البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

الفكر الاجتماعي في الإســلام 1/2

كاتب المقال د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 17055


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


مقدمة:
ظهر الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي (بدأ نزول الوحي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في عام 611 ميلادية) ، وكان آخر الأديان السماوية، فاكتمل به الوحي، وتمت شريعة الله إلى عباده، ولذلك فإن الإسلام لم يكن دعوة دينية فقط، وإنما كان في جوهره حركة إنسانية حضارية راقية، فقد أثار عقول العرب وأفئدتهم، وقلب أوضاع الجزيرة العربية رأسا على عقب، فأحدث تغييرا اجتماعيا شاملا، فاعتناق العرب للإسلام لا يعني مجرد القضاء على بعض العادات والأعراف التي كانت سائدة بينهم، وإنما كان تحولا كاملا لمُثل الحياة، وتغيرا عميقا في المفاهيم والغايات وقيم الأشياء.

لقد كان نزول الإسلام حدثا عالميا ترتبت عليه نتائج هائلة لم تقف عند الحدود الجغرافية للبلاد التي شهدت بزوغه، بل تجاوزت تلك الحدود إلى ما ورائها، واستمرت تأثيراتها الفكرية والروحية تنتقل من بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر حتى فرضت نفسها على تطور الحضارة الإنسانية.

لقد قدم الإسلام رؤية محددة ومتميزة عن الواقع الاجتماعي والطبيعي، وطرح تصورا عن الله عز وجل مغايرا عما طرحته الديانات السابقة عليه، وبذلك فقد جاءت تعاليم الإسلام مرتبطة برؤيته العامة للعقيدة، وتصوره للإنسان والمجتمع، واستنادا لتلك الرؤية وهذا التصور، جاء الفكر الاجتماعي معبرا عن ذلك تعبيرا واضحا.

وسوف نناقش في هذا السياق الفكر الاجتماعي في الإسلام من خلال المحورين التاليين:
1- ظهور الإسلام وتأثيره في تطور الفكر الاجتماعي.
2- نماذج من الفكر الاجتماعي الإسلامي.

أولا: ظهور الإسلام وتأثيره في تطور الفكر الاجتماعي:

ينظر الباحثون إلى ظهور الإسلام باعتباره حدثا تاريخيا مهما، لما كان له من أثر واضح في تغيير الواقع الإنساني في ذلك الوقت، وامتد ذلك الأثر قرونا طويلة، حيث أحدث الإسلام تغيرا لافتا في المناطق التي دخلها، وبانتشار الإسلام في العالم، انتشرت مبادئه وقيمه، وهي تلك المبادئ والقيم التي أسهمت في تطور الفكر الإنساني، وقيام حضارة عريقة تجمع بين النواحي الدينية - الأخلاقية، والنواحي الاجتماعية – المادية.

ولقد كان القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المصدرين الأساسيين للفكر الاجتماعي الإسلامي، حيث طرحا العديد من الأفكار والرؤى الحاسمة للعديد من القضايا والمشكلات التي كانت تشغل الواقع الاجتماعي في ذلك الوقت، ومثلت هذه الرؤى قاعدة ثابت للتعامل مع كافة المتغيرات التي واجهت المسلمين على مدار تاريخهم الطويل.

ينطلق الفكر الاجتماعي الإسلامي من تصور الإسلام لله تعالى وتصوره للإنسان والمجتمع، وفلسفة الوجود الإنساني على الأرض، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وأهمية العقل في فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان، وهذا ما سنكشف عنه فيما يلي.

1- التوحيد جوهر العقيدة الإسلامية:

يمثل التوحيد في التصور الإسلامي ذروة ما بلغته البشرية في مسيرتها بصدد تطور العقيدة، فهو لم يخلص العرب من الوثنية فحسب، وإنما عدل تعديلا جوهريا في التصورين اليهودي والمسيحي بصدد الألوهية: الاعتقاد اليهودي في إله يستوي مع البشر في صفاته الجسمية والنفسية بما يعرف بالتشبيه والتجسـيم، والتصـور المسـيحي الذي يضفي الألوهية على إنسان. فجاء التصور الإسلامي توحيدا خالصا لله في الذات والصفات، وتفهم ذات الله وصفاته في إطار قوله تعالى ( ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير) لقد كان التصور الإسلامي لله تعالى وسطا بين التصورين، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (البقرة 143) ومع ارتقاء الاعتقاد كان لابد أن يرتقي فكر الإنسان، ومن ثم ترتقي الحضارة.

إن جوهر التوحيد وفق التصور الإسلامي يعني الإيمان بالله : الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه، لكونه خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم ، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم ، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين – الإنس والجن - كما قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أٌريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الذاريات : 56-58، وقال أيضا: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون(22) سورة البقرة.

جاء الإســلام – إذن - بعقيـدة جديدة، يجتمع إليها العقل والقلب جميعا، تصحح ما تردى فيه الناس من أخطاء في فهم الرسالات والعقائد السابقة، كان الناس بحاجة إلى دين يؤكد وجود الله، وأنه خالق الخلق، و أنه الكامل المتفرد بالكمـال، بيده الأمـر وهوعلى كل شيئ قدير، ويؤكد على وحدانية الله وتنزيهه توكيدا يقضي على عقابيل التعـدد في تصور الإله، حتى لا ينزلق الناس إلى التجسيم الذي طالما وقعوا فيه بعد كل دعوة للتوحيد بســبب غلبة الحس عليهم.

وهكذا يؤسس الإسلام قواعد العقيدة الصحيحة التي تمثل حجر الأساس لحياة الإنسان في الأرض، لكي يكون خليفة فيها، يعبد الله في هذه الأرض ويعمرها ، ويؤسس فيها ما يشـــاء من نظم اجتماعية وسياسـية واقتصادية.

2- تصور الإسلام لفلسفة الوجود الإنساني:

فيما يتعلق بتصور الإسلام لفلسفة الوجود الإنساني، نلاحظ أن الإسلام قد طرح تصورا مغايرا للمسيحية سـواء بصدد فلسفة الحياة على الأرض أم بصدد المثل الأعلى للإنسان، فلم يكن نزول آدم إلى الأرض عقوبة على خطيئة، وإنما ليكون خليفة في الأرض دون الملائكـة،:’وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة’ ســـورة البقرة 30، ورفض الإسلام حياة الرهبنة، ليستبدل بها عمارة الأرض:’ هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها’ سورة هود 61, فالمثل الأعلى للمسلم هو العالم العامل بعد أن كان الراهب الناسك.

رفض الإسلام عقيدة الخطيئة الأولى، واعتبرها فكرة غير عادلة، فكيف يحاسب الأبناء على خطأ ارتكبه أبوهم، وكيف لله بجلاله وعظمته أن ينزل من عليائه ويجعل نفسه ندا لآدم ذلك المخلوق الضعيف، ألا يملك بجلالـه وعفوه ورحمته ومغفرته أن يسامح ذلك المخلوق بكلمة واحدة؟

إن آدم ( القرآني) هو الإنسان الذي أخطأ بعصيان الأمر الإلهي، ثم أدرك خطأه وتاب أمام الله بمعونة من الله:( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37، فليس ثمة نقمة إلهية تجاه البشر، وليس ثمة خطيئة أزلية ارتكبها آدم وورثها بنوه من بعده؛ لأن ذرية آدم من عموم البشر، لم يشهدوا الخلق الأول ولم يعصوا الأمر الإلهي، ومن ثم لاتجوز محاسبتهم على ما لم يرتكبوه، حسبما تنص الآية القرآنية:( ولا تزر وازرة وزر أخرى) سورة الأنعام 164،وسورة الإسراء 15،وسورة فاطر 18، وسورة الزمر 7.

والحقيقة أن خلافة الإنسان على الأرض، ورفض فكرة الخطيئة الأولى - تعني – وفق التصور الإسلامي - أمرين:
الأول: المكانة المرموقة للإنســان الذي اجتمعت فيــه على حد تعبير ابن عربي (كمالات الوجـــود كلها الروحية والفكرية والمادية، بما لم يجتمع لمخـلوق آخر حتى الملائكة) ، الثاني: أن الخلافة تقتضي أن يفوض الإله – بمشـيئته المطلقة – للإنسان الحرية من أجل عمارة الأرض، بعد أن علمه – دون سائر ملائكته – الأسماء كلها ، وبالعلم اكتشف الإنسان الكون، وهكذا أشـــاع الإسلام نظرة للحياة متفائلة، بديلا عن التصور اللازم عن الخطيئة الأصلية في المسيحية.

و هكذا كانت نظرة الإسلام للحياة على الأرض بأنها ليست عقوبة على جـريمة، مع مـا يرتبط بمفهوم العقوبة من قسوة وضيق وكآبة، وإنما الحياة على الأرض مليئة بالغبطة والسـعادة في حدود المنهج الإســلامي الإنساني، ولكي تكتمل السعادة في الحياة الدنيا لابد أن يزود الإنسـان بالملكات والقدرات التي تؤهله للعيش والتفاعل والإنجاز وأهم تلك الملكات وأعظمها هو العقل.

لقد كان الإسلام ثورة عالمية عقيدية واقتصادية واجتماعية، وفكرية أيضا، وكان من البدهي أن يأتي بتصورللحياة و للتاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله، وبمعنى آخر اكتسب الوجود الإنساني قيمة أفضل مما انطوت عليه اليهودية بنزعنها العنصرية الضـــيقة، والمسيحية التي ترى في الحياة الدنيا قنطرة عبور للأخرة ليس إلا.

وليس أدل على تبجيل الإسلام للواقع الإنساني المعيش، من اعتبار السلوك البشري إبان الحياة الدنيا هو المدخل الأساسي للحياة الأخرى، قال تعالى ‘: ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره’ سورة الزلزلة 7 -8 ، كذا دعوته الصريحة لإعمال العقل في تدبيرشئون الخلق دون حدود،(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت 20 هذا فضلا عن تحديد مسئولية البشر وحرية إرادتهم فيما يصنعون، بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان، وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق.

لم يقدم الإسلام هذا التصور الجديد للإنسان فحسب، بل سخر الله له جميع مخلوقاته في البر والبحر، وبذلك تهيأت له أسباب التفوق والتمكن في حدود قدراته وطاقاته العقلية والبدنية، وقد لفت القرآن الكريم في آيات كثيرة نظر المسلم إلى ظواهر الكون طالبا منه النظر والتدبر:(الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) و(واعتبروا يا أولي الأبصار) و (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) و ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) والنظر يؤدي للعلم ، وبالعلم تنشأ الحضارات.

بعد كل ذلك آثار الإسلام كل ما يستثير همة المسلم ويفجر طاقاته؛ ليتوفر تحد كاف لإثارة مواهبه وقدراته، إذ لا تتقدم الحضارة إلا استجابة من الإنسان لتحد يستثير الهمم ويفجر الطاقات الروحية والفكرية والمادية فيه. وهكذا بعد أن كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه بالعقل ، وبعد أن سخر له كل ما في الكون، وجعله خليفة، آثر الإنسان أن يخوض التجربة بنفسه، فحمل ما أبت السموات والأرض والجبال أن تحمله إشفاقا – كناية عن عظم ما أقبل عليه الإنسان – في التصور الإسلامي، كلفه الله بتكاليف عقلية وشــرعية بعد أن منحه الحرية. فإن أضيف إلى ذلك عوامل جغرافية وأخرى تاريخية، تجمعت بذلك عوامل التحدي والاستثارة، مع أسباب الإيمان والقدوة الحسنة في شخص النبي الكريم – عليه السلام – تتكاتف هذه جميعا وتتعاضد لقيام حضارة عقب ظهور الإسلام.

في إطار هذه الحضارة، ظهر الفكر الاجتماعي نابعا – كما أسلفنا – من العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد، ومرتبطا بالقيم والأخلاق المنبثقة من تلك العقيدة، والتي تجلت من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وهما المصدران الأساسيان للفكر الإسلامي، ومنه بالطبع الفكر الاجتماعي.

3- العقل مناط التكليف والتشريف أيضا:

لقد جعل الإســلام العقل للدين أصلا، وللدنيا عمادا، فعلق الدين الصحيح على كمال العقل، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، حتى أصبح العقل في الإســلام ينبوع الفضائل والآداب، ولولا ما جاء في القرآن الكريم والحـديث الشـريف من حض على التفكير والعلم لما رأينا هنـاك فرقـا تدعو إلى الاعتمـاد على العقل في تدبير الحياة الإنسـانيـة كالمعتزلة، الذين قالوا بالتوحيـد والعـدل، والوعـد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذهبـوا إلى أن العقل نور في القلب يعرف الحـق من الباطل، والخير من الشر، والحسن من القبيح.وكعلماء الكلام الذين سلموا أولا بصحة العقائد تسليم مؤمن بها من الشرع، ثم حاولوا دعمها بالأدلة العقلية.

