغ الأهمية في لفت الانتباه نحو البعد الاجتماعي والروحي للألم، وتخفيفه لدى المرضى بأمراض لا يرجى شفاؤها. إن فلسفة رعاية المحتضرين تنظر للموت باعتباره المرحلة الأخيرة للحياة، إنها تؤكد على الحياة، ولا تستعجل الموت (فهي لا تفضل ما يسمى بالموت الاختياري أو الموت الرحيم) ولا تعمل على تأجيله، وتهتم عملية رعاية المحتضرين بالشخص أكثر من اهتمامها بالمرض، وتعمل على إدارة الآلام التي يكابدها المريض في أيامه الأخيرة، ليتمتع في تلك الأيام بالعيش بكرامة ورفاهية، محاطا بعائلته وأحبائــه، إن رعاية المحتضر تتم حيثما يظن بعض النــاس أن كل شئ قد انتهى. (American Cancer Society 2014:1)
تتأسس فلسفة الهوسبيس الحديثة على عدة مبادئ وقيم أساسية نذكر منها:(Department of Health and Human Services, USA, 2013)
- أنها تساعد المقبلين على الموت أن يعيشوا أيامهم الأخيرة في راحة واطمئنان.
- لا تقتصر الهوسبيس – كما يعتقد البعض – على مرضى السرطان فقط.
- الهدف من رعاية المحتضرين ليس الشفاء، وإنما تخفيف الألم.
- تتضمن برامج الرعاية المتخصصة كافة الجوانب المتعلقة بالمريض: العضوية والعاطفية، والاجتماعية والروحية.
- تشمل برامج الرعاية أيضا الرعاية العضوية، تقديم الاستشارات الأدوية، الأجهزة.
- غالبا ما تتم الرعاية في المنزل على أيدي متخصصين محترفين.
- تلعب الأسرة دورا مهما في عملية الرعاية وتقديم الدعم.
إن رعاية المحتضرين هي عملية إنسانية وأخلاقية وحضارية، تركز على الرعاية لا على الشفاء focuses on caring, not curing ولا تنحصر تلك الرعاية في مكان بعينه، فقد تتم في منزل المريض أو أحد المراكز الطبية، أو أي مكان آخر ملائم، وتتاح خدمات الرعاية لكل المحتضرين بصرف النظر عن نوع المرض أو العمر، أو الدين أو السلالة، أو أي خصائص تمييزية أخرى. (National Hospice and palliative care organization 2012:3)
----------------
د. حسني إبراهيم عبد العظيم
قسم علم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة بني سويف - مصر
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: