بعض جوانب الفكر الاجتماعي في الإسلام 2/2
د. حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 5966
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثانيا: نماذج من تطور الفكر الاجتماعي الإسلامي:
أسهمت مجموعة من المفكرين المسلمين في صياغة نظرية اجتماعية إسلامية، وسوف نعرض في هذا الإطار لنموذجين فقط من المفكرين المسلمين، وهما الفارابي، وابن خلدون.
1- الفارابي: (870 – 950م):
هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي, ولد في مدينة ‘فاراب’ في إقليم خراسان الفارسي (أو التركي) حوالي عام 870, وتوفي في دمشق عام 950م.
لا يُعرف شئ كثير عن طفولته وشبابه, فلم يترجم لنفسه, ولم يترجم له تلاميذه، وقد عُرف عنه أنه كان فقيراً زاهداً, فلم يهتم بمال ولا مسكن ولا ملبس, وقد استعاض عن متع الدنيا ومباهجها بالتفكير والتأمل والكتابة, وكان الفارابي حاد الذهن, متوقد الذكاء واسع الثقافة, أجاد معظم علوم عصره وعرف عدة لغات من بينها اليونانية.
يقول ابن خلكان: ‘الفارابي أعظم فلاسفة المسلمين علي الإطلاق’ فقد أنشأ مذهباً فلسفياً كاملاً, وهو الذي أخذ عنه ابن سينا وعده أستاذاً له, كما أخذ عنه ابن رشد وغيره من فلاسفة العرب, وقد لقب بحق’ المعلم الثاني’ على اعتبار أن أرسطو هو ‘المعلم الأول’.
وقد نشأ الفارابي في مدينة فاراب, ثم خرج منها وانتقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد, ولم يكن يعرف اللغة العربية, فتعلمها وأتقنها غاية الإتقان, ثم اشتغل بعلوم الحكمة والفلسفة, وقرأ كل كتب أرسطو, وكان ماهراً في استخراج معانيها, والوقوف على أغراضها, ويقال إن كتاب النفس لأرسطو قد وُجد ومكتوب عليه بخط أبي نصر الفارابي ‘ إني قرأت هذا الكتاب مائه مرة’ وكان يقول لقد قرأت كتاب السماع الطبيعي لأرسطو طاليس الحكيم أربعين مرة, وأري أنى محتاج إلى معاودة قراءته’.
ومكث الفارابي في بغداد منكباً على الاشتغال بالعلم والتحصيل, وألف معظم كتبه بها , ثم انتقل إلي مصر وبقي بها فترة قصيرة, ثم توجه إلى دمشق وبقي فيها حتى وفاته, وكانت دمشق حينئذ تحت قيادة سيف الدولة الحمداني.
وللفارابي مؤلفات عديدة , منها شروحاً علي مؤلفات أفلاطون وأرسطو , ومن أشهر كتبه: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو طاليس’ وكتاب تحصيل السعادة, وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة, وكتاب السياسة المدنية, وكتاب الموسيقى الكبير, وإحصاء العلوم.
وسوف نعرض في هذا الإطار أهم رؤاه الاجتماعية التي وردت في كتابه الأشهر (آراء أهل المدينة الفاضلة), وهو واحد من أهم كتبه على الإطلاق. ينقسم الكتاب إل قسمين رئيسين يتشكلان من سبع وثلاثين فصلاً, القسم الأول يتناول مسائل فلسفية متعلقة بالله تعالى وصفاته ونظرية الفيض التي ارتبطت باسمه, وقضايا متعلقة بالإنسان والعقل الإنساني , والإرادة, والعلاقة بين الحس والعقل, أما القسم الثاني فيتعرض لقضايا اجتماعية وسياسية تدور أساساً حول فكرة المدينة الفاضلة وسماتها ومضاداتها من المدن.
ويمكن تحديد أهم الأفكار الاجتماعية للفارابي فيما يلي:
1- يرى الفارابي أن الاجتماع الإنساني ضروري، حيث يرجع نشأة المجتمع الإنساني إإلى حاجة الإنسان إلى الاجتماع في حد ذاته، وهو في ذلك يتفق مع أرسطو في أن انسان مدني بطبعه، يقول في الفصل السادس والعشرين من الكتاب, الذي حمل عنوان ‘القول في احتياج الانسان إلي الاجتماع والتعاون’: (كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يوم بها وحده، بل يحتاج إلى قوم آخرين، يقوم كل واحد منهم بشيئ مما يحتاج إليه). ويؤكد الفارابي أن التعاون الإرادي وليس الغريزي هو أساس هذا الاجتماع، ففي تشبيهه للمدينة بالجسد، يفرق بين تعاون أعضاء الجسد، وتعاون الأفراد ، حيث أن التعاون الاجتماعي لا يصدر عن عوامل فطرية طبيعية، وإنما عن هيئات وملكات فطرية. وعندما يقول الفارابي ( يقوم كل واحد منهم بشئ مما يحتاج إليه) يشير إلى فكرة مهمة , وهي ضرورة تقسيم العمل وتنظيمه مما يؤدي إلي التكامل بين مختلف أعضاء الجسم الاجتماعي الواحد, وإذا كانت المجتمعات الإنسانية كلها قد انبثقت عن الحاجات الطبيعية, فإن هذه المجتمعات تبقي متفاوتة من حيث الكمال والنقض والفضيلة والرذيلة.
2- ويرى الفارابي أن الحاجات الداعية إلى الاجتماع صنفان: مادية وهي حاجات الإنسان في قوامه ( كالغذاء والرعاية الصحية والكساء والحماية) ثم حاجات عقلية ـ روحية , وهي أن يبلغ الإنسان أفضل أوجه اكتماله عن طريق التعلم والهداية والإرشاد إلى الإيمان والخير, وكل ما يحقق إنسانيته, ويسمو بها, ومن الواضح أن الإنسان عاجز عن الوفاء بهذه الحاجات وحده, فكانت الحاجة إلي التعاون أمراً طبيعياً وضرورياً في آن واحد.
3- يقسم الفارابي المجتمعات الإنسانية إلي نوعين:
ـ المجتمعات الكاملة وهي تلك التي تستطيع تعاونها أن توفر من حيث المبدأ جميع ما تحتاج إليه, والمجتمعات الكاملة ليست بالضرورة فاضلة لأن الخير هو نتيجة العمل الإرادي الاختياري, وكذلك الشر إنما يكون بالإرادة والاختيار أيضا. وقد قسم الفارابي المجتمعات الكاملة إلي ثلاثة أصناف
ـ عظمي وهي اجتماع الأمم كلها في المعمورة, أى هي المجتمع الدولي.
ـ وسطي وهي اجتماع أمة في جزء من المعمورة (شعب من الشعوب)
ـ صغري وهي اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة.
ـ أما النوع الثاني فهي المجتمعات غير الكاملة, وهي تلك التى تبقي عاجزة عن الوفاء بكامل احتياجاتها, برغم التعاون بين أعضائها, ويقسم الفارابي المجتمعات غير الكاملة إلي أربع أصناف:
ـ اجتماع أهل القرية, ويري أن القرية هي خادمة للمدينة, بمعني أنها تقدم لها احتياجاتها الزراعية والغذائية وما إليها.
ـ اجتماع أهل المحلة, وهي جزء من القرية.
ـ اجتماع أهل السكة وهي جزء من المحلة.
ـ اجتماع أهل المنزل وهو جزء من اجتماع السكة.
4- ويعتقد الفارابي أن سعادة المرء القصوي وخيره الأفضل يتمان في اجتماع عام يضم البشرية كلها في نظام موحد, وقوانين مشتركة تحت راية الحب والسلام والتعاون, كما أن الاجتماع الفاضل في رأى الفارابي, لا يمكن أن يتم إلا ابتداء من المدينة, وهو بالتالي لا يحصل إلا في الحياة الحضرية.
5- اهتم الفارابي بدراسة المدينة باعتبارها أبسط أشكال المجتمعات الكاملة، التي إذا استقام أمرها أصبحت فاضلة ، وإذا استقام أمر المدن الأخرى استقام أمر الأم، وإذا استقامت الأمم استقامت المعمورة كلها، والمدين الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضائه كلها على إكمال حياة الكائن الحي،وبه عضو رئيس وهو القلب، كذلك لابد للمدينة الفاضلة من يهيمن عليها ويدير شئونها.
6- يعتقد الفارابي أن المدينة الفاضلة هي تلك المدينة القائمة على التعاون بين أفرادها من أجل تحقيق السعادة, وهذه المدينة لها نظام محدد قائم عل أساس التضامن والتكاتف بين أفرادها. ويشبه الفارابي المدينة الفاضلة - كما كرنا - بالجسد التام السليم الذي تتعاون أعضاؤه علي تتميم حياة الكائن الحي وحفظها, وكما أن في البدن أعضاء يخدم بعضها بعضاً, فكذلك في المدينة الفاضلة أفراد يخدم بعضهم بعضاً.
7- وحتى تتحقق المدينة الفاضلة لابد لها من رئيس أول يشبه القلب في الجسم التام الصحيح, ويكون هذا الرئيس هو الأفضل بين أفراد المدينة بفطرته, وصفاته الخاصة, وبتلك التى يشترك فيها مع غيره, ويقوم الرئيس بتنظيم أمور المدينة تنظيماً دقيقاً, ويحدد’ الفارابي’ مراتب الناس في هذه المدينة , حسب قدراتهم الجسدية والعقلية, ويري الفارابي أن المدينة تتكون من هيئات طبيعة إرادية متمايزة ومتكاملة.
8- يتناول الفارابي شخصية رئيس المدينة يؤكد الفارابي أن رئيس المدينة الفاضلة هو الشخص الذي لا يرأسه إنسان آخر, وهو الإمام, وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة, والأمة الفاضلة, والمعمورة الفاضلة. ويري الفارابي أنه ليس في إمكان أى إنسان أن يكون رئيساً, لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون معداً لها بالفطرة، والثاني: أن يكون بالإرادة, أى أن الرئاسة تتم بمواهب فطرية وتوجيه صحيح فالرئيس الأول من أهل الطبائع الفائقة, ومن شروطه أن تستكمل نفسه بالمعقولات, حتى يصير عقلاً ومعقولاً بالفعل, ويري الفارابي أن أعلي درجات العقل الإنساني هو درجة العقال المستفاد, وهي التى يصبح فيها الإنسان قادراً علي الاتصال المباشر بالعقل الفعال (الذات الألهية) فالإنسان الذي حل به العقل الفعال هو الذي يصلح للرئاسة, ومتي أشرف العقل الفعال علي عقله المستفاد يكون حكيماً فيلسوفاً, ويكون نبياً يوحي إليه, وهذا الإنسان الذي اجتمعت فيه خاصتا النبوة والفلسفة هو أكمل مراتب الانسانية وأعلي درجات السعادة.
9- و يعتقد الفارابي أن هذه المرتبة لا يمكن أن تحصل إلا لمن توفرت فيه إثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها, وهي خصال جسدية, وعقلية, وخلقية. فالجسدية هي أن يكون تام الأعضاء, تساعده قواة علي إنجاز الأعمال الخاصة بالرئاسة بسهولة. أما الخصال العقلية فهي:
1ـ جيد الفهم والتصور لكل ما يقال.
2ـ جيد الحفظ لما يراه ويسمعه ويفهمه ويدركه
3ـ جيد الفطنة, ذكياً, لماحاً.
4ـ حسن العبارة, يساعده لسانه علي توضيح ما يقصده.
5ـ محباً للعلم منقاداً له, لا يؤلمه في سبيل تحصيله لغب, ولا يؤذيه كد.
أما الخصال الخلقية فهي:
1ـ غيره شره في المأكول والمشروب والمنكوح, متجنباً اللعب واللهو.
2ـ محباً للصدق وأهله, مبغضاً للكذب وأهله.
3ـ كبير النفس محباً للكرامة تكبر نفسه عن كل ما يشين, فتسمو نفسه إلي الأرفع,
4ـ محباً للعدل وأهله, مبغضا للظلم, سهل الانقياد إلي العدل, صعب الانقياد إلي الظلم.
5ـ قوي العزيمة, جسوراً مقدماً.
6ـ أن يكون الدرهم والدينار وسائرا أعراض الدنيا هينة عنده.
فإذا استحال وجود شخص هذه صفاته في وقت من الأوقات, فلا بد أن تؤخذ الشرائع التى سنها رئيس سابق, ويعهد بتطبيقها إلى رئيس ثان شريطة أن تجمع فيه ست صفات:
1ـ أن يكون حكيماً, لأن الحكمة تبقي الشرط الأهم لكل رئاسة فاضلة.
2ـ أن يكون عالماً حافظاً للشرائع والسنن التى دبرها الرؤساء الأولون للمدينة الفاضلة.
3ـ أن يكون لديه استنباط جيد في عالم يحفظ من السلف فيه شريعة.
4ـ أن يكون له رؤية جيدة, ويتحري في ذلك صلاح حال المدينة.
5ـ أن يكون مرشداً نحو شرائع الأولين, وما تم استنباطه بعدهم.
6ـ أن يكون لديه ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب وذلك أن تكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسية.
فإذا لم يوجد انسان واحد تجتمع فيه هذه الشروط (بل وجد إثنان أحدهما حكيم والآخر فيه الشروط الأخري كاناهما الرئيسين في المدينة, وإذا تفرقت هذه الشروط في جماعة, فكانت الحكمة في واحد والثاني في واحد, والثالث في آخر... إلخ، وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفضل ويجب أن يكون رئيس مجلس الحكم هذا حكيماً لأنه إذا فقد الحكيم من المدينة فلا مفر لها من الفساد والهلاك, ولو توفرت لها باقي الخصال, لأن الحكمة هي الصفة الأساسية التي لا قيام لدولة ولا استمرار لحكم بدونها.
والملاحظ مما سبق أن الفارابي كان أكثر واقعية في تحديد شروط الرئيس الثاني لأنه من الصعوبة البالغة أن تجتمع خصال الرئيس الأول كلها في رجل واحد, ولأن الفارابي إذا كان يقصد بصفات الرئيس الأول أن يكون نبياً ـ بحالة من صفات نظرية وإرادية ـ فإن الزمن الذي عاش فيه الفارابي كان متأخراً عن عصر النبوة, وبالتالى لا يمكن أن يوجد رئيس أول للمدينة الفاضلة.
10- تحدث الفاربي عن مضادات المدينة الفاضلة وهي نماذج مقابلة لها، فالمدينة الفاضلة لا بد أن يلحقها الفساد, فيشز أهلها عن التعاليم القويمة, وينشا فيها فرق وجماعات غير صالحة فتفسرها, وتهدمها وتقيم علي انقاضها مدناً أخري كالمدينة الجاهلة, والفاسقة, والمبدلة, والضالة، وغيرها من
المدن السيئة، ولا يتسم رؤساء هذه المدن بسمات رئيس المدينة الفاضلة.
والواضح أن الفارابي ينطلق في تصوره للمدينة الفاضلة من نظرة فلسفية للمبادئ التى تبني عليها السياسية, وعلي الرغم من مثاليته , فإنه يري أن المدينة الفاضلة مستحيلة التحقيق, أو علي الأقل بعيدة المنال, بسبب ما يتميز به الأفراد والجماعات من مطامع وأنانية, لذلك فإن الفارابي يكتفي بوضع تصور للمدينة الفاضلة, كمجتمع صغير ينعم فيه الفرد بالسعادة والرخاء.