إن الإنسان في التصور الإسلامي - كما بينا في موضع سابق - كائن مكلف (بفتح اللام) استخلفه الله لتعمير الأرض، وزوده بكل الإمكانيات التي تســاعده على القيام بهذه المهمة وتيسرها له، فمنحه العقل ليميز بين الخير والشر، ومنحه قبل ذلك القدرة والاستطاعة ليتمكن من تنفيذ أوامر الله ومن اجتناب نواهيه، والعقل بدون القدرة والاستطاعة لا فاعلية له، لأنه يحتاج إلى القدرة على الفعل لكي يتوصل للمعرفة، وقدرة العقل على الفعل ليست إلا قدرته على الاستدلال والانتقال من مستوى المعرفة البدهية إلى مستويات معرفية أعقد عن طريق القياس والنظر في الأدلة، هذا النظر في الأدلة فعل ذهني لا يتحقق إلا بالاستطاعة والقدرة، وهذا ما يعبر عنه الجاحظ بقوله: ‘إن الفرق بين الإنسان والبهيمة والإنسان والسبع والحشرة، والذي سير الإنسان إلى استحقاق قوله تعالى (وسخر لكم ما في السوات وما في الأرض جميعا منه) (الجاثية 13) ليس هو الصورة، وأنه خُلق من نطفة، و لا أن أباه خُلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال مجموعة في البله والمجانين، والأطفال والمنقوصين، والفرق إنما هو في الاستطاعة والتمكين، وفي وجود الاستطاعة وجود للعقل والمعرفة.

إن العقل في نظر علماء الكلام والفلاسفة المسلمين هو الوسيلة التي يتعرف بها الإنسان على الكون من حوله، وهو الوسيلة التي يعقل بها الأشياء ، فيتأمل هذا العالم الظاهر بجزئياته المتعددة، وعن طريق هذا التأمل والتفكر يصل إلى ما في بناء العالم من نظام، وإلى ما وراءه من حكمة، ويصل من ثم إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وأنه مفارق لكل صفات هذا العالم ومنزه عنها، وهذه المعرفة العقلية تصل إلى ضرورة شكر المنعم المتفضل بطريقة ما.

هذا هو تصور المعتزلة والفلاسفة لحركة العقل المعرفية في تصاعدها من جزئيات العالم المدرك الحسي وصولا إلى الكليات العقلية والمفاهيم المجردة، ولا تكتمل جوانب المعرفة إلا بالعمل الذي يتطلب القدرة والاستطاعة، وينتهي بالإنسان إلى النجاة من العقاب والفوز بالنعيم الدائم في جنات الخلد عند المعتزلة، أو في خلود النفس عند الفلاسفة. هكذا وصل حي بن يقظان عند ابن طفيل للمعرفة والعمل بعقله المجرد، وتأمله الخالص دون أن يعرف لغة من اللغات أو يتواصل مع غيره من البشر بأية وسيلة من وسائل الاتصال. وهكذا يتصور المعتزلة أن التكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، وأن المعرفة العقلية شرط لفهم الشرع، وهو ما عبروا عنه بأسبقية العقل على النقل.

4- رؤية الإسلام لبعض القضايا الاجتماعية العامة:

وردت في القرآن الكريم والأثر النبوي الشريف إشارات عديدة تكشف عن العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالواقع الاجتماعي بتجلياته المتنوعة، وتوضح رؤية الإسلام وتصوره للعديد من القضايا الإنسانية، وتبين منهج الإسلام في التغير الاجتماعي، ويمكن توضيح ذلك ببعض الأمثلة البسيطة والعاجلة فيما يلي:

1- الأصل الإنساني الواحد وتنوع الأمم والشعوب: يؤكد الإسلام على أن البشرية تنتمي لأصل واحد وهو آدم عليه السلام، ومع التطور البشري حدث تنوع فائق في مختلف جوانب حياة الإنسان، فنشأ العديد من الشعوب والأمم، وتطورت اللغات واللهجات، وتنوعت الثقافات والحضارات، وتعددت العادات والتاليد وأساليب الحياة. قال تعالى في صدر سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) وجاء في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) وبناء على ذلك رفع الإسلام مبادئ وقيم إنسانية رفيعة كالحرية والعدالة، فلقد أكد الإسلام دوما على حرية الفكر والعقيدة والعمل، وثمة إلحاح متواصل على حرية العقيدة، كما جاء في سورة الكهف:(ول الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وفيما يتعلق بالعدالة، رفع الإسلام راية المساواة بين البشر على أساس أصلهم الواحد، ولا تمييز بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الطبقة أو السلالة، بل الأساس هو تقوى الله والعمل الصالح، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، والتقوى ترتكز أساسا على ترجمة الإيمان لعمل صالح.