مما سبق يمكن القول إن حديث الفارابي عن المدينة الفاضلة ليس ثمرة عمل سياسي أو بحث اجتماعي بمقدار ما هو نظرة فلسفية في المبادئ التى ينبغي أن تبني عليها السياسة ـ فمن الطبيعي إذن أن يتسم كلام الفارابي بالمثالية، إنه يرسم عن قصد الصورة المثالية التى ينبغي أن تتحقق في الرئاسة وفي المدينة الفاضلة, مع علمه أن المثال يظل مثالاً ولا يمكن أن يتحقق في هذا العالم, وكم مرة نتحدث في مجتمعنا الحاضر عن الشروط المثالية لرئيس الدولة مثلاً, ولا يتحقق منها إلا الحد الأدني, ومع ذلك, فإننا نجد في المدينة الفاضلة مبادئ للاجتماع لا يمكن الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها كضرورة قيام المجتمع علي التعاون والسعي إلي هدف مشترك سام, ومراعاة العدل في توزيع العمل وقيام الرئاسة علي أساس التفوق في العلم والفضيلة دون اعتبار آخر.
ويلتقي الفارابي مع أفلاطون في كثير من آرائه, ويختلف عنه في أمور أخري كشيوعية النساء والأولاد, ويدعو الفارابي لدولة عالمية بينما ينادي أفلاطون بدولة يونانية, وينظم أفلاطون المدينة طبقاً لقوي النفس, بينما يشبه الفارابي مدينته كالجسد التام الصحيح ويتضح تأثر الفارابي بالمجتمع الإسلامي فيجعل رئيسه نبياً إلي جانب كونة فيلسوفاً.
وقد استطاع الفارابي أن يحافظ علي شخصيته المميزة بحيث نشعر عند قراءه المدينة الفاضلة بأن ثمه منطقاً واحداً يشد جميع أجزائها فتبقي متماسكة بعيدة عن صورة التجميع الانتقائي العشوائي. إن مدينة الفارابي هي مدينة الأخيار الصالحين, الذين يحكمهم فلاسفة الحكماء أو أنبياء مرسلون يستمدون مبادئ علمهم وقواعد عملهم مما يفيضه العقل الفعال عليهم من الصور الروحانية, وهي مدينة خيالية بعيدة عن الحياة والتجربة, ومع ذلك فقد تأثر الفارابي بشروط الحياة الاجتماعية في عصره, وخاصة في قوله بجواز الاشتراك في الرئاسة, فقد كان هذا الرأى بمثابة حل لمظاهر الاستبداد السياسي التى عاصرها الفارابي.
2- ابن خلدون (1332 – 1406)
على الرغم من النشأة الأوربية (الأكاديمية) الحديثة لعلم الاجتماع، إلا أن جذوره الفكرية تعود لما قبل ذلك بحوالي خمسة قرون، حينما ظهر العالم والمؤرخ العربي عبد الرحمن بن خلدون (1332 – 1406) ووضع البذرة الأولى لهذا العلم. فالواقع أن البداية الحقيقية لعلم الاجتماع كانت في القرن الرابع عشر الميلادي - الثامن الهجري - على يد العلامة عبد الرحمن بن خلدون, وقد اعترف بذلك العديد من كبار المفكرين وعلماء الاجتماع في الغرب من أمثال أرنولد توينبي، وروبرت فلنت، وستيفانو كولوزيو، و’بيترم سروكن’ B. Sorokin’ وهيوارد بيكر’ H. Becker ‘وجاستون بوتول’ G. Botolleوغيرهم.
فقد نشر استيفانو كولوزيو Stefano Colosio سنة ١٩١٤ دراسة عن ابن خلدون بعنوان إسهام في دراسة ابن خلدون بمجلة العالم الإسلامي التي تصدر في باريس باللغة الفرنسية جاء فيها: ليس لأحد أن ينكر أن ابن خلدون اكتشف مناطق مجهولة في علم الاجتماع. لقد سبق مكيافيللي ومونتسكيو وفيكو إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي..... ويقول الفرنسي (دي بور) في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام: في مقدمة ابن خلدون كثير من الملاحظات النفسية والسياسية الدقيقة، وهي في جملتهاعمل عظيم مبتكر. أن ابن خلدون أول من حاول أن يربط بين تطور الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة مع حسن الإدراك لمسائل البحث وتقريرها مؤيدة بالأدلة المقنعة، وهو يرى أن للمدينة وللعمران البشري قوانين ثابتة يسير عليهاكل منهما في تطوره.
وابن خلدون هو ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن خالد بن عثمان الحضرمي, ولد في تونس عام 1332م/732هـ لأسرة أندلسية عريقة تعود إلى أصول يمنية في حضرموت, وينتهي نسبها إلي الصحابي الجليل ‘ وائل بن حجر’ رضي الله عنه، الذي كان من كبار الصحابة وتولى تعليم القرآن ونشر الإسلام في اليمن.
وتنقل ابن خلدون بين تونس والجزائر والمغرب والأندلس إلى أن استقر بمصر، وحاز فيها على مكانة علمية سامية، ونال احترام وتقدير المصريين، وتتلمذ على يديه كثير من العلماء النابغين أبرزهم المؤرخ المعروف تقي الدين المقريزي، ومات ابن خلدون في عام 1406م/808 هـ، ودُفن بمقابر الصوفية بالقاهرة.
جاءت أفكار ابن خلدون الاجتماعية والتاريخية في كتابه الشهير المعنون (كتاب العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) وقد اشتهر الكتاب في الأوساط العلمية بتاريخ ابن خلدون.
وكتاب العِبر سِفر ضخم مكون من مقدمة وثلاثة كتب، وذلك على النحو التالي:
- مقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين.
- الكتاب الأول في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
- الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة.
- الكتاب الثالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة من المُلك والدول.
وتشتهر المقدمة والكتاب الأول بين الناس بمقدمة ابن خلدون، حيث وضع في هذا الكتاب أسس علم العمران وفلسفة التاريخ، وقد تضمن الكتاب ستة أبواب يتضمن كل باب عددا من الفصول ترتيبها كالتالي:
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض، وفيه ست مقدمات: الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري، الثانية والثالثة والرابعة والخامسة في قسط العمران من الأرض، وفي الأقاليم، وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم، وشؤون معاشهم، والسادسة في الوحي والرؤيا، وفي أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة، وفي حقيقة النبوة والكهانة والعرافة.
الباب الثاني: في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية، وما يعرض في ذلك من الأحوال. (ويتضمن 29 فصلا)
الباب الثالث: في الدول والخلافــة والملك وذكر المراتب السلطانية، وما يعرض في ذلك من الأحوال. ( ويتكون من 54 فصلا)
الباب الرابع: في العمران الحضري والبلدان والأمصار، وما يعرض في ذلك من الأحوال. ( ويتشكل من 22 فصلا)
الباب الخامس: في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه، وما يعرض في ذلك من الأحوال. (ويحتوي على 33 فصلا)
الباب السادس: في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال. (ويشتمل على 60فصلا)
لقد أسس ابن خلدون علم الاجتماع، وكان على وعي بأنه أسس نظاما معرفيا جديدا لم يسبقه إليه أحد من العالمين، وحدد موضوعه ومنهجه وسماه ‘علم العمران البشري’ يقول في ذلك: ‘ وكأن هذا علم مستقل بنفسه, فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني, وذو مسائل, وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى. وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً’. (المقدمة:62)
ثم يحدد أهمية علمه الجديد، وعظم فائدته واختلافه عن بعض علوم عصره فيذكر:(وأعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص. وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في إقناع الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه. ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية؛ إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه. فقد خالف موضـوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشـبهانه). (المقدمة:62 - 63)
ويتحدث عن ريادته في تأسيس علمه الوليد فيقول: وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا، فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون؛ وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل. (المقدمة:63)
ويختتم كلامه في هذا الشأن بكلام يعكس تواضع العلماء فيقول: ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره، وجهينة خبره. فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية. وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق إصلاحه، ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق. والله يهدي بنوره من يشاء. (المقدمة 66)
إن ابن خلدون قد وضع حجر الأساس لعلم الاجتماع في القرن الرابع عشر الميلادي، الثامن الهجري، غير أن أحداً لم يأت بعده ليكمل ما بدأه، وبالتالي فقد مات علم الاجتماع العربي في مهده في اليوم الذي دُفن فيه ابن خلدون.
13-12-2016
|