2- طرح الإسلام العديد من الأفكار والرؤى حول النظم والظواهر الاجتماعية المختلفة كالأسرة والزواج واللغة والطلاق والاقتصاد والسياسة والأخلاق، وقد خلفت تلك الأفكار فكرا اجتماعيا منظما تمثل في ظهور منظومة من العلوم المتقنة كعلم الفقه، وعلم الكلام، وعلم التفسير والحديث، كما برزت العديد من المذاهب والفرق الفكرية التي تباينت في مناقشة قضايا اجتماعية وعقدية كالعدل والتوحيد وعلاقة الخالق بالمخلوق وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

3- ألمح الإسلام إلى أن الظواهر الإنسانية – كالزواج والأسرة واللغة والثقافة تعد آيات من آيات الله في الكون، التي يجب على الإنسان أن يتفكر فيها ويدرسها بطرية منهجية ليعلم قدرة الله وفضله على البشر، فهذه الظواهر لا تقل في أهميتها وإعجازها عن الظواهر الطبيعية كالشمس والقمر والكواكب والبرق والرعد والأمطار، قال تعالى في سورة الروم: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليهاوجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (20) ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (21) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون(22).

4- طرح الإسلام منهجا في التغير الاجتماعي يرتكز على تغيير الإنسان لذاته من الداخل، من خلال تنمية ذاته ورفع قدراته وإمكانياته وتعديل مفاهيمه، قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد 11، وقال أيضا (ذلك أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الأنفال 53.

5- لفت القرآن الكريم النظر إلى قصص الأمم والشعوب السابقة على الإسلام، وكشف عن السمات الاجتماعية والثقافية لهذه الشعوب، كما رصد أهم الأمراض الاجتماعية التي كانت سائدة بينهم، وأبرز القرآن الكريم عملية الصراع الاجتماعي والفكري بين الحق والباطل، وتناول بالتفصيل دور الأنبياء والرسل في إحداث تغيرات اجتماعية هائلة في مجتمعاتهم، وبيًن الصعوبات والتحديات التي كانت تواجههم، خاصة التمسك التراث والعادات القديمة المتوارثة، والتي تجسدها مقولة: (هذا ما وجدنا عليه آبائنا).

استنادا لكل القضايا السابقة برزت مجموعة من المفكرين الاجتماعيين المسلمين، أسسوا بعض النظريات والرؤى الاجتماعية، كانت إرهاصات مبكرة لنشأة علم الاجتماع، بل إن عبد الرحمان بن خلدون يعد - في نظر كثير من الباحثين المحايدين – هو المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع، وسوف نتناول في المقال القادم نماذج من الفكر الاجتماعي التي طرحها بعض العلماء المسلمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المراجع:
- أحمد محمود صبحي وصفاء عبد السلام(1999) في فلسفة الحضارة (اليونانية – الإسلامية – الغربية) دار النهضة العربية، بيروت.
- بكر مصباح تنيرة، تطور الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى، جامعة قار يونس، بنغازي.
- جميل صليبا(1989) تاريخ الفلسفة العربية، الشركة العالمية للكتاب، بيروت.
- عبد المنعم الحفني (1999 ) موســوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول، الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة.
- محمود إسماعيل(2000) سوسيولوجيا الفكر الإسلامي: الجزء الأول طور التكوين،الطبعة السادسة، الانتشار العربي، بيروت.
- نصر حامد أبو زيد (2001) إشكاليات القراءة وآليات التأويل،الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
- نظمي لوقا(1959) محمد: الرسالة والرسول، الطبعة الثانية، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
- يوسف زيدان (2010) اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، الطبعة الثانية، مكتبة الشروق، القاهرة.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

علم الإجتماع، علم الإجتماع في الإسلام، إبن خلدون،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 25-11-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

 مشاركات الكاتب(ة) بموقعنا

  موجز تاريخ علم الاجتماع الطبي
  بعض جوانب الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/2
  عن محمد الرسالة والرسول: هكذا تكلم نظمي لوقا
  الثقافة والحضارة هل هما مترادفان؟
  ختان الإناث : رؤية سوسيولوجية موجزة (*)
  الفكر الاجتماعي في الإســلام 1/2
  رحيل فاطمة المرنيسي: الآن سكتت شهرزاد السوسيولوجيا العربية
  (الهوسبيس): فكرة إسلامية وحركة حداثية وقيمة أخلاقية
  في جدلية العلاقة بين النص الديني والواقع: قراءة في مشكلة الطلاق عند الأقباط
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 6/6
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 5
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله - 4
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 3
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 2
  مع عبد الرحمن بن خلدون فى ذكرى رحيله – 1
  في نظرية رأس المال الاجتماعي 2 (*)
  في نظرية رأس المال الاجتماعي 1
  أخطاء يجب أن تصحح في الفكر الإسلامي:المرأة لم تخلق من ضلع أعوج
  مرض الالتهاب الكبدي: القاتل الصامت
  سلوك المرض: بحث مختصر في علم الاجتماع الطبي 2 / النماذج النظرية المفسرة
  في ذكرى رحيل محمد جسوس: سقراط السوسيولوجيا العربية
  ماذا فعل الرجال بكلمات الله؟
  المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها 4/4 (*)
  المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها 4/3
  ثانياً: مفهوم المعرفة العلمية ومكوناتها: (*)
  المعرفة العلمية: مفهومها، بنائُها وسماتها 4/1
  التدين بين أداء الشعائر وبناء الضمائر 2/2
  الجسد الأنثوي بين المعتقد الشعبي والمعتقد الديني: رؤية أنثروبولوجية
  سلوك المرض: بحث موجز في علم الاجتماع الطبي
  التدين بين أداء الشعائر وبناء الضمائر 1/2

أنظر باقي مقالات الكاتب(ة) بموقعنا


شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
سامر أبو رمان ، إياد محمود حسين ، يحيي البوليني، رحاب اسعد بيوض التميمي، رشيد السيد أحمد، الهيثم زعفان، أنس الشابي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، صالح النعامي ، سيد السباعي، محمد علي العقربي، صباح الموسوي ، حاتم الصولي، مجدى داود، رافع القارصي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، عبد الرزاق قيراط ، إسراء أبو رمان، د- جابر قميحة، مصطفى منيغ، علي عبد العال، بيلسان قيصر، الهادي المثلوثي، د- محمد رحال، د. طارق عبد الحليم، محمود فاروق سيد شعبان، أحمد الحباسي، صفاء العراقي، محمد شمام ، وائل بنجدو، فتحـي قاره بيبـان، د - محمد بن موسى الشريف ، الناصر الرقيق، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أحمد النعيمي، د- محمود علي عريقات، حميدة الطيلوش، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عمار غيلوفي، طارق خفاجي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، نادية سعد، المولدي الفرجاني، د. عبد الآله المالكي، جاسم الرصيف، أحمد ملحم، رضا الدبّابي، د. أحمد بشير، د.محمد فتحي عبد العال، أبو سمية، رمضان حينوني، إيمى الأشقر، ضحى عبد الرحمن، أحمد بوادي، صفاء العربي، خالد الجاف ، د - المنجي الكعبي، العادل السمعلي، يزيد بن الحسين، تونسي، حسن عثمان، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمود طرشوبي، محمد عمر غرس الله، علي الكاش، رافد العزاوي، ياسين أحمد، كريم السليتي، سامح لطف الله، سليمان أحمد أبو ستة، عواطف منصور، عبد الله الفقير، المولدي اليوسفي، د. خالد الطراولي ، عزيز العرباوي، ماهر عدنان قنديل، حسن الطرابلسي، فوزي مسعود ، حسني إبراهيم عبد العظيم، د- هاني ابوالفتوح، محمد اسعد بيوض التميمي، د. عادل محمد عايش الأسطل، محمد يحي، أشرف إبراهيم حجاج، عبد العزيز كحيل، د. صلاح عودة الله ، د - عادل رضا، محمد العيادي، صلاح المختار، سعود السبعاني، مصطفي زهران، عراق المطيري، خبَّاب بن مروان الحمد، سلام الشماع، فهمي شراب، منجي باكير، صلاح الحريري، محرر "بوابتي"، طلال قسومي، د - الضاوي خوالدية، سلوى المغربي، د - شاكر الحوكي ، عبد الغني مزوز، محمد الياسين، محمود سلطان، فتحي العابد، عمر غازي، د - صالح المازقي، سفيان عبد الكافي، مراد قميزة، كريم فارق، محمد أحمد عزوز، د - مصطفى فهمي، محمد الطرابلسي، فتحي الزغل، عبد الله زيدان، د. أحمد محمد سليمان، أ.د. مصطفى رجب، د - محمد بنيعيش،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز